في بقعة هادئة من قاعة أحد النوادي الرياضية في ضاحية مدينة أوروبية عرفت بالجمال اصطحب أحد كبار الانقلابيين صديقة الخاص ليتأملا ما آلت إليه الأوضاع في مصر،بعد تنصيب وزير الدفاع رئيسا للجمهورية، وبدأ الانقلابي الكبير

-الذي منحه الانقلاب منصبا رفيعا اضطر للتخلص منه بعد أسابيع قليلة- حديثا نادما على أنه لم يكن يتصور أن رجالا عسكريين يكررون في 2013 و2014 ما أصبح أمرا مهجورا تماما. ولم يقل له صديقه الجملة المعهودة في مثل هذه الحالات إن العسكر هم العسكر، ذلك أن الانقلابي الكبير سارع من تلقاء نفسه إلى ذكرها والتأكيد عليها، لكنه بدا نادما على أنه ضيع كل شيء: الماضي الذي بناه له الزمن، والحاضر الذي كان بناه لنفسه في ذكاء، والمستقبل الذي كان من الممكن له أن يحققه بالوصول إلى رئاسة الجمهورية حتى ولو كان عن طريق انقلاب.

وفي غمرة تدفق تساؤلات الانقلابي الكبير كان لا بدّ لصديقه أن يقول له شيئا يلطف به الجو أو ينهي به دوامات التساؤل التي كان الانقلاب يخرج منها ليعود إليها، وهنا لم يجد الصديق إلا أن يقول له: إنه سار في كل الأحداث بذكاء شديد، لكنه فاته قرار واحد فقط كان كفيلا له بمجدي الدنيا والآخرة. قال الانقلابي: فلنقتصر الآن على مجد الدنيا، ماذا كان القرار الذي فاتني أن أتخذه؟ قال الصديق على استحياء شديد: قد فاتك أن تنضم إلى معتصمي رابعة! وتقول إنك ستكون في الصف الأول من شهداء رابعة إذا هاجمتهم الدولة أو قواتها المسلحة أو شرطتها! صمت الانقلابي لأكثر من ثلاث دقائق، وعاد ليجيب صديقه أو ليسأل صديقه بعبارة أدق: وهل كان مثل هذا التصرف سينقذ رابعة، وينقذ مصر؟ قال الصديق الأهم من هذا وذاك أنه كان سينقذك أنت شخصيا وسينقذك ثلاث مرات، سينقذك من الاستقالة التي اضطررت إليها، ومن الهروب الذي تعانيه الآن بإرادتك،

 

لكن أعداءك ينتهزون الفرصة ويصورونك -مع الأسف الشديد لاضطراري تكرار ما يقولون- مضطرا مجبرا كسيرا ذليلا، وسينقذك (أي قرار الانضمام لمعتصمي رابعة) قبل هذين من العار الذي سيظل يلاحقك لأنك خدعت شعبك وخدعت نفسك وانخدعت لمن هم أقل منك ذكاء. صمت الرجلان حتى جاء موعد انصرافهما فانصرفا وقد أحس كل منهما ببرودة يد صاحبه وهما يتصافحان.

بعدها بأيام -وفي ركن هادئ من مطعم شهير في مدينة أوروبية يتردد عليها المصريون بكثرة- جلس سيجار ضخم في فم مرشح رئاسي سابق ساهم بكل جهده في صناعة الانقلاب ثم في إضفاء الشرعية على الانقلاب وصناعة وثيقته الأساسية التي سميت تجاوزا بالدستور، كانت تجلس في مواجهته زوجته التي كانت مؤهلة أكثر من غيرها لمنصب السيدة الأولى، بحكم شخصيتها وتاريخها وسفرياتها وتعليمها وعائلتها، لكنها للأسف الشديد لم تنل هذا اللقب الذي بدا في لحظات أنه يقترب منها بشدة. وقد بدأت هذه الزوجة حديثها إلى زوجها باستنكار حاد أن يمنح الرئيس الذي نصب بالأمس الرئيس المؤقت قلادة النيل ولا يمنحها هو، مع أن فضله على الانقلاب أكثر بكثير من فضل الرئيس المؤقت، ومع أن مناصبه السابقة أعلى، ومع أن إسهاماته السياسية أغزر

، ومع أن حاجتها هي نفسها إلى هذه القلادة أشد من حاجة زوجة الرئيس المؤقت التي لم تظهر لها كرامة ولا صورة من باب أولى! كان المرشح الرئاسي أو القطب الانقلابي يستمع مضطرا لأنه يؤمن في قرارة نفسه بكل ما تقوله زوجه وأكثر، ولأنه لا يملك حججا دامغة يرد بها عليها،

فلا هو قادر على أن يقول إنه ليس بحاجة إلى القلادة التي تحفظ له حقه بحيث لا يكون زميله التالي له بخمس سنوات سابقا عليه دوما في البروتوكولات، ولا هو قادر على أن يقول إنه يكفيه أنه فعل ما فعل وقدم وما قدم من أجل الوطن المفدى، لأنه يعرف أنه لم يفكر في الوطن أبدا وإن تحدث عنه كثيرا، ولا هو قادر على أن يقول إن التكريم عرض عليه واعتذر عنه، ولا هو قادر على أن يقول إن الأمر لم يكن يحتمل أن يشترك هو والرئيس المؤقت في نوال التكريم لأن المناسبة لا تحتمل،

