حسم عبد الفتاح السيسي الجدل بشأن سد النهضة الإثيوبي. أكد المؤكد وأقر بالثابت: هذا رجل لا يمارس السياسة، ولا يطيقها، بضاعته الوحيدة هي الدجل، والشعوذة، والهروب فوق سحابة من دخان الكلام الذي لا يقيم معنى، ولا يجيب سؤالا."ما تخافوش، الوضع مطمئن، وأنا ما ضيّعتكوش قبل كده، عشان أضيّعكم تاني".العطش على الأبواب، والمهانة القومية في أوجها، والرجل يطلق النكات السخيفة، ولا يبالي بتقديم إجابة قاطعة تبدّد المخاوف المسيطرة على الجميع، بشأن مستقبل النهر.يقرأ الجواب من عنوانه، وقد بدا واضحاً منذ ذهاب السيسي إلى أديس أبابا، مارس/ آذار الماضي، أنه رضي من الزيارة بالاستقبال الرئاسي والتقاط الصور، لضمها إلى ألبوم الشرعية الغائبة.قلت، في ذلك الوقت، إن هذا رجل مولع بالصور والحركات السينمائية، يحرّكه، في كل خطواته، ذلك الوله القاتل بصيحات الجمهور، من الطبيعي، إذن، أن يكون ذهابه إلى إثيوبيا بحثاً عن لقطة، لا دفاعاً عن قطرة مياه النيل.دراما رحلة عبد الفتاح السيسي إلى بلاد الحبشة لا تختلف عن رحلة أنور السادات إلى القدس المحتلة، كلتاهما تراجيديا مؤلمة، أفسدت المستقبل، من أجل لحظة نشوة فردية عابرة، وكلاهما عينه على لجنة تحكيم مهرجان الانسلاخ من استحقاقات التاريخ، وبديهيات الجغرافيا.كلاهما كان يبحث عن ذاته الفردية، ويستدرّ آهات الإعجاب بالقفزة التاريخية، طلباً لمجدٍ شخصي زائف، تعرف الميديا الغربية جيداً كيف تصنعه، وتقدمه في أغلفة أنيقة لكل مهووس بالعظمة والصور التذكارية، وكما ذهب خمر لقب "بطل الحرب والسلام" برأس أنور السادات، ها هو رأس السيسي يشتعل بجنون عظمة ما أسبغه عليه الإثيوبيون من صفات، عقب إذعانه أمام الحلم الحبشي بسد النهضة، وتقديمه صك الاعتراف المجاني بالسد الذي يضع مصر في فوهة العطش، تماماً كما منح السادات صك الاعتراف بالعدو الصهيوني، مُخرجاً مصر من معادلة الصراع، وبانياً سداً شاهقاً بينها وبين محيطها العربي.
سافر السيسي إلى الحبشة، تسبقه عناوين تدير الرأس، تصنّفه أول حاكم مصري تستقبله أديس أبابا في زيارة ثنائية خاصة منذ ثلاثين عاماً، وتصوّره قائداً جسوراً ينسف ألغام التاريخ الشائك، ليتلقفه الإثيوبيون، ويسمعونه ما يدركون أنه مفتون به، فيباغته رئيس الوزراء، هاي ﻻميريام ديسالين، بجملة في منطقته الحساسة "في بلادنا نتفاءل بالزعماء الذين تهطل اﻷمطار عند حضورهم، وأن السيسي حضر وهطلت اﻷمطار في وقت غير معتاد من العام".كان الدجل حاضراً، سلاحاً وحيداً في موضوع سد النهضة منذ البداية، كما كان ملازماً للسيسي وجوقته في كل ما يطرأ من قضايا وإشكاليات، فتتم الاستعاضة عن التفكير العقلي بإشعال البخور وتعبئة المجال بالدخان، لتثبيت صورة "الزعيم المبروك"، هو الأول في الطب، وكرة القدم والفلسفة والحكمة، كما هو الأول في الجيولوجيا ومياه الأنهار، ألم يعلنوا في فبراير/ شباط 2014 أنه يعكف على دراسة مشروع يفتح به نهر النيل على نهر الكونغو، لكي يهزم مشروع سد النهضة الإثيوبي بالضربة القاضية؟هو، إذن، الشخص المناسب للزمن المناسب، ففي فترات تتدفق خلالها شلالات الدجل السياسي وتحفر أخاديد الجهل والانهيار المعرفي، ويعدم العقل والمنطق بالرصاص الحي، وتعلّق القيم على المشانق بأمر الحاكم العسكري، لا يجب أن يفكر أحد في ما يقال، أو يعلن عنه، من إنجازات أسطورية، إلا من عصم ربك من الاستسلام للركاكة والبلادة.ومن الدجل الصحي "جهاز الكفتة"، إلى الدجل المائي "نهر الكونغو"، مضى قارب الأساطير والحكايات الخارقة، ويتم الإعلان عمّا لم يعرفه الأولون، ولن يدركه (بالطبع) الآخرون من أن رجل المعجزات سيمسح بكفّه على وجه النيل العظيم، فيصير نهراً جديداً أطول وأوسع من خلال عناقه مع نهر الكونغو.. على نحو تتوارى معه قصة معمر القذافي مع النهر العظيم خجلاً.يستخدم الرجل ومعاونوه استراتيجية ثابتة في التدليس، تقوم فيها بالدور الأكبر إدارة خاصة لهندسة الأكاذيب والأوهام، تطلق الكذبة، وهي تعرف عمرها الافتراضي، وقبل انتهاء صلاحيتها، تباغت الوعي العام بكذبةٍ جديدة أكبر، يتلهّى بها وينسى القديمة.. وهكذا دواليك.. أو أكاذيب كهذه.
المصدر: وائل قنديل
نشرت فى 1 يناير 2016
بواسطة tarek2011
قصاقيص الصحافة البيضاء
متابعة مقالات تترجم وتلخص أحداث مصر والعالم وكذلك مواضيع أخرى متنوعة »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
33,462
ساحة النقاش