معركة كسر الهيبة والمصير
<!--<!--
الميادين نت = حياة الحويك عطية*كاتبة وباحثة، خبيرة في الإعلام السياسي
على أرض العراق، يتجلّى الصراع النهائي (بعد سوريا وبعد لبنان 2006) حول هيمنة الولايات المتحدة، ليس على المنطقة فحسب وإنما على العالم.
هي معركة مزدوجة، التكتيكي المرحلي فيها يمليه المصيري. فعلى أرض العراق وُضع التوقيع النهائي عام 2003 على نظام عالمي كان جديداً عام 1990، وبه اطمأنت "إسرائيل" أكثر من أي وقت مضى إلى وجودها وهيمنتها في منطقة الشرق الأوسط. وعلى أرض العراق، يتجلّى عامي 2019-2020 الصراع النهائي (بعد سوريا وبعد لبنان 2006) حول هيمنة الولايات المتحدة، ليس على المنطقة فحسب وإنما على العالم. تراجع بدأ مع إعلان فلاديمير بوتين في ميونخ عام 2007. وراح يكافح ويقاوم حتى هذا المفصل. وكأن رقم "ثلاثة عشر" عاماً هو قدر زمني لتحول نظام العالم، ولتحوّل أقدار منطقتنا.
الديمقراطيون الأميركيون قرءوا ذلك بحكمة، وحاولوا أن يجعلوا من الاتفاق النووي مع إيران، مدخلا للالتفاف على التحولات الحتمية، بصيغة جديدة تضمن عدم القضاء على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. لكن إدارة دونالد ترامب رأت اعتماد صيغة مواجهة وضغط مختلفة، قائمة على عقلية رجل المقاولات الذي اعتمد على مخاطبة أيديولوجيا المنفعة التي تقوم عليها الولايات المتحدة. لكنها المنفعة قصيرة الأمد، والقصيرة الرؤية. وفي هذا السياق كان لا بد لهذا التوجه من أن يلقى كل الدعم والتحريك من قبل اليمين الإسرائيلي المتطرف ولوبياته في واشنطن. فإذا كانت واشنطن تخشى نهاية هيمنتها، فإن الدولة العبرية تخشى نهاية وجودها العنصري، بعد أن اعتقدت – بعد كل ضربة وجهت إلى مركز قوة في بلادنا منذ الخمسينيات – أنها ضمنت هذا الوجود بل وهذه الهيمنة.
لا ضرورة لاستعراض المحطات القاسية التي قلّما تعرّض لها شعب في التاريخ، ولكنها وصلت في نهاية الأمر، إلى تحطيم كمّ كبير من قدرات هذه المنطقة (وهذا لا بد من الاعتراف به) ولكن، في المقابل إلى إضعاف المحور الأميركي – الإسرائيلي كما لم يكن.
الولايات المتحدة الأميركية تعيش اليوم أزمة اقتصادية قاتلة، كما قبل الحربين العالميتين، وتعيش نهاية إمبراطوريتها التي كانت أقصر إمبراطورية في التاريخ عمراً. ورئيسها يعيش أزمة لم يتعرّض لها سوى اثنين من الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة. في حين أنه طرح نفسه منقذا للاقتصاد الأميركي وبالتالي للهيبة الأميركية في العالم، وعليه انتُخب.
فهل كان الهرب إلى الأمام هو ما مارسه دونالد ترامب بجريمته كي ينقذ نفسه من العزل بحكم، أو العزل بنتائج الانتخابات المقبلة؟ أم كان الهرب إلى الأمام أميركياً بعد صعود التهديد الاقتصادي العالمي للمصالح الأميركية وبالتالي للهيمنة، من نهوض الخصوم إلى تململ الحلفاء كما لم يحصل في التاريخ الحديث، وفي هذا الإطار تأتي ردة الفعل المباشرة والحادة على توجه عادل عبد المهدي نحو الصين، بعد تمركز روسيا في سوريا، وبعد أن كادت نتائج الاتفاق النووي مع إيران تصب في صالح الاستثمارات الأوروبية، مباشرة وليس عبر واشنطن.
في كل هذا، تقف إيران على رأس التهديد، ليس فقط عبر قوتها الداخلية، بل عبر امتداداتها القوية في المنطقة، وهنا يأتي قاسم سليماني كمهندس لهذه الامتدادات، إذاً، منطقية الحقد عليه ومنطقية استهدافه في محاولة لكسر الهيبة، هيبة الامتدادات وهيبة الدولة الأم.
