الطب قبل الإسلام د. راغب السرجاني
لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن العلاج والطب ارتبطا عند الإنسان بوجود الألم، فإذا ما عرف الإنسان الألم، فإنه لا شك بدأ في البحث عن إزالة هذا الألم، وذلك عن طريق معالجته وتطبيبه. ومن ثَمَّ فالطب قديم قِدم الإنسان ذاته، وتتلخص بدايات صنعة الطب في أن الإنسان منذ وُجد على ظهر الأرض وهو يهتدي -بإلهام ربه- إلى أنواع من التطبيب تتفق مع مستواه العقلي وتطوره الإنساني، وكان ذلك النوع من الطب يُعرف بالطب البدائي، انسجامًا مع المستوى الحضاري للإنسان؛ ولذلك نجد ابن خلدون (ت 808هـ) يذكر أن: "... للبادية من أهل العمران طبًّا يبنونه في أغلب الأمر على تجرِبة قاصرة، ويتداولونه متوارثًا عن مشايخ الحي، وربما صح منه شيء، ولكنه ليس على قانون طبيعي".
ويمكن هنا أن نتناول نبذة عن وضع وتاريخ الطب قبل الإسلام من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: الطب عند قدماء المصريين
يُعَدُّ المصريون القدماء من أقدم الشعوب التي مارست الطب ووصلت فيه إلى مستوى رفيع؛ فالتشخيص وحصْر الأمراض والتحنيط والتشريح والجراحة من الأشياء التي بلغوا فيها براعتهم، وها هي ذي هياكلهم والمومياوات العجيبة العديدة، تحمل آثار عمليات في مختلف أجزاء الجسم، وما تزال كثير من متاحف العالم تحفظ بين كنوزها بالكثير من البرديات التي تكشف لنا من ألوان الطب التي مارسوها والأمراض التي خبروها، وجعلوا من (أمنحوتب) إلهًا للطب.
وقد أشاد هوميروس في الأوديسا بمهارة الأطباء المصريين، وقال هيرودوت غير مرة إنهم كانوا يعالجون أنواعًا شتى من الأمراض، يختص كل منهم بمرض يبرع في علاجه، وروى أن قورش أرسل إلى مصر في طلب طبيب للعيون، وأن (دارا) كان عظيم الإعجاب بهم، وكان الإغريق يعرفون اسم (أمنحوتب) رب الحكمة في مصر القديمة، ونقلوا عن الطب المصري كثيرًا من العقاقير، كما نقلوا آلات الجراحة بغير تبديل.
على أن الطب المصري القديم قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعابد، فكان هناك عدة آلهة لشفاء الأمراض، وكان نصير الأطباء هو الإله (توت)، وكانت الإلهة (إيزيس) يُتضرع إليها لشفاء الأمراض المستعصية، وقد امتدت عبادة إيزيس أيام الإمبراطورية الرومانية، وشملت العالم الغربي كله، وكانت تمثَّل بشكل سيِّدة جالسة، وأحيانًا وهي تحمل ابنها حورس على ذراعيها.
وقد كان للكهنة -من ثَمَّ- دورٌ لا يُنكر في ممارسة مهنة الطب، فكانوا هم الذين يقومون بتطبيب المرضى، ويتقاضون رواتب على ذلك من دخل المعابد، وكان قدماء المصريين يعتقدون أن المرض هو نتيجة روح شريرة سكنت جسم الإنسان، وكان فنُّ المعالجة يقتضي معرفة حقيقة هذه الروح الشريرة، والاستعانة على طردها بالتعاويذ والتمائم، وأحيانًا بالسحر، وكانت الأدوية والمستحضرات الطبية المستخلصة من الأعشاب والحيوان تستعمل كعوامل مساعدة لطرد هذه الأرواح.
