مقدمة

الرائد .. كلمة خلاّبة جذابة، ولقب شرفي؛ يسعى كل إنسان الوصول إليه؛ ليُلصق بجوار اسمه؛ فيُكتب له البقاء والخلود في سجلات التاريخ. فمن منّا لا يتمنى – في حياته، أو بعد مماته – أن يُقال عنه: إنه الرائد في هذا المجال، أو ذاك؟ ولكن .. ما معنى الريادة؟! هل الريادة قيام شخص بعمل غير مسبوق؟! أم أن الريادة قيام شخص بعمل خارق، يؤثر من خلاله في الآخرين، ومن ثم يقتدي به الآخرون؛ بغض النظر عن كونه الأول في هذا العمل؟! والواضح أن معنى السبق، هو المعنى الحقيقي للريادة تاريخياً، وهو المعنى المُتعارف عليه. أما التأثير في الغير، والاقتداء بالعمل الخارق؛ فهو المعنى الواقعي للريادة، المستخدم في كتاباتنا المعاصرة.

وإذا أخذنا مريانا مرّاش (1840-1919م) الحلبية مثالاً على ذلك، بوصفها رائدة الصحافة العربية تاريخياً، وطرحنا هذا السؤال: هل مريانا رائدة – في الحقيقة - كونها أول امرأة تنشر عملاً كتابياً في الصحافة العربية؟! أم إنها رائدة – في الواقع - كون عملها الأول في الصحافة؛ كان بمثابة عمل خارق ذي أثر وتأثير في تاريخ الصحافة العربية؟! العجيب أن كل من كتب عن مريانا مرّاش اهتم بريادتها في الحقيقة التاريخية؛ كونها صاحبة أول عمل منشور في الصحف العربية، ولم يهتم بريادتها في الواقع من حيث الأثر والتأثير!! وربما السبب في ذلك أن الكُتّاب ظنوا – من وجهة نظري - أن ما كتبته مريانا لا أثر له، ولا تأثير؛ لأنه محاولة أوّلية لا ترقى إلى الكتابات ذات الأثر والتأثير؛ خصوصاً وأن الحصول على عملها الأول المنشور في الصحف العربية عام 1870م – للتعرّف على قيمته - يُعد ضرباً من المستحيل!

يُضاف إلى ذلك أن أول من ألبس مريانا مرّاش تاج الريادة الصحفية، هو الفيكونت فيليب دي طرازي - أشهر مؤرخي الصحافة العربية على الإطلاق - صاحب كتاب (تاريخ الصحافة العربية) المنشور عام 1913م؛ لأنه أول من كتب ترجمة شاملة عن مريانا مراش في كتابه هذا، تحت عنوان "مريانا مراش أوّل سيدة عربية كتبت في الصحف السيارة" ([1])، أي أنها الرائدة الحقيقية الأولى! وهذا العنوان توارثه كل من كتب عن مريانا، وأثبته كل من كتب عن تاريخ الصحافة العربية، أو أشار إلى دور المرأة في مجال الصحافة العربية. وهكذا أصبحت ريادة مريانا مراش للصحافة العربية ثابتة راسخة؛ لا ينازعها فيها أحد.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: من أين جاء طرازي بمعلومة (أن مريانا مراش هي الرائدة، وأنها أول سيدة كتبت في الصحف العربية)؟ والإجابة تحتمل ثلاثة وجوه: الأول، أن هذه المعلومة استقاها، أو نقلها طرازي من كتابات سابقة. والثاني، أنه اطلع بنفسه على كتابات مريانا الأولى، وتحقق من أنها أول امرأة كتبت في الصحافة العربية. والوجه الأخير، أن شخصاً ما كتب – أو تدخل في كتابة – ترجمة مريانا مرّاش؛ وربما هذا الشخص يكون مريانا نفسها، التي كتبت عبارة الريادة! ولنناقش هذه الوجوه بشيء من التفصيل.

