جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
أما جوهر الخلاف فهو بين الاستبداد والحرية بين الفساد والنقاء بين القهر والانطلاق, إنها مسافة طويلة تضع حدا لعصر بكامله, وتفتح أبواب الأمل أمام شعب كان يقول ما يريد, والنظام القائم يفعل ما يشاء! لذلك كتبت شخصيا سلسلة من المقالات علي امتداد السنوات الماضية تدور.
حول مفهوم الثقافة كسلوك إنساني قبل أن تكون نسقا حضاريا أو نظاما للقيم والتقاليد, فكتبت عن( ثقافة الاختلاف) و(ثقافة الاعتذار) و(ثقافة الصدق) و(ثقافة التجويد) و(ثقافة الصيانة) وغيرها وأردت من ذلك كله أن ألفت النظر إلي المعاناة النفسية الجاثمة علي الصدور, والخوف الذي يملأ القلوب والفساد الناتج عن الزواج بين السلطة والثروة والتطرف الناجم عن الفهم السطحي للعقيدة الدينية, واتخاذها مبررا لتحقيق سياسات ومصالح علي حساب العلاقة بين الإنسان وخالقه وتطويعها لخدمة أهداف ذاتية ومآرب حزبية, وها نحن اليوم نكتب عن ذلك الخلاف الجوهري الذي يفصل بين عهدين ويعني ميلادا جديدا للأمة المصرية كجزء من عالمها العربي والإسلامي والإفريقي, فلقد جري انتزاع مصر من بيئتها الطبيعية في ظل فهم مغلوط يخلط بين التحديث والتغريب عندما تصور البعض أن الحداثة هي وافد غربي وأن التراث ركام شرقي ولم يدرك ذلك البعض أن ثقافة الشعوب هي المفتاح الحقيقي للدخول في دولة عصرية وولوج عالم متغير تتضارب فيه المصالح وتحتدم الصراعات وتعاني المجتمعات, ولنا في الهند الحديثة مثال حي للنهضة القائمة علي الموروث الذاتي دون مساس بالشخصية القومية أو الهوية الوطنية ولكن انطلاقا من نسق القيم وتراث المجتمع مهما كانت الاختلافات أو احتدمت الخلافات لذلك أضحي العامل الثقافي هو الذي يتصدر في العقود الأخيرة ـ المسيرة البشرية كلها حتي وجدنا أن الأفكار الكبري التي سيطرت علي العالم في العقدين الأخيرين هي العولمة وسصراع الحضارات والإسلام السياسي وما يسمي بـالحرب علي الإرهاب وكلها قضايا ثقافية بالدرجة الأولي تعبر عن الاختلافات النمطية بين البشر وترتبط بواقع محدد له أسبابه وتداعياته, لذلك أضحت الدبلوماسية الثقافية هي رأس الحربة في اقتحام الحضارات والقوميات بل وفهم الديانات لذلك فإنني ألفت النظر إلي العناصر التالية:
أولا: إن التنميط والتنوع والتعددية هي سمات بشرية فطر الله عليها مخلوقاته من أجل حياة متكاملة ومتجانسة, لذلك قال الاقتصاديون وخبراء السوق( لو اتحدت الأذواق لبارت السلع) وقال المثل الشعبي المصري بحكمته البالغة( لكل فولة كيال), وهذا التنميط والتعدد يغري بفهم خاص لفلسفة الكون وحكمة الخالق وروعة الوجود.
ثانيا: إن الخلاف عندما ينجم عن الاختلاف فإنه يعبر عن الفهم الضيق للطبيعة البشرية والانحياز العنصري المقيت لجنس أو لون أو دين, بينما الحياة في مجملها صراع متواصل ومصالح متضاربة, ورؤي مختلفة, ولكنها تحقق في النهاية منظومة متكاملة ومعزوفة متجانسة ولحنا واحدا للوجود بلا خلود.
ثالثا: إن ثقافة الاختلاف يجب ألا تؤدي بالضرورة إلي احتدام الخلاف فلو أخذنا المواطنة كمثال لوجدنا أنها تقوم علي المساواة في المراكز القانونية والحقوق السياسية بين المختلفين, فهذا مسيحي وذاك مسلم وهذا غني وذاك فقير وهذا رجل وتلك امرأة وهذا شيخ عجوز وذلك شاب يافع ولكنهم يعيشون جميعا تحت مظلة الإنسان الواحد الذي يصبح مواطنا في دولة عصرية تحترم حق الاختلاف وتؤمن بالأنماط والأصول والأعراق والتقاليد والأعراف ولا تعترف بالتمييز بين أبناء الوطن الواحد ولا التهميش لفئات معينة, وتدرك أن البشر جميعا ولدوا أحرارا.