ذلك أنه كان ولا يزال يؤمن على الدوام بأنه الأولى بكل شيء. لما يئست الزوجة من أن يرد عليها زوجها غيرت مجرى الحديث، وقالت له: هل تعرف أنك فاتتك فرصة ذهبية كان من الممكن أن تحقق لك كل شيء، لمعت عينا الانقلابي الكبير وسألها عن هذه الفرصة ومتى كانت فهو لا يرى أي فرصة ضاعت منه فقد انتهزها جميعا،

فقالت له: إنها كانت يوم أعلنتم أن الوثيقة التي أعددتموها عادت إليكم مختلفة عن الصيغة التي قدمتموها بها.. كانت فرصة لك لكي تستقيل وتملأ الدينا حديثا عن أنك لن تقبل بهذا، وعند ذاك تصبح بطل الشجاعة والوضوح، فإما أن يسترضيك قادة الانقلاب كي تمرر الموضوع على أنه خطأ من الناسخ أو من الذي طبع أو من الذي دبس وجلد مع أن هؤلاء جميعا لا ذنب لهم، وإما أن يتجاهلوك، فتأتي إلى هنا بطلا من الأبطال. رد الانقلابي على زوجته، وقال لها هل تظنين أنني كنت أستطيع مغادرة مصر بطائرة أو على ظهر جمل؟ يبدو أنك لا تعرفين معنى كلمة العسكر، إنها الذل لأمثالي.... وأمثالك..

وانفجرت الزوجة في بكاء هستيري حتى أن المسؤولين عن المطعم استدعوا لها بدون استئذان طبيبا حقنها بمهدئ ريثما يمكن لها أن تعود إلى الفندق الذي كان لحسن الحظ قريبا من المطعم.

 

في الليلة التالية وفي شارع جانبي متفرع من أحد شوارع وسط مدينة القاهرة جلس المرشح الرئاسي الوحيد الذي اشترك في انتخابات الرئاسة مرتين متتاليتين، وأخذ يستمع إلى تحليل صديقه الصدوق الذي يجمع اسمه بين صفة الأمانة وذكرى التاريخ القديم، وأخذ صديقه يهون عليه ما حدث من انحسار التأييد الذي حققه إلى هذه النسبة المزرية، وأن السبب في هذا لا يعود إلى غدر العسكر وحدهم وإنما يعود أيضا إلى غدر أصدقائهم ممن حقدوا على المرشح الرئاسي أنه وصل إلى مكانة المرشح الرئاسي مرتين متتاليين.

هنا انفجر المرشح الرئاسي -رغم أن آلام التجربة كانت قد أجبرته في الأسابيع الأخيرة على الصمت والهدوء- قائلا: إن ما فعله من أجل الانقلاب كان يستحق أكثر من هذا العدد من الأصوات، ولم يكن يستحق كل هذه الإهانات، لكنه لم يلتفت إلى النصائح العلنية التي وجهها إليه صديقه المؤرخ على الهواء مرات عديدة، وهو يتمنى الآن أن يعود به الزمان إلى الوراء لكي ينخلع من الانقلاب.. قال صديقه: لم تكن هناك يا صديقي أي فرصة للانخلاع فقد كنا في قطار مغلق الأبواب، ومحكم الإغلاق!

قال المرشح الرئاسي: يبدو أنك نسيت شبابنا الحي المفعم بالشقاوة، يا سيدي لم نكن في حاجة إلى باب وإنما كانت الشبابيك كفيلة لنا بالهروب من القطار مرات عديدة، لأن الانقلاب كان يسير بسرعة بطيئة لا تهدد من يقفز من شبابيكه. قال صديقه: وهل كان يمكن أن تقفز وأنت ترتدي هذه البدلة الشيك؟ وهذا "الكرافت" (ربطة عنق) الأنيق، وهذا الشعر المصفوف.

قال المرشح الرئاسي: لقد أفسدتك الحياة وحولتك برجوازيا بينما المسألة محلولة، فأما الجاكيت فتتركه في القطار، وأما "الكرافت" فنمسح به أيدينا التي ستحتك بالأرض عند قفزنا، وأما الشعر فإنه إذا طار في الهواء صار أجمل منه وهو مصفوف، لكننا فوتنا الفرصة.. وها نحن ننتظر أنواعا من القيود أو فلنتلطف ونسميها: السجون. 

المصدر: الدكتور / محمد الجوادى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 200 مشاهدة
نشرت فى 23 مارس 2016 بواسطة tarek2011

ساحة النقاش

قصاقيص الصحافة البيضاء

tarek2011
متابعة مقالات تترجم وتلخص أحداث مصر والعالم وكذلك مواضيع أخرى متنوعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

33,461