بالنسبة للوجه الأول، سنجد أن فيليب طرازي كتب على غلاف كتابه (تاريخ الصحافة العربية)، بأنه :" يحتوي على أخبار كل جريدة ومجلة عربية ظهرت في العالم شرقاً وغرباً مع رسوم أصحابها والمحررين فيها وتراجم مشاهيرهم" ([2]). وهذه العبارة تنم عن مدى الجهد المبذول في هذا الكتاب، وهو جهد كبير أسهم الغير فيه! فقد راسل طرازي أصحاب هذه الجرائد والمجلات؛ كي يمدوه بنسخ منها – كما جاء في الكتاب ([3]) – أما معظم تراجم المشاهير؛ فكانت منقولة من الكتابات السابقة، أي قبل عام 1913م، وهو عام ظهور كتاب طرازي. فعلى سبيل المثال نجد ترجمة لفرنسيس مراش (1836-1873م) – شقيق مريانا – وقد نقلها طرازي من كتاب لويس شيخو (تاريخ الآداب العربية) المنشور عام 1910م. كما نجد ترجمة أخرى لعبد الله مراش (1839-1899م) – شقيق مريانا أيضاً – نقلها طرازي من مجلة (الضياء) عام 1900م ([4]). أما ترجمته لمريانا مراش فلم نجد لها أصلاً في الكتابات السابقة، ولم يكتب أحد عن مريانا قبل طرازي، سوى لويس شيخو في كتابه – سالف الذكر – حيث كتب الآتي: هي "من الأسرة المرّاشية الحلبية الشهيرة، امتازت في وطنها بين بنات جنسها بوضع المقالات الأدبية وبنظم الشعر وخلفت منه ديواناً بعنوان (بنت فكر) نُشر في بيروت سنة 1893م" ([5]). وهذه العبارات المقتضبة لم يذكر فيها شيخو بأن مريانا رائدة الصحافة العربية، بل أشار إلى ريادتها السورية في هذا المجال، وما جاء به شيخو لا يُعد شيئاً بجانب ما جاء به طرازي عن مريانا! وبذلك يتضح لنا أن ترجمة طرازي لمريانا؛ لم تكن منقولة من الكتابات السابقة، وبالتالي فطرازي هو صاحب مقولة ريادة مريانا للصحافة العربية .. ويظل السؤال مطروحاً: من أين أتى طرازي بهذه المقولة؟! وربما الوجه الثاني يجيب عليه.

الوجه الثاني يقول: إن فيليب طرازي – بما له من باع طويل في هذا المجال – ربما اطلع بنفسه على كتابات مريانا، ووصل إلى حقيقة مفادها؛ إن مريانا مراش هي أسبق بنات جنسها في نشر المقالات الصحفية. وهذه الحقيقة عبّر عنها طرازي بقوله: "وأول مقالة رأيناها لها (شامة الجنان) نشرتها في مجلة (الجنان) في الجزء الخامس عشر لعامها الأول سنة 1870م" ([6]). وهذا يعني أن أول مقالة صحفية كُتبت بيد امرأة عربية، هي (شامة الجنان) لمريانا مراش، وبالتالي فلها السبق .. أي لها الريادة الحقيقية التاريخية في هذا المضمار. ولكن المفاجأة أن فيليب طرازي – على ما أعتقد – لم يكن دقيقاً؛ عندما اطلع على مجلة الجنان – إن كان اطلع عليها بالفعل - ولم يتحقق من كون مقالة (شامة الجنان)، هي أول مقالة صحفية منشورة من قبل امرأة عربية!! لأن أول مقالة صحفية منشورة كانت بعنوان (هنري وإميليا) "من قلم الست أديليد بستاني" – كما جاء في المقالة - ونُشرت في قسمين بمجلة الجنان أيضاً، الأول منها نُشر في المجلد الثاني للسنة الأولى - الجزء الثاني عشر، يونيو 1870م، ص(366، 367) – والقسم الآخر نُشر أيضاً في المجلد الثاني للسنة الأولى - الجزء الثالث عشر، يوليو 1870م، ص(404-407) – أما مقالة مريانا (شامة الجنان) فقد نُشرت في المجلد الثاني للسنة الأولى – في الجزء الخامس عشر - عام 1870م، ص(467-468)، أي بعد مقالة (هنري وإميليا) بستين صفحة، وبعد أكثر من شهر تقريباً.

