ثالثاً: الأسس الفلسفية :
الفلسفة تعبر عن النشاط الفكري الذي ينشأ استجابة لحاجة اجتماعية ويتأثر ويتلون بظروف المجتمع الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي نحن لا يمكننا أن نفهم منشأ التفكير الفلسفي ووظيفته في إطار ثقافي معين بمشكلاته وصراعاته ، ولكن يمكننا القول بان الفيلسوف إنما يعكس في فلسفته معتقدات عصره ، وألوان الصراع القائمة فيه وهو بطبيعة الحال يعكس هذا كله من موقعه الاجتماعي.
وتهدف فلسفة المجتمع إلى تحقيق فهم أفضل لفكرة الحياة وتكوين المثل الشاملة حولها, وحتى يستطيع المجتمع المحافظة على فلسفتها ونشرها فلا بد له من الاعتماد على فلسفة تربوية خاصة به تكون بمثابة الوسيلة لتحقيق الأفكار والمثل والقيم والمعتقدات التي يؤمن بها ويحرص على تطبيقها في الحياة.ومن هنا نستطيع معرفة العلاقة الوثيقة بين التربية والفلسفة فكل فيلسوف لا بد له من تربية حتى تنشر أفكاره ومعتقداته فلقد قيل بأن الفلسفة والتربية وجهين لعملة واحدة , وأن رجال التربية هم فلاسفة مثل أفلاطون وابن الرشد والغزالي والفارابي وأرسطو وغيرهم .
فإذا كانت الفلسفة هي النشاط الثقافي الذي يعبر فكرياً عن أوضاع الثقافة ومشكلاتها ويحاول تعديلها وتطويرها ، فإن التربية هي ذلك المجهود التطبيقي الذي يهدف إلى ترجمة قيم هذه الفلسفة إلى مفاهيم وعادات واتجاهات ومهارات سلوكية لدى الأفراد ، كما يهدف إلى إحداث تعديل على مستوى المؤسسات الاجتماعية حتى تدعم هذه الاتجاهات والمهارات .
هناك إذن اتصال حيوي بين الفلسفة والتربية ، عبر عنه " جون ديوي " بقوله : الفلسفة هي النظرية العامة للتربية والمنهج باعتباره محتوى العملية التربوية ، فإن كل منهج يؤسس ويبنى على فلسفة تربوية معينة ، وقد تعددت هذه الفلسفات وتنوعت وتداخل بعضها في البعض الآخر ، وانعكس أثرها على المناهج الدراسية بشكل واضح ملموس وكانت النتيجة ازدحام هذه المناهج بالمواد الدراسية المختلفة ، وبأنواع عديدة من النشاط ، وقد عبر" بودا " عن هذه الحالة بقوله بأن مناهج المدارس قد ازدحمت وذلك بإدخال عدد كبير من المواد الدراسية فيها ، يعد بعضها الطلاب للناحية المهنية الشخصية ، ويهدف البعض الآخر إلى تزويدهم بالدراسات الاجتماعية التي تتناول المشكلات الاقتصادية السائدة كما تهدف أنواع أخرى كثيرة منها إلى تثقيف الطلاب في مجالات الفنون والموسيقى .
الفلسفات التربوية:
لقد ظهرت في ميدان التربية عدة مدارس فلسفية كان أساسها الخبرة التعليمية الناتجة عن التفاعل بين التلميذ والبيئة التي يستطيع أن يستجيب إليها ولكل مدرسة فلسفية رأيها في بناء المنهج الدراسي وسنقتصر على فلسفتين أساسيتين هما : الفلسفة الأساسية أو التقليدية , والفلسفة التقدمية .
v الفلسفة الأساسية أو التقليدية أو الجوهرية:
أي مجتمع يملك في مراحل تطوره تراثاً من المعرفة والمهارات والاتجاهات والقيم نتيجة لتراكم المعرفة عبر القرون وترى هذه الفلسفة أن التربية هي عملية حفظ ونقل التراث الاجتماعي ,وأن الوظيفة الأساسية للمدرسة باعتبارها وكيلة عن المجتمع في تربية الأبناء هي نقل التراث الثقافي إليهم من الآباء ووضعه في قالب تربوي مبسط. وتؤكد هذه الفلسفة على أهمية حصول الأطفال على أساسيات المعرفة لاعتقادها أن حصولهم عليها أكثر أهمية لهم من إرضاء دوافعهم أو إخصاب خبراتهم.
v الفلسفة التقدمية:
تتضمن هذه الفلسفة مدارس تربوية متعددة, بعضها يرى أن كل شؤون التربية تدور حول الطفل, وأن واجب المدرسة هو إطلاق وتنمية مواهبه وقدراته,وبعضها يرى أن وظيفة التربية تدور حول مشكلات المجتمع,وتحسين مستوى المعيشة فيه وبعضها يوازن بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع.
الأساس الفلسفي للمنهج التقليدي :
يتضح لنا الأساس الفلسفي للمنهج التقليدي إذا ما رجعنا إلى ذلك الزمن البعيد حيث كان المجتمع اليوناني القديم ينقسم إلى طبقتين : طبقة الأرقاء وهم الأكثرية ، وهؤلاء يتبعون السادة الأحرار ، ويقع عليهم عبء الإنتاج اليومي والعمل الجسماني والمجهود العضلي ، والطبقة الثانية هم السادة الأحرار وهم الأقلية ، وقد عاش هؤلاء السادة فراغاً كبيراً من الوقت ، وكانت ممارسة الألعاب والفنون المختلفة هي كل ما يشغلهم ، وباختصار يمكننا القول أن السادة الأحرار كان طابعهم التأمل والنظر ، أما العبيد فكان طابعهم العمل والإنتاج ، وأنتج هذا المجتمع - بتكوينه الطبقي هذا – مجموعة من المسلمات يمكن توضيحها كما يلي :
· إن العمل منفصل عن الفكر ، وأن الفكر يسمو على العمل ، وهو من شان السادة الأحرار .
