عالم السياسة والثقافة الإخباري .. محمد بن يوسف الزيادي
الحلقة الثانية من سلسلة أبحاث في النهضة
أساس ومتطلبات النهضة
في مقالة سابقة عرفنا مفهوم النهضة لغة واصطلاحا ، حيث أنها في اللغة تعني القيام والمبارحة للمكان ، وهذا يعني أن موضوع النهضة مُنصَبٌ على السلوك الإنساني والإرتقاء بهذا السلوك ، ومعلوم لنا أن السلوك الإنساني يتميز عن السلوك الحيواني بأنه مرتبط بمفاهيم الإنسان وإفكاره ، فلذلك لا يرتقي سلوكه حتى يسموّ فكره .
والناظر للسلوك ودوافعه يجد أن الدوافع للسلوك عند الإنسان وعند الحيوان هي واحدة ، فالإنسان والحيوان يقومان بإشباع ما عندهما من حاجات عضوية وحاجات غرائزية ، ألا إن الدافع عند الحيوان لسلوك طرق الإشباع هو الشهوة البهيمية التي أودعها الله تعالى في نفسه ، أما الإنسان فإنه يمتاز عن الحيوان بأن الذي يتحكم في طرق إشباعه هي قيّمه وأفكاره ومفاهيمه عن مادة الإشباع وطريقته وكيفيته ، وكونه يمتلك العقل فهو محتاج ليسموّ بنفسه عن البهيمة ، الى نظام ينظم أمور حياته وطرق إشباعه لحاجاته وغرائزه .
العقيدة هي القاعدة الفكرية التي يبني عليها الإنسان أفكاره أو تنبثق أفكاره منها
فالنهضة إذاً موضوعها معالجة السلوك الإنساني بما يليق بإنسانيته ، ويحفظ كرامته ، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال السمو بفكر الإنسان ليرتقي سلوكه ، فارتقاء السلوك مرتبط بسموّ الفكر ، والفكر المُنهِض نهضة صحيحة هو الفكر المنبثق أو المبني على عقيدة صحيحة ، لأن العقيدة هي القاعدة الفكرية التي يبني عليها الإنسان أفكاره أو تنبثق أفكاره منها ، فأول أساس لبناء نهضة صحيحة ، هو بناء العقيدة الصحيحة ، أو تبني العقيدة الصحيحة .
والنهوض على أساسٍ فكريٍّ خاطئ ، أو عقيدة مغلوطة ، يُنتِج مفاهيم وأفكار مغلوطة ومشوشة ، وبالتالي غير مؤدية الى نهضة صحيحة تحقق للإنسان إنسانيته ، وتحفظ كرامته ، وتحقق له السعادة .
وقد لاحظنا أن جميع الأفكار التي لم تبنى على عقيدة صحيحة ، قادت البشرية الى الى نهضة غي صحيحية ، فالعالم بأفكاره وعقائده المادية والمصلحية تحوِّل كما هو مُدرَك أو ملاحظ ، الى فرائس ووحوش .
إن أي عمل اصلاحي أو ترميمي أو استنهاضي لا يقوم على أساس العقيدة الصحيحة لا يُكتب له النجاح
لعل بداية انتكاسات أمة الإسلام الناهضة بعقيدته وفكره وشريعته ، كانت يوم تشوشت هذه العقيدة عند المسلمين ، بفعل التأثر بفلسفات من قبلنا ، فأفهمت الأمة قضية القدر خطأ ، وانتشر الفكر الجبري الذي جعل أبناءها يخف وزنهم ، حتى اعتقد أحدهم أنه يجب أن يكون كالريش في مهب الريح ، تحركها الأقدار حيثما تشاء . ودخل الفكر الفلسفي المترجم من وثنيات المشرق والمغرب ، فَزُعزِعَت العقيدة البسيطة ، الموافقة للفطرة ، والمنطبقة على الواقع ، ودخل الشك ، فانشق الصف وتعددت الفرق ، وخرجت الملل والنِّحَل ، تديرها وتدبرها أيدي الخبث والعبث في الخفاء ، حتى انتهى عقل الأمة الى مرحلى العمى ، فَجُمِدَ فكرها واصبحت أمة تقليد أعمى ، فَعُمِيَّت البصيرة ، وعادت عبادة الأصنام ، واستبدل الحجر بالبشر ، فَقُدِّسَ أصحاب الأسرار في مختلف الأمصار ، وعدنا أمة ( هذا ما وجدنا عليه آبائنا ) نقدس الموروث ، ولا نكلف عقولنا بالبحث فيه ، وعبّر المثل الشائع عن هذا الحال فقال : ( إذا وجدت قوما يعبدون عجلا فاقطع له الحشيش واطعمه ) ودخلت الأمة في سبات عميق ، وانحطت انحطاطا لم يشهد له التاريخ مثيلا ، حيث اصبحت العوبة للأمم تتبادلها الأقدام بالركلات .
