مبادرة شعبية سورية سوف تدخل التاريخ وتبقى في الذاكرة “كل شيء بليرة”
<!--<!--
“رأي اليوم” كمال خلف* كاتب وإعلامي فلسطيني
كثيرة ومتسارعة هي الأحداث في الوقت الراهن، لكن قليل منها فقط يذكره المؤرخون في كتبهم وتعود الأجيال لتعثر عليها بعد عقود من الزمن خاصة تلك المرتبطة بنبض الشعوب، ولعل مسار الحرب الراهنة في سورية اشتمل على مفاصل في سياق أحداث يومية متشابكة وغزيرة، وفي تاريخ سوريا القديم المعاصر أحدث رغم مرور الزمن الغابر عليها إلا أنها مازلت في الذاكرة الشعبية كما هي في بطون الكتب.
منها مثلا تاريخ دخول الكهرباء إلى مدينة دمشق عام 1907 وكان أول مكان دخل إليه التيار الكهربائي هو مسجد بني أمية الكبير، عن طريق شركة بلجيكية، وفي هذا التاريخ لم تكن ولاية لوس أنجلس قد وصلت إليها الكهرباء بعد، حسب ما ذكر المؤرخون. وإنّ أول أغنية وأول ظهور للسيدة فيروز كانت في سينما دمشق في شباط عام 1952 بحضور رئيس الجمهورية السورية آن ذاك العقيد أديب الشيشكلي. وتذكر كتب التاريخ وحكايات الأجداد مجاعة سورية عام 1915، وكيف غطى الجراد قرص الشمس وأكل المحاصيل في وقت الحرب العالمية الأولى.
ومازلت أسطورة يوم الأربعاء ترافق أبناء مدينة حمص وسط سورية إلى اليوم وتنسبها بعض كتب التراث والتاريخ الشعبي المتداول إلى زمن هجوم جيش المغول على سورية حيث شعر سكان مدينة حمص بالخطر المغولي بعد المجازر التي ارتكبها في حلب، وكان شائعا حسب ما ذكر في ذاك الوقت أسطورة عدوى الجنون لذلك كانت الناس تحجر على المجانين وتهرب منهم.
لذلك اجتمع وجهاء واعيان حمص، وقرروا أن يقوموا بخطة غاية في الذكاء لحماية مدينتهم وهي أن يتظاهر سكان هذه المدينة بالجنون عند وصول جيش المغول، بالفعل وصل الجيش الغازي في يوم أربعاء وعند مشاهدتهم حال المدينة تجنبوا دخولها وأكملوا نحو دمشق.
ومازلت الذاكرة الشعبية، وصفحات التاريخ تذكر الموقف الشريف لتجار حلب بعد حصار الحلفاء لمصرفية جبل لبنان”لبنان الصغير”، ورغم الحالة الاقتصادية المزرية في حلب، فقد هب تجارها لنجدة إخوتهم في لبنان واستطاعوا تهريب القمح والخبز، وقاموا بشراء كل محصول العنب والتفاح الذي كان كاسدا بسبب الحصار.
تلك أمثلة نوردها للقول أن التاريخ يراقب حركة الشعوب ليسجل ما يستحق أن تذكره الأجيال، سواء كان ذلك حدثا مشرفا أو مخزيا. ومناسبة العودة للتاريخ في هذه المساحة هو ما نعتقد أنه اليوم سيدخل سجل التاريخ والذاكرة الشعبية، وسط أحداث جسيمة مر بها هذا البلد خاصة خلال سنوات الحرب التسعة الماضية. ونتحدث هنا عن مبادرة شعبية أهلية ولدت من رحم الحصار المفروض على سورية، نعتقد أنها ستدخل في أوراق من سيؤرخ بأمانة لمحنة الشعب السوري خلال سنوات هذه الحرب. حيث تعتبر هذه الأيام من أشد الأيام قسوة على الشعب السوري بعد أن قررت الإدارة الأمريكية معاقبة شعب بأكمله لأنه لم يتجاوب مع مشاريعها، وكما هي السياسية الأمريكية تجاه منطقتنا على الدوام، وكما فعلت في تجويع شعب العراق على مدار 13 عاما، ومات تحت وطأة هذا الحصار الآلاف معظمهم من الأطفال بسبب الجوع والمرض قبل أن تغزو العراق وتقتل مليونين عراقي، وها هي تكرر التجربة اليوم مع الشعب السوري، رغم أن ذاكرتنا لم تمحو بعد عذابات شعب العراق.
في سورية اليوم تنهار العملة الوطنية تحت شراسة وجشع الدولار، وتحت حصار خانق للشعب السوري، يشارك فيه أشقاؤها العرب، بعد سنوات من شحن المتطرفين إليها، وتسليحهم ليدمروا كل شيء. ويراهن ساكن البيت الأبيض على انفجار تظاهرات الجوع والفقر لإرباك النظام السياسي وحلفائه، والتدخل هذه المرة من بوابة دعم مطالب المحتجين. أي قتل القتيل والسير في جنازته. لا نستطيع التقدير إلى أين تمضي هذه السياسة وإلى ماذا ستفضي. فالشعب السوري يشرب كأس السم منذ تسع سنوات، ولكنه لم يمت.