ويمكن القول بأن الكهنة كانوا هم أول من مارس مهنة الطب في الحضارة المصرية القديمة، ثم بعد ذلك نشأت فئة الأطباء من غير رجال الدين، ثم انقسمت هذه الفئة إلى درجتين: إحداهما وسيلتها السحر والشعوذة، والأخرى كانت تعتمد في علاجها على العقاقير والجراحة، وظهر فيها الأخصائيون.
وإجمالاً فقد تواتر عن قدماء المصريين أنهم كانوا على علم وبصيرة في فن التحنيط، وكان لهم باعٌ في تشخيص المريض وعلاجه، وعرفوا أيضًا الطرق الجيدة لمنع الحمل والذبحة الصدرية وأمراض المعدة والإسهال وانحباس البول، كما عالجوا الكسور والأسنان.
هذا وقد دوَّن قدماء المصريين معارفهم ومعلوماتهم الطبية على أوراق البردي، ومنها: بردية كون التي تكاد تكون خاصة بالأمراض النسائية، وبردية سميث التي تختص بالأمراض الجراحية، وبردية إبيرس التي أكثر موضوعاتها في الطب الباطني والعقاقير الطبية، وتشريح جسم الإنسان، والتعرف على وظيفة القلب. كما يلاحظ أن محتويات هذه البرديات الثلاث قد صنفت حسب الاختصاصات الثلاثة: الباطنية والجراحية والنسائية، وهذا التقسيم نفسه هو المعمول به في هذه الأيام.
وتلخيصًا، فإن المصريين القدماء وإن كانوا قد مارسوا الطب والتطبُّب على أسس علمية ومنهجية أحيانًا، وتقدموا في ذلك بعض الشيء، إلا أن ذلك العلم قد تخلله بعض الطلاسم والتعاويذ والسحر، ولعب فيه الكهنة دورًا كبيرًا.
المبحث الثاني: الطب عند البابليين
مثل المصريين القدماء فقد كان الطب القديم عند البابليين يشوبه شيء من الكهانة والسحر؛ لأن المرض عندهم كان يعتبر عقابًا إلهيًّا على ذنوبٍ ارتكبها المريض. ولذلك لم يكن أحد ليحاسب الكاهن أو الساحر على أي خطأ قد يرتكبه في علاج مرضاه، بينما يُعاقب الطبيب الجرّاح الذي يخطئ في علاجه وجراحاته؛ لأنه يعمل بيديه لا بقوة كهنوتية أو سحرية كما يفعل السحرة والكهنة! فشريعة حمورابي تنص على أن الجراح إذا ما استعمل مشرطه وأخطأ في استعماله تُقطع يده، وإذا تقاضى أكثر مما يستحق يعاقب بالحبس. ولقد نظمت شريعة حمورابي أسعار الخدمات الطبية وأجور الأطباء، وفرضت أيضًا عقوبة على الحاضنات والمراضع اللاتي يهملن العناية بالرُّضَّع !
وكان في وادي الرافدين ثلاثة مذاهب للمعالجة:
1- المعالجة بالنصح (الطب الوقائي).
2- المعالجة بتشخيص المرض ووصف الأدوية النباتية والحيوانية والمعدنية (الطب المزاجي الطبيعي).
3- المعالجة بالسحر والطلاسم (الطب النفسي).
هذا وقد نفر الأطباء من تناول المسكرات وعالجوا بالمس، وعرفوا الجراحة، واستخدموا الحشيش والأفيون للتخدير عند إجراء العمليات. وكان أهل المريض إذا عجز الأطباء عن مداواة مريضهم يضعونه في الأماكن العامَّة رجاء أن يمر به من كان قد أصيب بمثل ما به، فيصف له العلاج الذي كان قد شفاه.
وإجمالاً فإن الطابع الغالب على الطب عند البابليين هو الكهنوت والسحر، حيث كان يعتقد أن الأمراض الشديدة تأتي نتيجة غضب الآلهة، أو نتيجة السحر وتأثيره.