وبناءً على ذلك تكون السيدة (أديليد البستاني)، هي أول امرأة كتبت في الصحافة العربية، أي إنها رائدة الصحافة العربية من حيث الحقيقة التاريخية! لا سيما أن صاحب المجلة (بطرس البستاني 1819-1883م) – أو مديرها (سليم البستاني 1848-1884م) - أقرّ ضمناً بهذه الريادة، وكتب ملاحظة في نهاية مقالة (هنري وإيميليا)، قال فيها: "إذ كان بعض السيدات يشاركن السادة في قراءة الجنان، يحق للسادة أن يكون لهم شيء من قلم السيدات الرائق اللطيف، وها قد انفتح باب الجنان للسيدات". وهذا القول يثبت دون أدنى شك أن مقالة (هنري وإيميليا) لأديليد البستاني، هي أول مقالة منشورة في الصحف العربية، ومن خلالها فُتح الباب أمام الكاتبات العربيات. وهذا الاكتشاف الجديد يقوي اعتقادنا بأن فيليب طرازي لم يطلع على مجلة الجنان، ولم يتحقق من كون مريانا لها السبق في نشر المقالات الصحفية. فلو اطلع طرازي حقيقة؛ لكان أثبت الريادة لأديليد البستاني. ويظل السؤال عالقاً: من أين أتى طرازي بمقولة ريادة مريانا للصحافة العربية، طالما أنه لم ينقلها من السابقين، ولم يتحقق بنفسه من هذه الريادة؟ لعلنا نجد الإجابة في الوجه الأخير!

لم يبق أمامنا سوى القول بأن عبارة ريادة مريانا مراش للصحافة العربية؛ لم ينقلها طرازي من سابقين، ولم يتثبت من حقيقتها بنفسه، بل جاءته من شخص آخر، تدخل في الترجمة، وهذا الشخص له علاقة وطيدة بصاحبة الترجمة، إن لم يكن هو مريانا مرّاش نفسها!! والدليل على ذلك أن ترجمات أعلام الصحافة العربية المنشورة في كتاب طرازي، تنقسم إلى قسمين: الأول ترجمات المتوفّين، وهي ترجمات كان ينقلها طرازي من الكتابات السابقة، وكان يشير إليها دائماً. والآخر يتعلق بترجمات الأحياء، وهي ترجمات لا مصادر لها أو مراجع، ولم تكن منشورة في كتابات سابقة – في أغلبها الأعم – ولم يذكر طرازي من أين جاء بها، وبالتالي أصبحت هذه التراجم المراجع الأساسية في جميع الكتابات - التي جاءت بعد كتاب طرازي - ومنها ترجمة مريانا مراش.

وفي ظني أن فيليب طرازي كان يُراسل هؤلاء الأعلام الأحياء؛ كي يستقي منهم المعلومات المتعلقة بهم، أو يطالبهم بكتابة ترجماتهم بأنفسهم، أو يأخذ رأيهم فيما يكتبه عنهم .. إلخ. والدليل على ذلك ما كتبه طرازي من ترجمة ليعقوب صنوع – في كتابه (تاريخ الصحافة العربية) ([7]) - تلك الترجمة التي أصبحت أساساً راسخاً في جميع الكتابات التي كُتبت عن صنوع. فمن العسير أن تجد كاتباً كتب عن صنوع، دون أن تجد كتاب طرازي ضمن مراجعه الأساسية. وحتى وقت قريب لم نكتشف من أين جاء طرازي بترجمة صنوع. وهذا الأمر يتطابق تطابقاً تاماً مع ترجمة مريانا مراش. فإذا عرفنا أسلوب طرازي في جمع معلوماته عن صنوع، سنكتشف كذلك أسلوبه في الحصول على معلوماته عن مريانا.