اللافت هو انتشار روح من التحدي بدلا من الخضوع لدى فئات واسعة من الشعب السوري بدأنا نلمسها في مبادرة شعبية انطلقت بشكل صغير ومحدود على صفحات التواصل الاجتماعي وتحولت بأربعة أيام فقط إلى ظاهرة وطنية جامعة انتشرت في عموم سورية، لتشكل حدثا سيذكره الشعب السوري وأجياله المتعاقبة. رغم محاولات تسخيفها وإحباط الداعين لها.
وتتلخص المبادرة في إطلاق حملة لبيع المنتجات بليرة سورية واحدة،”ألف ليرة تعادل دولارا”. وبالفعل وبشكل مثير للإعجاب تجاوب تجار سورية في حلب وحمص وحماه والساحل ودمشق والسويداء مع هذه المبادرة الأهلية، وبدأت المحلات والمتاجر تعلن عن بيع منتجاتها” بليرة واحدة ” يعني عمليا مجانا.
ولا شك أن هكذا مبادرة بمثابة إنقاذ للفقراء والمعدمين في ظروف غاية في السوء. ونوعا من التكافل الاجتماعي الذي ولد أجواء محبة وتعاطف بين أبناء سورية، بعد سنوات من طغيان لغة التفريق والتنافر على أساس مذهبي ومناطقي وعرقي. وللأسف مازال البعض من خارج سورية يصر على إشاعتها والتمسك بها بعنوان المعارضة للنظام. ولا نعرف متى كانت المعارضة لأي نظام، تبيح لأي معارض الاستهزاء بشعبه، والتشفي بجوعه ومعاناته. ما نعرفه عن مفهوم المعارضة هو أنها تحاول تجاوز أي نظام في تقديم نفسها لخدمة الشعب والدفاع عن مصالحه.
انضم مؤخرا رجال الأعمال في اتحاد غرف الصناعة والتجارة بدمشق وريفها لدعم الليرة السورية وردا على تشديد الحصار الغربي على البلاد كما أعلنوا وذلك عبر بيع جميع منتجاتهم (كل شيء بليرة)، ضمن مهرجان للتسوق الشعبي في إحدى المدن الرياضية وسط العاصمة دمشق. وسبقهم إلى ذلك تجار حلب. ولم تقتصر الحملة على المواد الاستهلاكية والغذائية، فقد أعلن أطباء أن قيمة المعاينة ليرة واحدة، وشارك كذلك أصحاب مهن مختلفة ليقدموا خدماتهم إلى للفقراء مقابل أجر ليرة واحدة في مدة محددة.
قد لا تكون هذه المبادرة وصفة لإنقاذ واقع الاقتصاد السوري، أو العملة الوطنية، لأن مهمة مواجهة هذا الحصار وتداعياته تقع على عاتق الدولة، وهي من يجب أن يتحرك للتخفيف من معاناة المواطنين، وشن حملة جدية على الفساد والفاسدين في البلاد. إلا أن هذا النوع من التكافل الشعبي على امتداد مساحة دولة كبيرة مثل سورية وليس حي صغير، لا شك بأنها تمثل علامة فارقة في تاريخ هذا الشعب، الذي يستحق رد الوفاء له من حكومته أولا ومن الأشقاء في المحيط ثانيا، ومن الشعوب الحرة في هذا العالم. يجب رفع الصوت عاليا لرفع اليد الآثمة الظالمة عن الشعب السوري وعن كل شعوب المنطقة التي تعاني. حمى الله شعوبنا العربية.
4تعليقات
ابراهيمToday at 7:35 am (4 hours ago)
شي يشعر بالفخر تارة والحزن تارة. ألا لعنة الله على كل من ساهم بكلمة أو بفعل لتدمير سوريا.
مصطفىToday at 6:07 am (6 hours ago)
لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ.
Nael- khanfarToday at 6:02 am (6 hours ago)
هذا شعب عظيم لن ينكسر وسيبقى شعلة تضئ العالم العربي والإسلامي وكيف لا والحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول ويبشر بأهل الشام ستسقط جميع المؤامرات وستصبح سوريا أقوى من أي وقت.
مهندس أبو عليToday at 4:02 am (8 hours ago)
موقف التجار السوريين دليل إيمان ودين وإنسانية وشعور بالمسؤولية ومساعدة بلدهم ويؤمنون بالبلد وقيادته ,, فمن يريد أن ينتقد قيادته يستغلها فرصة سؤ الأوضاع بسبب الحروب الكونية والإرهابية ويحمل حكومته المسؤولية ويتفرج لكنهم ممن عايشوا الحالة ويقدمون بقناعة تامة ما يمكنهم المساعدة، كنا نراقب ما يجري بلبنان وبعض الإعلام ينشر كيف التجار أو بعضهم كانوا يساهمون بطعام وخيم وغيره للحراك للوقوف بوجه دولتهم وهي من ساهمت بتحرير لبنان من الإرهاب ووقفت بوجه الصهاينة ولا طاقة لها بالمسؤولية عن فساد متراكم منذ عقود، فقلما وقف حراك أمام منازل الفاسدين والتجار ساهموا بالحراك فأنتج انهيار اقتصادي أكبر فصارت الليرة قيمتها ٢٥ بالمائة أقل مما كانت قبل الحراك وتشجيع تجار لهكذا حراك جرى ركوبه مرارا.
ساحة النقاش