المبحث الثالث: الطب عند الصينيين
يرجع تاريخ الطب في الصين إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ويعد (واي بويانج) من مشاهير الأطباء الصينيين، وكان (شان نوتج) المشهور باسم الإمبراطور (فيويو) أول باحث عن خواص النباتات، حيث كان يختبر تأثيرها على نفسه. أما جُلُّ اعتماد الطب الصيني فكان على الأدوية النباتية والكي والوخز بالإبر الذي جعلهم يعتنون بدراسة التشريح.
كما قدم الصينيون أعمالاً كثيرة في مجال الطب الباطني، وعرف أطباء الصين بعض الآلات الجراحية البسيطة. ويذكر أحمد شوكت الطشي في كتابه (تاريخ الطب وآدابه وأعلامه) أن الطب الصيني هو ما يُعرف اليوم بالكي النقطي ignipuncture، وأساسه غرز إبر محمية في الجلد؛ لذا يلزم محترف مهنة الكي النقطي أن يفهمها ويتعلم أسماءها، ويدري تمامًا مواضعها؛ إذ لكل منها في اعتقادهم علاقة بجزء من أجزاء الجسم الباطنة.
يقال أيضًا إن الصينيين عرفوا النبض وما يحصل له من تغيرات بسبب المرض، كما أنهم كانوا يعتقدون أن من أسباب الأمراض وجود الحر والبرد والجفاف والرطوبة؛ لذا قدروا أن أمراض الصدر والرئتين تأتي دائمًا في فصل الشتاء، بينما الحميات تحصل في الخريف، والصداع والأمراض النفسية تكون في فصل الربيع، أما الأمراض الجلدية فتظهر في فصل الصيف.
ويمكن القول بأن الطب الصيني امتاز عمّا كان لدى الأمم السابقة، وذلك بالاعتماد على بعض المعارف التي كانت خالية من الخزعبلات، والتركيز على استخدام الوخز بالإبر في علاج معظم المرضى.
المبحث الرابع: الطب عند الهنود
كان الطب عند الهنود قديمًا ممزوجًا بالخرافات والأساطير، ولكنهم تميزوا عن غيرهم من الأمم بفن التشريح، ومن هنا اشتهروا بالجراحة بأنواعها المختلفة، وقد كانوا يعتقدون أن العلل جميعها تولد مع الإنسان، وتظهر إما عن الذنب أو عن فساد الأخلاط.
وهناك بعض الإشارات التي تفيد أنَّ الهنود استعملوا التلقيح ضد الجدري، كما مارسوا عمليات التجميل، وترقيع الجلد والتوليد عن طريق البطن (العملية القيصرية)، ورتق الفتوق، واستخراج الحصى من الإحليل والمثانة، وقدح العين، وبتر الأعضاء، وتحضير السموم ومضاداتها. واستخدموا لتوقيف نزيف الدم في العمليات الجراحية الضغط والدهون الحارة، واستعملوا الكي لنفس الغرض، وكان لديهم من الأدوات الجراحية ما يزيد على المائة آلة. ومع كل ما تقدم من معارف الهنود في ميدان الطب البشري، فلم تكن ممارستهم بأي حال خالية دائمًا من لمسات خيالية وشعوذة.
هذا وإن مدوَّنات الطب الهندي تبدأ بكتاب "أترافا- فيدا"، ففي هذا الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها، لكنك تجدها محاطة بكثير جدًّا من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيلاً للسحر؛ فالقائم بالعلاج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض، على أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية، ثم أخذ -على مرِّ الزمن- يزيد من اعتماده على الوسائل الدنيوية، ماضيًا إلى جوار ذلك في تعاويذه السحرية؛ لتكون هذه مُعينة لتلك من الوجهة النفسية، كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض. وفي ذيل كتاب "أترافا- فيدا" ملحق يسمى "أجو- فيدا" (ومعناها: علم إطالة العمر)؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى أن المرض يسببه اضطراب في واحد من العناصر الأربعة: (الهواء والماء والبلغم والدم)، وطرائق العلاج هي الأعشاب والتمائم السحرية. ولا يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف الأمراض وعلاجها مأخوذًا به في الهند اليوم، وتجد في كتاب "رجْ- فيدا" نحو ألف اسم من أسماء هذه الأعشاب، وهو يحبِّذ الماء على أنه خير علاج لمعظم الأمراض.