ومن هنا تأتي محاولة تأجيج الشرخ السني الشيعي في المنطقة، مع ارتدادات عملية الاغتيال، وسيلة مثلى لكسب معسكر مندرج في السياق الأميركي، حتى ولو كان ذلك يعني الاندراج في السياق الإسرائيلي. فهل كان هناك من يصدق أن سبعة عشر عاماً ستكون كافية لكي ينسى بعض العراقيين أبشع عملية احتلال وتدمير وإبادة في التاريخ مورست عليهم، ليصبح مطلبهم بقاء الجيش الذي أذلّهم وذبح حاضرهم ومستقبلهم؟ بل أن يصبح سعي عادل عبد المهدي إلى التوجه نحو الصين لإعادة إعمار البلاد من دون ديون، وإعادتها إلى موقعها القيادي الحضاري، وانفتاحه على الجغرافية السورية لإحياء الشريان الاقتصادي – الحياتي للأمة، سببا لتحرك الشارع ضده وتحميله مسؤولية فساد وخراب لم يكن هو عنوانه، تماما كما حصل مع ميشال عون بذنب تحالفه مع حزب الله ومحاولة الانفتاح المماثل على سوريا؟
صحيح أن في ذاكرة بعض العراقيين والإيرانيين، كوابيس حرب السنوات الثماني، ولكن هل كانت هذه أبشع من ذاكرة الحرب العالمية الثانية بين فرنسا وألمانيا (وواحدة منهما كاثوليكية والأخرى بروتستانتية)؟ أم أننا ما نزال بعيدين عمّا فهمه ديغول واديناور من أن مفهوم الدولة يعني النظر إلى المصالح لا إلى الأحقاد والثأر، فالأول من طبيعة الدول والثاني من ثقافة القبائل؟ وهل نحتاج إلى الكثير كي نفهم أن التحرر من النير الأميركي يعني إقليماً موحداً على المصالح كما أوروبا القارة، كي نتمكن من تشكيل ما يسمى في العلوم السياسية بالكتلة المقابلة؟
الوقت اليوم يبدو مواتياً أكثر من أي وقت مضى. فالتخبط الأميركي يتمضهر كما يحصل يومياً، فهذا الرئيس الذي أراد ألا يكون باراك أوباما، هو أبعد ما يكون عن جورج بوش الأب والابن. هو يشبههما في إجرامه ولكنه بعيد عن قدرتهما على جمع القوى الأميركية حوله. بل إنه يراكم كل يوم الأخطاء التي تدينه، فهل يُعقل أن يقول مسئول عالمي – بل في جمهورية موز- إنه سيضرب المواقع الثقافية؟ كأنه لم يسمع باتفاقية لاهاي لعام 1954 التي تحرّم التعرض للأملاك الثقافية أيا كان الشعب الذي يمتلكها، باعتبارها تشكل جزءا من التراث الإنساني للبشرية كلها، لكون كل شعب يقدم مساهمته في الثقافة العالمية". وكأنه لم يسمع أيضاً بقرار الأمم المتحدة لعام 2017 الذي أدرج تدمير المواقع الثقافية تحت بند جرائم الحرب؟
هل من مصلحة واشنطن أن تضطر إيرينا بوكوفا مديرة اليونسكو إلى التصريح بأن تدمير التراث الثقافي هو جريمة حرب؟ وقد أصبح تكتيك حرب الإساءة إلى المجتمعات على المدى البعيد، ضمن استراتيجية تطهير ثقافي، ولهذا فإن الدفاع عن التراث الثقافي هو أكثر من رهان ثقافي، بل هو ضرورة أمنية، لا تنفصل عن الدفاع عن الحياة البشرية".
هل من تخبط أكبر من أن يضطر مارك أسبر إلى تكذيب رئيسه بالقول: نحن نحترم قوانين الحرب ونحن من الموقعين على معاهدة لاهاي. بل أن يضطر ليندسي غراهام أقرب أصدقاء الرئيس وأشد مؤيديه إلى القول نحن لسنا في حرب مع الثقافة الإيرانية، بل إن اختيار الرقم 52 كدلالة على الرهائن الأميركيين فتح الطريق أمام روحاني للتذكير بجريمة أميركية خطرة عبر الرقم 299، في إشارة إلى إسقاط الجيش الأميركي الطائرة المدنية الإيرانية عام 1988.
غير أن ما يقلق ليس مصير دونالد ترامب، فها هو بولتون الجمهوري يعلن استعداده للشهادة ضده أمام مجلس الشيوخ، ويليه ميت رومني الجمهوري الذي يعلن أنه يحب أن يُستمع لبولتون، ما يجعل حاجة الديمقراطيين إلى أربعة أصوات جمهورية لبلوغ أكثرية الـ51 عضوا في مجلس الشيوخ تتقلّص إلى اثنين فقط، كي يحصل تأمينهم مع إصرار نانسي بيلوسي ونشاطها.
ما يقلق هو نتائج هذه الأزمة على بلادنا هنا، حتى ولو كان اندلاع حرب أمرا مستبعدا. وأول النذر هو انقسام التصويت في مجلس النواب العراقي بين سنة وشيعة، وتصريح الأميركيين بأن جنودهم سينسحبون من المحافظات الشيعية إلى المحافظات السنية والكردية. فكيف يمكن الحؤول دون أن يحقق ذلك تقسيماً عراقياً لم تستطع حرب 2003 أن تحققه؟ تقسيم سينعش الانفصالية الكردية في جميع دول المنطقة، وسيحقق هدفا استراتيجيا هو فصل العراق عن سوريا، وستصفق له دول الخليج و"إسرائيل" قبل الغرب.
ساحة النقاش