رابعا: عندما قامت ثورة25 يناير لم نحسن جيدا استثمار نتائجها أو حتي استخدام مظاهرها, وإذا كانت الثورات تستخرج من الشعوب أفضل ما فيها علي المدي الطويل فإنها يمكن أيضا أن تدفع لأسوأ ما لديها علي المدي القصير, فلقد سقطت الأقنعة وطفت الأحقاد علي السطح, وأصبحنا أمام مشهد عبثي هو رد فعل لسنوات القهر والمعاناة وعقود الفساد والاستبداد, ويبقي السؤال المهم مطروحا, كيف للشعب المصري أن يخرج من نفق الانتقام المظلم وتصفية الحسابات الدفينة والسقوط في مستنقع الإقصاء بلا سبب والاستبعاد دون وعي وحرمان الوطن من أفضل كفاءاته ومن تراكم خبراته وكأن الدنيا لم تعرف قبل الخامس والعشرين من يناير كلمة حق واحدة ولا رأيا شجاعا حتي ولو كان خائفا! إنني أقول بصراحة لشباب الثورة نظموا صفوفكم واتركوا روح الانتقام للسلطة القضائية وإجراءاتها الاحترازية ولنتجه جميعا نحو بناء مصر التي دمرتها عناصر فاسدة, والتهمت خيراتها مجموعات طفيلية وصادرت مستقبلها عقول ضيقة ونفوس طامعة لم تدرك أبدا أن الأفراد زائلون وأن الأوطان باقية, ونحن نلفت النظر هنا إلي حقيقة تاريخية وهي أن الثورات الشعبية ترسي قواعد العدل الإنساني والعدالة الاجتماعية وتحترم الرأي الآخر وتتصرف بعيدا عن روح الدكتاتورية وطبائع الاستبداد فلا تصادر علي فكر الناس باسم الثورة ولا تجري تصنيفا بينهم تحت دعوي الولاء لها, أو تستبعد البعض لأنه تعامل مع نظام جثم علي صدر الوطن ثلاثة عقود كاملة وليست ثلاث سنوات عابرة!
خامسا: متي نرتفع نحن أبناء الوطن الواحد بعيدا عن اختلافاتنا بل وفوق خلافنا من أجل مستقبل أفضل مدركين أن العبرة في المواطن الصالح هو عطاؤه للوطن حتي ولو جري ذلك تحت مظلة نظام فاسد؟ فالحذر صفة بشرية والخوف طبيعة إنسانية وليس كل مواطن بالضرورة ثائرا من أجل المستقبل بل قد يكون إصلاحيا من أجل الأفضل, والاثنان يصبان في هدف واحد وغاية مشتركة وإن اختلفت الوسائل وتباينت الأساليب, كما أن لغة الحوار هي من لزوميات الوصول إلي قناعة حقيقية تتميز بالرسوخ والدوام, أما العبارات الجارحة والألفاظ النابية والنظرات الغاضبة فإنها ترتد إلي أصحابها وتسيء إلي الوطن وأبنائه وتشوه صورته أمام الأصدقاء والأعداء علي السواء.
.. هذه عناصر حاكمة لفهم العلاقة الارتباطية بين جوهر الخلاف وثقافة الاختلاف في ظل ظروفنا الراهنة بعد الثورة الشعبية المصرية التي بهرت العالم وشدت الأنظار ووضعت مصر في مكانتها الدولية والإقليمية التي تعارفت عليها الأمم والشعوب ولكننا لا نريد أن نحافظ علي هذه الصورة المبهرة بفعل الأحداث الطائشة والتصرفات غير المسئولة والنفوس غير القادرة علي صياغة المستقبل بآفاقه البعيدة بدلا من الارتباط بالماضي بواقعه الأليم, دعونا نفكر إيجابيا ولا ننحدر سلبيا, دعونا نحقق الأحلام بدلا من الاستغراق في الأوهام!
المصدر: بقلم: د. مصطفى الفقى جريدة الاهرام 14/6/2011م
مع اطيب امنياتى بحياة سعيدة بناءة من اجل نهضة مصر
ساحة النقاش