إن أي عمل اصلاحي أو ترميمي أو استنهاضي لا يقوم على أساس العقيدة الصحيحة لا يُكتب له النجاح ، بل هو تخبطٌ وإضاعة للوقت والجهد ، وزيادة للعب بالأمة بأيدي أبناءها ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) )
فما بالله الفرق بينهم وبين من ينتظر صاحب السرداب الموهوم ، أو مهدي الزمان المزعوم ....!!؟؟
والعقيدة الصحيحة هي العقيدة البسيطة التي خاطب الله بها كافة الناس ، بأن يوحدوا الخالق المدبر ، فله الخلق وله التدبير ، والميلم منقاد لمن خلق، متبع لما دبر ، وليس مبتدع . وهو مستخلف في الأرض ليستفيد من أقدار الله فيها ، ليدفع بخير القدر شره ، وليستغل نواميس وقوانين الوجود بطاعة الله ، باتباع منهج تدبيره الذي ارتضاه جل وعلا ، واستخلفه به في الأرض لتحقيق سعادته وسعادة جنسه ، والإنسان حر الإرادة ، حر الاختيار ، ولا حاد لحريته أو مهيمن عليها ، إلا ربه الذي خلقه واستعبده بتخييره ، ولم يلزمه بتدبير إلزامي كما ألزم الحجر والشجر ، والكواكب والنجوم ، بل جعل قرار الإيمان والكفر خيارا له ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) . ليحاسبه الحساب العادل ، فإن عاقبه فعلى ما اختار بمشيئته ، وإن جازاه فعلى ما اختار بمشيئته أيضا . واضرب هنا أمثلة حية من الإنحطاط في تاريخ الأمم بعد أن أنهضها الله بالوحي ، فخذ مثلا بني اسرائيل الذين انحطوا وأبَّوا إلا السفول ، وباني نهضتهم وداعيها قائم بين ظهرانيهم - نبي الله موسى عليه السلام - حيث خلصهم من بلاء كانوا فيه مستعبدين مستكينين ، يُذبح أبناؤهم ويستحيا نساؤهم ، ولا يقدرون حتى مجرد الاستنكار ، ويظهرون أنهم راضون بما كانوا به يألمون ، فنجاهم الله وأخرجهم من هذا الهوان على يد باني نهضتهم نبي الله موسى عليه السلام ، فلما كتب عليهم القتال ليحطموا الظلم وعروش الطغيان قالوا : ( قَالُواْ يَامُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) .
فما بالله الفرق بينهم وبين من ينتظر صاحب السرداب الموهوم ، أو مهدي الزمان المزعوم ....!!؟؟
وهل المهدي إذا خرج لا يحتاج الى اتباع وأجناد ليقيم العدل والقسط المضيّع أم أنه هو ورجاله قدر ينتظر ؟؟
لقد علمنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه ( وفي قصته عِظةٌ وعبرةٌ ودروس ) كيف يُنتَظَر الغائب المقبل عمليا ؟؟ فلقد ضحى واستعد للقاءه ، وهئ نفسه ليكون خادما لمشروعه الذي لم يكن يعلم منه شيئا ، إلا أنه معرفته بأنه سيأتي بالحق وأنه نبي الله مرسل ، فتعلم كيف يخدم النبوة ومشروعها واستعد لذلك ، لعلمه بأن في رسالتها فقط نهضته بني البشر .
ثم ما معنى أن تُختم النبوة ويبقى برهانها ودليل صدقها خالدا محفوظا متكفلا به من الله تعالى الى يوم الدين ؟ وحفظ الكتاب حفظ للمفسر له أيضا ، وفي عقيدتنا أنه لا معصوم بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان لا معصوم بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام فما الحاجة إذاً الى مهدي يُنتظر ، إلا إذا فسرنا المهدي بأنه وصف ينطبق على كل رجل يفهم كتاب الله تعالى كما أُنزل وسنة نبي الله الصحيحة فيحمل البشر على اتباعهما .
وإنني استلهم هذا الفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يسمي فيه الخلفاء الراشدين من بعده بالمهديين ، ويوصي بالتزام سنتهم الى جوار سنته ، كونه أعلم الناس بسنته في الحكم ، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عُضوا عليها بالنواجذ ) رواه الترمذي.
فكيف تنهض أمة إذهب أنت وربك فقاتلا ، وكيف تنهض أمة إنتظر المنتظر وما يجري كله مقادير وتنسى أنها أمة إقرأ وأنها أمة آمنوا وعملوا وبذلك أخرجت للناس خير أمة ؟؟
إن فهم العقيدة فهما صحيحا ليس فقط يقنع العقل ، بل يصنع العقل وفكره هو أول متطلبات النهضة الشاملة ، فنهضة العقل والفكر ثم نهضة السلوك والتصرف .
محمد بن يوسف الزيادي