نُشر في لندن عام 1987م كتاب بعنوان (يهود مصر)، قدّم له (شيمون شامير) به مجموعة من الدراسات، منها دراسة (شمويل موريه Shmuel Moreh) بعنوان (يعقوب صنوع: صفاته الدينية وعمله في المسرح والصحافة وفقاً لأرشيف العائلة Ya’qub Sanu’: His Religious Identity and Work in the Theater and Journalism, According to the Family Archive). وفي نهاية هذه الدراسة ملحق به سبعة عشر خطاباً - من صنوع وإليه - في الفترة ما بين عامي 1881 و1911م. ضمن هذه الخطابات خطاب من طرازي إلى صنوع مؤرخ في 25/1/1911م، يقول في مقدمته: " قياماً بالوعد مُرسل لك صورة الترجمة التي نظمتها، وهي تتضمن مختصر تاريخ حياتك الطافحة بكل لذيذ ومفيد، وهي عشر صفحات". ويختتم طرازي خطابه بقوله: " أظن يا حضرة الشيخ المهذب أن الترجمة توافق ذوقك .... إذا رأيتم أني قصّرت في أشياء أو أخطأت في سواها فالرجا أن تنبهوني كي أجري اللازم قبل طبع كتابي. واعلموا أني حتى الآن ما كتبت لأحد الصحافيين ترجمة نظير ترجمتك حتى لأحمد فارس [الشدياق] نفسه، ورفاعة بك الطهطاوي، ورزق الله حسون، وعبد الله النديم، وغيرهم مثل جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وبشارة باشا تقلا، والكونت دحداح، وبعض المشاهير. ومن ذلك تتأكد عظيم اعتباري لشخصك ". فكتب صنوع رداً مطولاً، ما يهمنا فيه قوله: " قلت في ابتداء الصفحة الثانية (فتبع الفتى حينئذ دين الإسلام) المرجو حذف هذا لأني لم أغيّر اعتقاد والديّ ... إني من بني إسرائيل" ([8]).

وهكذا يتضح لنا أن فيليب طرازي كان يُطلع الأحياء من أعلام الصحافة العربية على ترجماتهم قبل نشرها في كتابه، وكان يأخذ رأيهم فيها؛ سواء بالحذف أو الإضافة .. إلخ ما كشفته هذه المراسلات، التي تؤيد قولنا بأن مريانا مراش – مثلها مثل صنوع – اطلعت وتدخلت في ترجمتها المنشورة في كتاب طرازي، ومن المحتمل أن عبارة الريادة من وضعها الشخصي، إن لم تكن هي صاحبة الترجمة برمتها، والأدلة على ذلك كثيرة، منها معلومات شخصية ذُكرت لا يستطيع معرفتها إلا الشخص نفسه – خصوصاً وأنها معلومات لم تُنشر من قبل – مثل أن والدها – أثناء طفولتها - كان كثير السفر والتغيب عن بيته، وأنها دخلت المدرسة المارونية في سن الخامسة، ثم انتقلت إلى المدرسة الإنجيلية، وأن والدها علّمها الصرف والنحو والعروض، وهي في سن الخامسة عشر، وأنها درست فن الموسيقى وأتقنته جيداً دون أستاذ .. إلخ هذه المعلومات الشخصية الدقيقة.

إذن أصبح جلياً الآن .. أن مريانا – أو شخصية أخرى على علاقة وطيدة بها - هي صاحبة مقولة الريادة، وأن هذه الريادة في الحقيقة التاريخية لم تكن من حقها؛ بل من حق أديليد البستاني!! وهذا يعني أن تاج الريادة يجب أن يُرفع من على رأس ماريانا، بعد أن تقلدته ما يقرب من 140 سنة، وأن يُوضع الآن على رأس صاحبته أديليد البستاني، الرائدة الأولى الحقيقية تاريخياً. ولكن .. هل الأسرة المرّاشية الحلبية، ذات الشهرة الأدبية الكبيرة منذ القرن الثامن عشر، ورموزها مثل: الشهيد (بطرس مراش) جدّ مريانا، الذي استشهد في سبيل دينه، و(فتح الله مراش) والد مريانا .. الأديب الكبير صاحب المخطوطات اللغوية والأدبية العديدة، و(فرنسيس مراش)، و(عبد الله مراش) – شقيقا مريانا - وهما من أشهر أدباء القرن التاسع عشر .. هل هذه الأسرة برموزها الأدبية تنجب فتاة .. تدعي ريادة ليست من حقها؟!!

