نجح باحثون في الولايات المتحدة في بناء أول "رقيقة" إلكترونية تستطيع أن تنفِّذ آليًّا كل الخطوات المتبعة في التخصيب المجهري، وإجراء جميع خطوات التلقيح والإخصاب الاصطناعي اللازمة لإنتاج أطفال الأنابيب، حتى مرحلة تحضير الجنين للزرع داخل الرحم. ويتوقع الباحثون أن يتكون أطفال المستقبل ويعيشون الأيام الأولى من نموهم على رقيقة إلكترونية، يتحكم فيها جهاز كمبيوتر.
وقاد الباحثان "ديفيد بيب" و"ماثيو ويلر" فريقًا بحثيًّا قام ببناء أول نموذج تطبيقي يستطيع أن ينفِّذ الخطوات الرئيسة اللازمة لإنتاج الجنين، ونجحا في إنتاج أجنة فئران بسرعة وبدقة عالية، وبطريقة أكثر كفاءة من الطرق التقليدية عن طريق استخدام رقيقة إلكترونية مبرمجة دقيقة للغاية.
ويتوقّع المراقبون أن يتم استخدام هذه التقنية في البداية لإنتاج الماشية، لكن الهدف النهائي لها سيكون إنتاج الأجنة البشرية. ويهدف العلماء لتطوير هذه التقنية في النهاية، حتى يمكن تصنيف واختبار الأجنة تبعًا للعيوب الجينية والوراثية، ومن ثَم اختيار الأكثر صلاحية منها والتخلص من المعطوب منها.
تخلص من الصحن القديم!
ومن المعروف أن "تقنية أطفال الأنابيب" التقليدية، تعتمد على وضع الحيوانات المنوية والبويضات في صحن (طبق بيتري) زجاجي، ويتم حفظه في ظروف مختبرية قياسية للحصول على البويضات المخصَّبة؛ حتى تصل لمرحلة مناسبة للاستزراع داخل الرحم. ويتم تغذية البويضات ببيئات مغذية اصطناعية مختلفة، حسب مرحلة النمو؛ ولذلك يتم نقلها من صحن إلى آخر عن طريق ماصَّة.
ويشبه "بيب" المهندس الطبي الحيوي في جامعة "ويسكونسن" صعوبة ما يحدث عادة في "مختبرات أطفال الأنابيب" للحصول على بويضة ملقَّحة، كأنما يتم صيدها من المحيط الأطلسي وزرعها مرة أخرى في المحيط الهادي؛ ولهذا قام "بيب وويلر" إخصائي علم الأجنة في جامعة "إيلينويز" بتصميم هذه الرقيقة الدقيقة لتقليد الظروف المحيطة بالبويضة داخل منطقة الجهاز التناسلي للأنثى، وتسهيل الطريقة الاعتيادية المتبعة حاليًا للحصول على "طفل الأنابيب".
صنعت هذه الآلة، من مادة شفًّافة، تشبه الشريحة الزجاجية وتحتوي على شبكة من القنوات الصغيرة جدًّا، بعمق وعرض يصل إلى 0.2 ملليمتر، وتم توصيل هذه القنوات الدقيقة إلى حقنة مبرمجة لضخِّ الأغذية اللازمة للجنين في مراحله المختلفة، وإزالة السوائل، وتحريك الجنين إلى المكان المطلوب. وتمثل هذه الرقيقة عمليًّا طريقة عمل الأجهزة التناسلية الطبيعية، وقد تكون قادرة في النهاية على فحص وفرز الأجنة عن طريق تشخيص أي عيوب وراثية فيهم.
وفي مرحلة اختبار الرقيقة الجديدة زرع الفريق مجموعة من أجنة الفئران لحساب كفاءة الجهاز الجديد في التوصل لأجنة متطوِّرة يمكن زرعها بعد الوصول إلى الطور المناسب "طور البلاستوسيست" blastocyst، وجد الفريق البحثي أن 75% من الأجنة تحوَّلت إلى المرحلة اللازمة للزرع بعد 48 ساعة فقط، ومن المعروف أنه لا يتمكن أي جنين مزروع في صحن "بيتري" تقليدي من الوصول إلى هذه المرحلة في هذه الفترة الزمنية البسيطة.
واستعمل الباحثون هذه الرقيقة أيضًا لإزالة الغشاء الذي يغلف الجنين المبكر والمعروف باسم "zona pellucida"، ويستخدم هذا الأسلوب مع أجنة الإنسان كمرحلة هامة تُعرف بمرحلة "التفقيس المساعد" assisted hatching والتي تعمل على تشجيع الزرع، وتتم هذه المرحلة تقليديًّا عن طريق وضع الجنين في وسط حامضي، وإزالته بسرعة عند تحطُّم الصدفة الخارجية للجنين، وقد يتلف الجنين إذا وُضع لمدة طويلة في الوسط الحامضي في كثير من الأحيان.
ونجح الباحثون في إزالة الغشاء بسرعة كبيرة عن طريق غسل الجنين بالحامض بعد حجزه في قناة دقيقةmicrochannel ، تم صنعها خصيصًا لهذا الغرض على الرقيقة الحديثة؛ وبذلك سهلت هذه العملية أيضًا التي كانت تحتاج لجهد كبير.
