بسم الله الرحمن الرحيم
الإبداع من الموضوعات الحبيبة إلى قلبي، ومنذ فترة طويلة وأنا مهتم به وبالدراسات التي تجرى حوله، ولا أريد أن أتحدث عن الإبداع بلغة أكاديمية، لأنه موضوع طويل، تناولته في ثلاثة من كتبي، واثنين من ألبوماتي، ولكني أحب هنا أن أثير الاهتمام لدى الأمة والشباب
قبل أن أبدأ لا بد أنْ أنبه إلى أنّ أمتنا أمة الإبداع، ولو لم تكن كذلك لما سادت الأمم، وقادت الشعوب في العصور السالفة، بل إن العالم كله يشهد بهذه الحقيقة، أننا أمة الإبداع، ففي العالم أكثر من (1000) اختراع علمي، من الاختراعات التي يعتمد الناس عليها إلى اليوم، ترجع أصولها إلى إبداعات المسلمين وإنجازاتهم، هذا الرقم فقط لما تمّ إحصاؤه وتتبعه، وغيره كثير جداً.
حتى يقول الأستاذ والداعية المشهور الراشد (دعوة الإسلام يطورها أذكياء الدعاة، أصحاب الإبداع والاستنباط، والاستنتاج والنقد والتحليل، وليس أهل التقليد والنمطية والاستسلام للموروث، والقناعة باليسير ) .
وقد رأينا إبداع الشباب في الثورة التي قامت بتونس ومن بعدها مصر وشاهدنا نماذج مبدعة في الطرح والطريقة والأسلوب والتفكير. ما هو الإبداع ( CREATIVITY ) ؟
علمتني الحياة أن الإبداع عندي ببساطة هو «عملية الإتيان بجديد» وهذا هو التعريف الذي اخترعته للإبداع، وحول هذه الكلمات الثلاث تدور كل التعريفات التي قرأتها.
ولا يوصف العمل بالإبداع، إذا كان تكراراً لشيء آخر، بل لا بدّ أن يكون جديداً، ولا يشترط أن يكون جديداً بنسبة (100%)، بل يكفي أن أجري تعديلاً على شيء موجود.
لذا وضع المختصون نسبة للتفريق بين الإبداع والتقليد، واعتمدوها لمنح براءات الاختراع العالمية، فقالوا: إذا كانت نسبة الفرق (15%) فأكثر بين الشيء الجديد، وبين الموجود في الواقع، أطلق وصف الإبداع على العمل الجديد ويمكن تسجيله كبراءة اختراع جديدة.
نسبة المبدعين في البشر
تقول الإحصائيات التي قرأتها في الدراسات المختصة بالإبداع، إن نسبة الإبداع العالي في البشر على النحو الآتي
العمر نسبة ذوي الإبداع العالي
5 سنوات 90%
7 سنوات 10%
8 سنوات 2%
45 سنة 2%
نلاحظ أن نسبة الأطفال المبدعين إبداعاً غير عادي، تبلغ (90%) في عمر (5 سنوات)، لكنها تنزل بشكل مفاجئ إلى نسبة (10%)، عندما يبلغون عمر (7 سنوات)، والسؤال لماذا هذا الهبوط في النسبة ؟ وما الذي حدث ؟
الجواب: لقد التحقوا بالمدرسة، وهذه حقيقة مرّة، لا بدّ أن نصارح بها أنفسنا: إن مناهجنا وطرق تعليمنا تقتل الإبداع عند الأطفال، فالطفل مثلاً قبل دخول المدرسة كان يفكر بحرية، ويتخيل ما يشاء، ويسأل ما يريد، لكن بعد
دخوله للمدرسة، يتغير الحال، فيجب عليه أن يجلس في مكان محدد، وأن يرفع يده إذا أراد السؤال، وممنوع أن يسأل عن أمر خارج المنهاج، وما يقوله المعلم هو الصواب، وفي النهاية السؤال ممنوع، والنقاش ممنوع، فينشأ الطفل على محدودية التفكير.
وكأننا نقول له: ريّح بالك، لأننا فكّرنا عنك، ووضعنا لك مناهج تعيسة، واختصرنا لك الطريق، فما عليك إلا أن تحفظ المعلومات، وتنجح في الاختبارات، ولا تفكر ولا تبدع.
لغة الأرقام
ومن الإحصائيات التي تثير الأسى في النفس، وتشعرك إلى أين وصلت أمتنا، تلك الإحصائية التي تتحدث عن عدد براءات الاختراع التي سُجّلت عام (2007 )، وعندما نقارن بين العرب مجتمعين، وبين دولة العدو
الصهيوني (إسرائيل) تصاب بالخيبة، فبراءات الاختراع المسجلة للعرب جميعاً عام (2007) بلغت (147) اختراعاً فقط، بينما بلغت براءات الاختراع المسجلة لعدونا (1683) اختراعاً.
وعندما نبحث في سبب هذا الفرق الكبير، نجد بشكل عام، أن محفزات الإبداع عندهم كبيرة، والمعوقات قليلة، على العكس في عالمنا العربي، حيث المعوقات الكثيرة القاتلة للإبداع، والمحفزات قليلة لا تستنهض همم المفكرين والمبدعين.
الإبداع يحتاج إلى حرية
علمتني الحياة أنْ «لا إبداع بلا حرية»، وأن من أكبر عوائق الإبداع في عالمنا العربي، انعدام الحرية، أو تقلّص مساحتها، لأن الإبداع أشبه ما يكون بالنسر الذي لا تنطلق قواه إلا في سماء الحرية.
ولست أعني الحرية السياسة فقط، بل الحرية في كل مكان يتواجد فيه الإنسان، بدءاً بالبيت، ومروراً بالمدرسة والجامعة، وانتهاءً بالشركة والمؤسسة والمنظمة، فالمدير أو المعلم أو الدكتور الذي لا يسمح لمن حوله بالتفكير الإبداعي، يعتبر من قاتلي الإبداع، ومنمعوقاته الرئيسة.
الإبداع والقيادة
علمتني الحياة أَنْ ليس كل مبدع قياديا، وكذلك ليس كل قائد مبدع، فالقيادة شيء، والإبداع شيء آخر، هناك مبدعون قادة، وهناك مبدعون ليسوا بقادة.
«القائد هو الذي يحرّك الناس نحو الهدف المنشود»، أما «المبدع فهو الذي يأتي بجديد»، وليس بالضرورة أن يكون المبدع قادراً على قيادة الآخرين، كما أنه ليس بالضرورة أن يأتي القائد بالجديد والفريد
بل إن الإبداع والقيادة يكمّلان بعضهما البعض، وهما ضروريان لنجاح أي عمل، لكن في النهاية القائد يدير المبدعين، وليس العكس، فإذا ما أردنا النهوض
بأمتنا فلا بدّ أن نرعى أهل الموهبة والإبداع، ونصنع القادة الذين يحسنون التعامل مع المبدعين، ثم نعلّم القادة صفات المبدعين ليكتشفوهم ويعرفوا كيفية التعامل معهم.
لذا لو وجد جيل كامل من المبدعين، ولم يوجد قادة يوجهون جهودهم، ويحركونهم نحو الهدف، فلن تنهض أمتنا، ولن نعيد مجد حضارتنا. نحن نتمنى أن يتم استغلال إبداع شبابنا خاصة وأنهم برهنوا خلال ثوراتهم أنهم أهل للثقة وأهل للإبداع.