وأعظم اسمين في الطب الهندي هما "سوشروتا" في القرن الخامس قبل الميلاد و"شاراكا" في القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كتب سوشروتا -وكان أستاذًا للطب في جامعة بنارس- باللغة السنسكريتية مجموعة من أوصاف الأمراض وطرائق علاجها، وكان قد ورث العلم بها من معلمه "ذانوانتاري"؛ فبحث في كتابه بإطناب في الجراحة، والتوليد، والطعام الصحي، والاستحمام، والعقاقير، وتغذية الرُّضَّع والعناية بهم والتربية الطبية. وأما "شاراكا" فقد أنشأ "سامهيتا" (ومعناها موسوعة) تشمل علم الطب، وهي لا تزال مأخوذًا بها في الهند؛ وبثّ في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقترب من فكرة أبقراط: "لا ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاءَ منفعةٍ لأنفسكم، ولا إشباعًا لشهوة ما من شهوات الكسب الدنيوية، بل عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن الإنسانية المعذَّبة ".
وإجمالاً فإن الطب الهندي قد احتوى أيضًا على بعض الخزعبلات، ولكنها أقل بكثير مما كان في كل من الطب المصري القديم والطب البابلي. كما قاموا بعمليات جراحية جريئة تدل على مستوى الطب الذي وصلوا إليه في طبهم؛ لذا قام العرب والمسلمون بترجمة إنتاجهم في هذا الميدان منذ زمن أبي جعفر المنصور (136- 158هـ).
المبحث الخامس: الطب عند اليونانيين
لا شك أن اليونانيين أخذوا الكثير من معارفهم الطبية عن كل من قدماء المصريين والبابليين؛ حيث اهتم أطباء اليونان بنتاج الأمم السابقة عليهم والمجاورة لهم، فدرسوا أعمالهم في مجال الطب عن كثب، وزادوا على طب هذه الحضارات الكثير؛ لأن العقلية اليونانية تميزت بأنها عقلية منطقية نشطة، لذا صار لهم شأن عظيم في ميدان علم الطب. ويكفي الحضارة اليونانية فخرًا أنها أنجبت أبقراط (460- 357 ق.م على الأرجح) الذي يعتبر من عمالقة الطب الذين أنجبتهم الإنسانية.
وقد انتهج أهل اليونان طريقين: طريق يعالج المرضى بالكهانة والسحر، وكان سدنة هذا التطبيب يتوارثون هذه المهنة، ويضنون بها على عامة الناس، وينسبون الأمراض إلى أعمال الشياطين، والعلاج إلى أعمال الآلهة. وطريق آخر اشتغل بالطب على أنه فرع من الطب الطبيعي، واهتموا بالتشخيص الوصفي، وكان ذلك هو اتجاه الفلاسفة، ولم يستقل أحد من هؤلاء وأولئك بالبحث فيه، حتى كان أبقراط الذي يعتبر أول من بوَّب الطب ورتبه وبناه على أسس صحيحة؛ ولذلك سموه (أبو الطب).
ويذكر الدومييلي في كتابه (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي)، أن الطب اليوناني وصل إلى درجة تدعو حقًّا إلى الدهشة، فهم الذين رفعوا ذلك العلم إلى مستوى جيد وملحوظ، يختلف تمامًا عن طب الأمم السابقة لهم، بَيْدَ أنَّ الطب اليوناني لم يقف -في خطوات نموه- عند المبادئ العامة للتشخيص والتنبؤ بالأعراض، والآراء الموجهة في الجراحة، بل لقد عظمت ثروته بالابتكارات العلمية الخاصة؛ كالابتكارات في التشريح، وعلم وظائف الأعضاء التي هي أساس التفكير الطبي الصحيح.