تساؤلات جوهرية!
في تجربة منفصلة، استطاع الفريق البحثي الوصول ببويضات الفأر إلى طور النضوج داخل القنوات الدقيقة، ثم تم تخصيبها عن طريق تدفق الحيوانات المنوية من فوقها، وفي النهاية يتمنون الوصول إلى خطوات تقنية عملية متكاملة تحاكي كل الخطوات اللازمة لتكوين الجنين بطريقة اصطناعية للوصول إلى أجهزة تناسلية اصطناعية.
ويعكف الباحثون الآن على تصميم رقيقة تتخذ آليًّا جميع الخطوات اللازمة في عملية الإنجاب من تخصيب البويضة، وقياس معدل استهلاك الأجنة للأكسجين والجلوكوز، وكمية ثاني أكسيد الكربون التي تطلقها، بالإضافة لفحص العيوب الوراثية، ومعالجتها إذا لزم الأمر، والتخلص من الأجنة ذات النوعية الرديئة قبل الزرع.. حتى الوصول إلى عملية إعداد الأجنة للزرع. يقول "جورج سيديل"، المختص بفسيولوجيا التناسل في جامعة "ولاية كولورادو": "إن هذا العمل يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو المستقبل الذي يصبح فيه التخصيب في الأنابيب هو الطبيعي.. وبعد 50 أو 100 سنة من الآن، ستكون الإجراءات المتبعة لإنتاج أطفال الأنابيب خارج الجسم الحي أكثر أمانًا، وسيتم التحكم في مراحل معينة من فترة الحمل أو يتم الحمل كله خارج الجسم الحي، حتى يتم تفادي التعرض للملوثات المختلفة التي تحدث في الجسم - من ناحية الفيروسات والسموم التي تصادف الأم أثناء حملها".
ويقول "توم شكسبير" الباحث في معهد للسياسة والأخلاق وعلوم الحياة في "نيوكاسل": "إن مراقبة الجودة تثير قضايا أخلاقية.. إذا كنا نتحدث عن زيادة فرص الحمل وعلاج العقم، سيكون الجدال طفيفًا، ولكن إذا كنا نتحدث عن خفض التنوع الجيني، أو الاختيار المتعمد لأجنة معينة ستكون هناك تساؤلات جوهرية".
جدير بالذكر أن القانون البريطاني يسمح منذ عام 1991م بإنتاج أجنة لغرض البحث، على أن تستخدم خلال أربعة عشر يومًا، ويقتصر استخدامها على مكافحة العقم.
وكان جدال عنيف قد ثار في عام 1998؛ حيث انطلقت في بريطانيا عاصفة من الاحتجاج، بعد الإعلان عن القضاء على 3300 من الأجنة المجمدة المحفوظة في بنوك الأجنة؛ حيث لم يحاول أحد من أصحابها الاستفادة منها خلال خمس سنوات، وهي المدة التي تحددها القوانين هناك!
ومما سبق نصل إلى سؤال هام، هو: هل البويضة الملقَّحة، بعد انقسامها عدة مرات، هي فعلاً جنين بشري؟
الإجابة تتلخص في حقيقة مهمة، خلاصتها: أن البويضة الملقَّحة في مراكز الإنجاب خارج الرحم، أو ما يسمَّى بأطفال الأنابيب لا تعتبر جنينًا بالمعنى العلمي؛ حيث إن الجنين يحتاج إلى رحم يحتضن هذه البويضة الملقَّحة، يطوِّرها إلى الحالة التي ينطبق عليها لفظ الجنين؛ ولذلك يمكن اعتبار البويضة بعد انقسامها عدة مرات في الأنابيب خارج الرحم، مجرد مجموعة من الخلايا الأساسية، غير المتخصصة، والعلماء يُجْمعون على أن هذه البويضات الملقحة، تكون في مرحلة الانقسام الأولي.. أي تنقسم إلى أربعة، ثم ثمانية وأخيرًا 16 خلية، وعند هذه المرحلة تتم عملية الزرع داخل الرحم، وتنص القوانين البريطانية، على أن الجنين هو من يزيد عمره على 14 يومًا.
ومن المعروف أن تقنية "أطفال الأنابيب" تجري في جميع مراكز الإنجاب خارج الرحم، ويتم التخلص من البويضات الملقَّحة الزائدة أو المعطوبة، بعد اختيار الأفضل منها، وزرعها في الرحم، وذلك بإلقائها في أوعية المخلفات الجراحية أو حفظها في بنوك الأجنة، دون احتجاج من أحد، بأن هذه العملية تنطوي على قتل أجنة أو إزهاق أرواح!.
وإذا نجح العلماء فيما يخططون له فسيقومون بتقديم الحل العملي البديل لمشكلة تأجير الأرحام الطبيعية التي تفجرت في البلاد العربية مؤخرًا، وستكون الأرحام المؤجرة في هذه الحالة اصطناعية، وبالطبع ستثار عاصفة جديدة من الاحتجاجات الأخلاقية والدينية، ولكن لا داعي للانزعاج الآن.. فما تم حتى الآن في هذا المضمار لا يُعَدُّ سوى خطوة أولى في طريق الألف ميل.
ساحة النقاش