اتفاق أردوغان- السرّاج.. فصل جديد من الصراع شرقي المتوسّط
الميادين نت - محمد منصور
من الأهداف التركية وراء توقيع مذكّرتي تفاهم مع حكومة السرّاج خلط الأوراق شرقي المتوسّط، لكن ما يُثير قلق مصر واليونان ومجلس النواب الليبي في طبرق هو مذكّرة التفاهم الأمنية الغامِضة أكثر من المذكّرة الخاصة بالحدود البحرية.
اتفاق أردوغان- السرّاج.. فصل جديد من الصراع شرقي المتوسّط
فصل جديد في صراع الغاز شرقي المتوسّط بدأ بالتوقيع المُفاجئ لمذكرتيّ تفاهم حول الأمن والحدود البحرية، بين الحكومة التركية ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية.
للوهلة الأولى تبدو هذه الخطوة تصعيداً كبيراً من جانب تركيا في ما يتعلّق بالملف الليبي، يُضاف إلى خطوات سابقة على نفس الدرجة من التصعيد كان أهمها إرسال شحنات من الأسلحة والمُدرّعات التركية إلى طرابلس في وضح النهار، رغم الحظر المفروض من الأمم المتحدة على تسليح ليبيا، إلا أنه بنظرةٍ فاحصةٍ نجد أن لهذه الخطوة ارتباطاً وثيقاً بكافة ملفات الشرق الأوسط، من شرقي المتوسّط، مروراً بسوريا، ووصولاً إلى قطر! فما هي التفاصيل والأهداف؟
شرق المتوسّط مرة أخرى
خط الحدود البحرية بين الجانبين حسب مذكّرة التفاهم
المعلومات المتوافرة حول مذكرتيّ التفاهم شحيحة في ما يتعلّق بالمذكّرة الخاصة بالحدود البحرية، ومعدومة في ما يتعلّق بالمذكّرة الأمنية. نصَّت المذكّرة الخاصة بالحدود البحرية على تحديد الخط الفاصل بين المياه الاقتصادية الليبية والتركية، بناء على نقطتيّ ارتكاز تقعان جنوب شرق جزيرة كريت، تقابلان مدينتي البيضاء ودرنة في الجانب الليبي، ومدينتيّ مرمرة وكاس التركيّتين. هذه التفاصيل، ومبدأ توقيع المذكّرتين في حدّ ذاته، تشوبها شوائب عدَّة تتعلّق بالجغرافيا والقانون والسياسة.
الأراضي الواقِعة بين تركيا وليبيا
على المستوى القانوني والجغرافي، تجاهلت تركيا من خلال هاتين المذكّرتين وجود أراضٍ تقع بينها وبين ليبيا، ما يجعل من غير المُمكن اعتبار البلدين يقعان على حدود بحرية واحدة، منها العديد من الجزر اليونانية مثل سلسلة جزر كاستيلوريزو، وجزيرة كارباتوس، وجزيرة كاسوس، إلى جانب جزيرتيّ رودس وكريت.
وعلى الرغم من عدم توقيع تركيا على اتفاقية الأمم المتحدة للبحار، ومُجادلة أنقرة في ما يتعلّق بالجزر اليونانية في بحر إيجة وشرقي المتوسّط، والتي تمّ منحها إلى أثينا بموجب اتفاقية لوزان عام 1923، إلا أن تركيا بهذه الخطوة تضع يدها على قسمٍ كبيرٍ من المنطقة الاقتصادية لليونان، بل وتعطي لليبيا جزءاً غير مُستحّق من هذه المنطقة، لأنه حسب المادة 121 من قانون البحار، يكون للجزر المأهولة الحق في أن تكون لها بحار إقليمية ومناطق اقتصادية خاصة بها، ناهيك عن أن المادة 74 من نفس القانون تشترط وجود حدود مُتقابلة بصورةٍ مباشرةٍ لا تداخل فيها لأراضي دول أخرى كي يتمّ الترسيم وتحديد المناطق الاقتصادية. في هذه النقطة كان من الواضح أن تركيا قامت بتعديل خرائطها المُعلنة حول منطقتها الاقتصادية الخاصة، والتي كانت في ما سبق تنتهي عند نقطة تقع جنوب غرب جزيرة كاسوس اليونانية.