· إن المعرفة العملية غرضها الحصول على ناتج عمل ، وفي رأي الفلاسفة اليونان الأحرار إن ما يسعى إلى غرض فهو ناقص غير كامل .
· أن المعرفة التأملية تفوق المعرفة العملية .
· أن المعرفة التأملية هي مصدر الحقيقة .
· إن الإنسان ينقسم إلى عقل وجسم ، والجزء الناشط فيه هو العقل ؛ لأن موضوعه المعرفة المطلقة المستقلة عن الزمان والمكان .
· المعرفة ليست وسيلة من وسائل مواجهة الحياة أو الإنتاج ، وإنما المعرفة سبيلها العقل الذي هو وسيلة الإنسان إلى المطلق .
· الثقافة – إذن – تصبح هي تلك الحقائق المطلقة التي وصل إليها العقل الإنساني .
.
الأساس الفلسفي للمنهج التقدمي :
بانهيار الإقطاع وقيام الدولة القومية الجديدة ، وبتغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ، فإن المدرسة بتمسكها بالمنهج التقليدي صارت كجزيرة منعزلة عن الحياة الاجتماعية ، إذن فهناك تناقض حاد بين ما هو مطلوب من المدرسة كمؤسسة اجتماعية ، وبين واقع البرامج التربوية ، وليس من حل لهذا التناقض إلا بظهور فلسفات تربوية حديثة تتوازي مع التغيير الثقافي الجديد ، وتقوم عليه ، واستطاعت هذه الفلسفات أن تقدم ما أسمته " بالمناهج التقدمية ".
ونظرة على الواقع الاجتماعي الجديد ، نجد أن المجتمع الذي قام على أنقاض النظام الإقطاعي القديم يؤكد شعار دعه يعمل ... دعه يمر في علاقات اجتماعية جديدة قوامها الحرية الفردية – الفرد بحسب ميوله ورغباته وحاجاته وأهوائه .
وكان على التربية إذن أن تسلح الفرد بالمهارات والقدرات والكفاءات وطرق التفكير العلمي ، وحل المشكلات ؛ حتى يواجه بها أعباء المجتمع الجديد ، وحياته الواسعة العريضة ذات المجالات المتعددة التي تتطلب منه النشاط والجهد الفردي .
ومن أهم مسلمات هذه الفلسفة :
· لم تعد نظريات العلم حقيقة إلا بالتطبيق ، ولم تعد وسيلتنا إليها إلا بالتجريب ، ومعيار الصدق والحقيقة في ذلك هو ما ينفع وما ينجح في حل المشكلات والتغلب عليها .
· لم تعد المعرفة هي المعرفة بالمطلق خارج الزمان والمكان ، بل أصبحت المعرفة – معرفة الواقع المتجدد المتغير – معرفة نسبية ، وليس لها من مصدر سوى خبرة الإنسان في البيئة ومع الناس ، والتطبيق والمنفعة هي تمام المعرفة .
· لم يعد العقل جوهراً محمولاً في جسم ؛ فنشاط الجسم شرط نشاط العقل ، والعقل ليس جوهراً إنه نشاط ، ومن العمل والنشاط تتولد المعاني ويدور الفكر ، وتتجمع المعرفة ، والتعلم الإنساني إذن إنما هو موقف أو مشكلة تنازع الإنسان عليها ، وعليه التغلب عليها والخروج منها .
· لم يعد علم النفس قوامه نظريات التدريب الشكلي التي نشأت في المجتمع الإقطاعي ، بل تحول علم النفس بنظر إلى الإنسان على أنه كيان حي يعمل ككل ليست أجزاؤه منفصلة ، إنما هي مظاهر لعمل متكامل صادر عن الكائن الحي كوحدة متكاملة ، ويقوم هذا الإطار على فلسفة تربوية واحدة هدفها مساعدة الأفراد على مواجهة الحياة وتحقيق التكيف مع هذا الواقع المتغير ، وذلك بتنمية صفات المبادرة الفردية ، والاعتماد علي النفس ، والتفكير الذي يعني استخدام التلميذ كل ما هو مألوف من عناصر ومواقف كوسيلة للكشف عن الجديد للتحكم فيها ، ومقابلة مواقف جديدة أخرى ... وهكذا .
النقد الذي وجه للفلسفة التقدمية:
ومن بين المنتقدين وليم باجلي حيث قال في نقده ما يلي:
· أن الطفل الذي تعلم وفق طرق الفلسفة الحديثة لا يستطيع أن يجاري طفلاً آخر تعلم بالطرق التقليدية في المواد الدراسية المختلفة .
· الطرق التعليمية الحديثة كانت لينة إلى درجة أدت إلى انتشار الجرائم الخطيرة بين الشباب .
· لقد أدى الاهتمام بميول وحاجات التلاميذ ومنحهم الكثير من الحريات غير المحدودة والاعتماد الكبير على خبراتهم إلى تكوين اتجاهات خطيرة أضعفت المستويات الثقافية والأخلاقية العامة في المجتمع .
ساحة النقاش