كما يذكر محمد زهير البابا في كتابه (تشريع وآداب الصيدلة) أن أطباء اليونان -وعلى رأسهم أبقراط- يعرِّفون الطب بأنه قياس وتجرِبة، وكان أبقراط يعتبر أسباب المرض إما بعيدة أو قريبة؛ فالأسباب البعيدة للمرض إما أن تكون ناتجة عن عوامل الجو أو الأطعمة المتناولة من قبل المريض، أما العوامل القريبة فتحدث من فساد أو سيطرة واحد من الأخلاط الأربعة التي يتكون منها الجسم (الدم والصفراء والبلغم والسوداء)، لذا كانوا ينادون بضرورة معالجة الأمراض بالوسائط التي تؤدي لإنضاج الأخلاط وإخراجها من الجسم.
ويعتقد بعض المؤرخين أن الطب يوناني النشأة، والدليل على ذلك تبنيهم شعار أستليبيوس الطبي (العصا والثعبان كرمز للطب)، أما المؤرخون المنصفون فيؤكدون أن الطب عند قدماء المصريين كان أرقى من الطب عند اليونان؛ لأن اليونان نعتوا مصر بأنها نبع الحكمة، واعترفوا لها بالسبق والفضل الفكري عليهم، وهذا واضح؛ لأن جزيرة كريت التي تطل عليها كل من قارة أوربا وآسيا وإفريقيا، كانت أول موطن للحضارة اليونانية.
ويتضح للقارئ أن الطب اليوناني بقي أمدًا طويلاً خاضعًا للخزعبلات والتجارب الخشنة التي لم تكن مبنيَّة على أية قواعد علمية، على الرغم من أن هذه القواعد كانت معروفة عند الأقوام المجاورين لليونانيين، وبقي الطب محتكرًا بيد شرذمة من الأنانيين، يتوارثونه جيلاً بعد جيل، وكأنه ملك لهم، وصدقهم الناس وأنزلوهم منزلة الأبطال؛ لذا ظل الطب سجين المعابد يديره الكهنة حتى بدأ بتحريره أبقراط، ومن هنا بدأت الانطلاقة للبحوث الطبية المبنية على أسس علمية.
والجدير بالذكر أن المسلمين قاموا بترجمة إنتاج أبقراط الطبي العلمي ومن عمل على وتيرته من الأطباء اليونانيين، فطوّروا في منهج أبقراط، وجعلوا علم الطب علمًا مُشَاعًا بين جميع أفراد الشعب، حتى وصل هذا العلم الحيوي إلى مستوى عالٍ.
المبحث السادس: الطب عند الرومان
ورث الرومان ممتلكات الحكومة اليونانية بعد إزاحة حكم البطالسة سنة 300 ق.م واستيلائهم على الإسكندرية، إلا أنهم لم يستطيعوا أن ينزعوا من اليونانيين الزعامة العلمية والطبية، فبقيت روما وتوابعها طيلة الستة القرون الأولى بعد حكم اليونانيين من غير طبيب يعمل بالقواعد العلمية في هذه الصنعة، فكانوا يعتمدون على التعاويذ والنصائح التقليدية التي تصل إليهم على لسان الأطباء الوافدين إلى البلاد.
وقد اشتهر الرومانيون باستعمال الحمِيَّة والرياضة والحمامات الساخنة بدل العقاقير المختلفة إلا في الحالات التي لا بد فيها من إجراء العملية الجراحية، مثل الأورام السرطانية والبتر في حالة الغنغرينا وغيرها. كما نالوا سمعة جيدة في استخدام الموسيقى وبعض المهدئات والرياضة لعلاج الأمراض العقلية.