التعديل في المنطقة الاقتصادية التركية
على المستوى القانوني لا تتمتَّع هذه المذكّرات بأية صفة تنفيذية أو أثر قانوني، كونها ليست اتفاقيات بالمعنى المُتعارَف عليه دولياً، كما أن هناك شوائب قانونية عديدة في ما يتعلّق بهذه المسألة، فالمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق في طرابلس فعلياً انتهت ولايتها في أواخر عام 2017، وحالياً لا يعتبر تشكيل المجلس الرئاسي مُعبّراً عن كامل المكوّنات الليبية، فثلاثة أعضاء يمثلون المنطقة الجنوبية والشرقية كانوا قد استقالوا في وقتٍ سابق، كما أن المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات تنصّ على ضرورة مُصادقة مجلس النواب الليبي على أية اتفاقيات كي تدخل حيِّز التنفيذ وهنا حاول رئيس المجلس الرئاسي تفادي هذه النقطة باعتبار ما تم التوقيع عليه هو مذكّرات تفاهم وليس اتفاقيات.
تصعيد تركي أم خطوة للمساومة؟
تتعدَّد الأهداف التركية من توقيع هذه المذكّرات، وهذه الأهداف ترتبط بالتوقيت أكثر من ارتباطها بالمذكّرات نفسها، فقد طرحت تركيا أواخر العام الماضي هذه المذكّرات على حكومة السرّاج في طرابلس، لكن فضَّلت طرابلس التروّي نظراً لأنها كانت تُراهِن على دور أوروبي، وتحديداً دور إيطالي وبريطاني، لوقف الهجوم الذي بدأه الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر على العاصمة.
التوقيت يشير إلى هدف تركي رئيسي يتعلّق بمحاولة توجيه ضربة ولو دعائية إلى مصر، ردّاً على عدَّة مواقف مصرية تمَّت خلال الشهور الماضية، منها دورها المُتنامي في شرقي المتوسّط، والذي نتج منه افتقاد تركيا إلى إمكانية تحقيق هدفها بأن تصبح بؤرة إسالة وتصدير الغاز من آسيا وشرق المتوسّط إلى أوروبا، واقتراب مصر حثيثاً من تبؤ هذا الموقع، بالإضافة إلى الدعم الكبير الذي تقدّمه مصر لكل من اليونان وقبرص، والذي توسَّع إلى المستويين العسكري والسياسي، يُضاف إلى ذلك تواصل مصر مع المكوّنات الكردية في شرق الفرات، ودورها مع روسيا في الاتفاق الذي تمّ مؤخّراً بين الكرد والحكومة المركزية في دمشق. ناهيك عن الدعم المصري المستمر للجيش الوطني الليبي، لذلك جاءت الخطوة التركية في هذا التوقيت بالذات، مُتزامِنة مع تحرّكات قطرية من أجل المُصالحة مع المملكة السعودية والإمارات المتحدة من أجل عزل مصر.
خلط الأوراق
من أهم الأهداف التركية أيضاً من توقيع هاتين المذكّرتين هو خلط الأوراق في منطقة شرق المتوسّط، وكان الدليل الأكبر على هذا تصريح الرئيس التركي الذي قال فيه "إن مصر وإسرائيل واليونان لن تستطيع تصدير الغاز إلا بالاتفاق مع تركيا"، وهنا نستطيع أن نعتبر أن تركيا تحاول أن تضمن جزءاً من الكعكة الغازية، بعد أن فشلت في الحصول عليها بالكامل، فهي من خلال الترسيم الذي تمّ ذِكره في مذكّرة التفاهم حول الحدود البحرية، تفصل مصر عن اليونان، بما من شأنه أن يصعّب في حال تطبيق المذكّرة على الأرض فعلياً، ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، وكذلك يضع عراقيل أمام مد أيّة خطوط أنابيب تجاه اليونان من مصر أو من قبرص، كما أن الترسيم المُقترَح في مذكّرة التفاهم ينتهك المنطقة الاقتصادية اليونانية بشكلٍ كبير، والمنطقة الاقتصادية المصرية بشكلٍ طفيف، وبالتالي تكون مُحصّلة كل ما سبق إذا ما أضفنا إليه التوتّرات العسكرية المُحتملة، هو عملية ابتزاز تهدِّد تركيا بموجبها بتحويل شرق المتوسّط إلى بؤرة نزاع بدلاً من أن تكون بوابة لاستخراج الثروات، إلا إذا تفاوضت معها كل من اليونان وقبرص ومصر.