ومن أشهر الأطباء في العصور الرومانية، والذين كانت لأعمالهم علاقة بالطب الإسلامي الطبيب جالينوس (130م - 200م)، وهو يوناني عاش في العصر الروماني، ويجيء اسمه بعد أبقراط علمًا وشهرة، وقد جمع آثار أبقراط في الطب وحفظها من الضياع، وترجم المسلمون كتبه في عصر الترجمة، يقول عنه ابن خلدون: "إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس... وتآليفه هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده".
ويقول ابن أبي أصيبعة: "إن الذي قد عُلم من حال جالينوس واشتهرت به المعرفة عند الخاص والعام في كثيرٍ من الأمم أنه كان خاتم الأطباء الكبار المعلمين، وهو الثامن منهم، وأنه ليس يدانيه أحد في صناعة الطب فضلاً عن أن يساويه؛ وذلك لأنه عندما ظهر وجد صناعة الطب قد كثرت فيها أقوال الأطباء السوفسطائيين وانمحت محاسنها، فانتدب لذلك، وأبطل آراء أولئك، وأيّد وشيّد كلام أبقراط وآراءه وآراء التابعين له ونصر ذلك بحسب إمكانه، وصنف في ذلك كتبًا كثيرة كشف فيها عن مكنون هذه الصناعة، وأفصح عن حقائقها ونصر القول الحق فيها، ولم يجئ بعده من الأطباء إلا من هو دون منزلته ومتعلم منه".
المبحث السابع: الطب عند العرب قبل الإسلام
كان التطبيب في الجاهلية ذا شُعبتين: شعبة تقوم في جوهرها على الكي بالنار، واستئصال الأطراف الفاسدة، والتداوي بشرب العسل، ومنقوع بعض الأعشاب النباتية، واللجوء إلى التمائم والتعاويذ على يد الكهّان والعرّافين، وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي عروة بن خزام عن رباح بن عجلة عَرَّاف اليمامة:
جعلت لعراف حكمه *** وعــــراف نجداني هما شفياني
فقالا: نعم نشفي من الداء كله *** وقاما مع العواد يبتدران
فما تركا من حكمة يعلمانها *** ولا سلوة إلا بها سقياني
وشعبة تتجه في علاجها إلى الحميَّة، وعلى إسداء النصيحة وليدة الخبرة، مثل قولهم: "المعدة بيت الداء، والحمِيَّة رأس الدواء"، و"القديد مهلك لآكله".
وقد استخدم العرب في الجاهلية الأدوية البسيطة والأشربة الطبيعية، مثل العسل الذي كان يعتبر أساس العلاج لأمراض البطن، وفي نواحٍ أخرى قاموا ببعض العمليات الجراحية الصغيرة، مثل الحجامة والكي والبتر والفصد والحمية، وتناول بعض الأعشاب الطبية التي تنبت في بلاد العرب؛ ولذا فإننا لا نجد عندهم غير معرفة قليلة بالطب التجريبي والعقاقير والمعالجات بالضمد واستخدام الأغذية وبعض الأدوية النباتية، ولم تكن لهم من المعرفة الطبية غير ما اختزنته ذاكرة الحكماء ودوّنه الشعراء في قصائدهم، بحيث يمكن القول بأن الطب العربي قبل الإسلام لم يكن غير طب شعبي ينتقل بالممارسة والتعليم شفاهًا من جيل إلى جيل، وقد أضافت إليه الأعوام خبرة بعد أخرى.
وإجمالاً فإن من أهم ما يلفت انتباهنا من جملة حال الطب قبل الإسلام من الناحية السلبية في العلاج والتطبُّب، كان الاعتماد على التجارب العلمية البسيطة، واستخدام العلاج بالسحر والطلاسم والدجل والشعوذة، ونسبة الأمراض إلى الشياطين، واستعمال التمائم والتعاويذ، وكذلك استئصال الأطراف الفاسدة، واستخدام المسكرات... وهو ما لم نرَ مثله على الإطلاق في حضارة الإسلام، وإنما كان هناك طبٌّ جديد ومنهجٌ مغاير!
المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.