ليبيا ساحة تركية جديدة بعد سوريا
على المستوى العسكري، ما يُثير قلق كل من مصر واليونان ومجلس النواب الليبي في طبرق هو مذكّرة التفاهم الأمنية أكثر من المذكّرة الأخرى، لأنه لا تتوافر عن مضمونها أية تفاصيل، وحتى الآن أحجمت حكومة طرابلس عن إرسال تفاصيلها إلى اليونان ما أدّى إلى طرد السفير الليبي من أثينا، ولم تزوّد تركيا حتى الآن الاتحاد الأوروبي بهذه التفاصيل.
لكن الواضح أن تركيا تريد شَرْعَنة تواجدها العسكري في ليبيا، وقد نشاهد في الأسابيع المقبلة مشهداً مُشابهاً للمشهد في مواقع التنقيب التركية الأربعة عن الغاز شمال شرق وجنوب غرب وشمال غرب قبرص، والتي يتم فيها التنقيب بمواكبة عسكرية تركية، لكن تبقى هذه احتمالية غير قوية، نظراً إلى عدّة أسباب منها أن أي تواجد عسكري تركي في هذه المنطقة سيصبح مُستهدفاً من عدّة أطراف. أطراف تمتلك قدرات بحرية وجوية متفوّقة، كما أن بعض هذه الأطراف مثل اليونان وقبرص هم أعضاء في حلف الناتو، وبالتالي الاشتباك العسكري معهم أو مع دول أخرى كإيطاليا وفرنسا قد يضع تركيا في موقف صعب، حتى مع الأخذ في الاعتبار أن تركيا تبتزّ الاتحاد الأوروبي قي عدّة ملفات من بينها ملف سجناء تنظيم "داعش" المتواجدين على أراضيها.
الأمم المتحدة على لسان مبعوثها إلى ليبيا اعتبرت هاتين المذكّرتين إجهاضاً لمؤتمر برلين المقبل حول ليبيا. وهذه النظرة تؤكّد أن اسطنبول تريد تحويل الوضع في ليبيا إلى وضعٍ مُشابهٍ للوضع السوري، قد يكون لها فيه تواجد عسكري على الأرض الليبية.
نحو نزاع إقليمي واسع؟
مصر واليونان وقبرص بدأت في تحرّكات سريعة لتوحيد الصف ومواجهة محاولة فرض الأمر الواقع من قِبَل تركيا. مصر من جانبها بدأت حملة علاقات دولية وإقليمية لرفع الغطاء الدولي عن حكومة طرابلس، وبالتوازي مع هذا بدأت خلال الأسابيع الماضية حملة أخرى لتوثيق العلاقات العربية مع اليونان، وتمّت خلال هذه الفترة لقاءات بين مسئولين يونانيين وقبارصة مع مسئولين من المملكة السعودية والإمارات المتحدة والسلطة الفلسطينية، لكن ردود فعل الأطراف الثلاثة حتى الآن تتّسم بالتروّي نظراً لأن المذكّرات الموقَّعة بين ليبيا وحكومة طرابلس تبقى حتى الآن مُجرّد حبر على ورق، لكن الأكيد أنّ مصر واليونان لن تقبلا بمرور أية تصرّفات تركية في شرقي المتوسّط مرور الكِرام كما حدث في عمليات التنقيب حول جزيرة قبرص، لذا ستكون العيون مسلّطة على شرقي المتوسّط وليبيا في قادم الأيام لمعرفة ما إذا كانت المذكّرات مُجرّد استفزاز دعائي، أم أننا على موعد مع نزاع إقليمي واسع.
ساحة النقاش