الإجابة عن هذا السؤال تتمثل في مفهوم الريادة عند مريانا! فهل مارينا كانت تقصد بريادتها .. الريادة في الحقيقة أم في الواقع؟! وبمعنى أوضح: هل مريانا تقصد أنها رائدة الصحافة في الحقيقة من حيث كونها صاحبة الموضوع الأول المنشور في الصحافة تاريخياً، أم إنها تقصد الريادة في الواقع من حيث كونها صاحبة الموضوع الأول، المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها؟! في ظني أنها تقصد الريادة في الواقع، ولكن فيليب طرازي، ومن نقل عنه فيما بعد، فهموا ريادتها من حيث الحقيقة. والدليل على ذلك أن قسطاكي الحمصي عام 1925م، ترجم لمريانا دون الاعتماد على ما كتبه طرازي عنها، فلم يذكر ريادتها للصحافة العربية ([9])، بعكس سامي الكيالي الذي اعتمد على طرازي في تلك الريادة، قائلاً عن مريانا عام 1957م: "إنها أول أديبة سورية كتبت في الصحف كما روى الفيكونت دي طرازي صاحب كتاب تاريخ الصحافة العربية" ([10]). إذن مريانا بريئة من إدعاء الريادة في الحقيقة؛ كما فهما الآخرون، وأنها محقّة في ادعاء الريادة في الواقع؛ كما كانت تعتقد. وربما الفيصل في هذا الأمر، هو التعرف إلى ما كتبته كلتا الرائدتين – أديليد ومريانا - ولنقف على ريادتهما من حيث الحقيقة والواقع.

قلت فيما سبق: إن الحصول على مقالة مريانا الأولى (شامة الجنان)، هو ضرب من المستحيل!! ولكن هذا المستحيل تحقق بالفعل، واستطعت الحصول على هذه المقالة - ومقالة أديليد البستاني أيضاً - حيث وجدت أعداد مجلة الجنان في سنتها الأولى، مازالت محفوظة في دير الآباء الدومينكان بالقاهرة. وإذا نظرنا إلى مقالة (هنري وإيميليا)، بوصفها أول عمل كتابي نسائي منشور في تاريخ الصحافة العربية، سنكتشف ريادة جديدة تُضاف إلى السيدة (أديليد البستاني)، وهي ريادة القصة القصيرة! فالمقالة عبارة عن قصة قصيرة، تدور أحداثها حول رابطة الحب الشريف، التي جمعت بين هنري وإيميليا، وتدخل الحسد من قبل صديقتي إيميليا – حنّة ومرتا - عندما قامتا بتدبير مؤامرة؛ لإشعال نار الغيرة بين الحبيبين، وتنجح المؤامرة في إبعاد الحبيبين فترة من الزمن، ولكن حنّة تندم على فعلتها، وتعترف بجريمتها، وتنتهي القصة بزواج هنري من إيميليا. وحسب علمي أن هذه القصة، هي أول قصة عربية قصيرة مؤلفة – أو مُعرّبة أو مترجمة - من قبل سيدة عربية، منشورة في الصحافة العربية. وبذلك تكون (أديليد البستاني) – في الحقيقة - رائدة الصحافة العربية، وأيضاً رائدة القصة القصيرة العربية تاريخياً.

أما مقالة (شامة الجنان) لمريانا مرّاش، فكانت مقالة هادفة ذات فكرة محددة، حاولت فيها مريانا إبعاد صفتي البُخل والجُبن عن بنات جنسها من خلال إلصاق صفة الحرص بدلاً من البخل، والشجاعة الأدبية بدلاً من الجبن. والواضح أن فكرة المقالة، كانت إفرازاً طبيعياً لعملية عقلية ذهنية عايشتها مريانا، وأصبحت قضية تشغلها فترة من الزمن، وما أن اختمرت في ذهنها، واكتملت جوانبها، أنتجتها في هذه المقالة، التي تحمل عنواناً فريداً (شامة الجنان)؛ أي (علامة الجنان)، أي المقالة البارزة لمجلة الجنان، أو الصفة المميزة للمجلة .. إلخ هذه المعاني، التي تثبت أن هذه المقالة بصمة غير مسبوقة لأفكارها ولصاحبتها. وفي ظني أن هذا العنوان لم تكتبه مريانا، بل هو من أفكار صاحب المجلة بطرس البستاني – أو مديرها سليم البستاني – لأنه عنوان لم يُكتب على رأس المقالة، بل جاء على رأس الصفحة التي نشرت فيها المقالة – مع نهاية مقالة سابقة أخرى بعنوان (المحاكمات في مصر) – والدليل على ذلك أن بداية المقالة جاءت منشورة هكذا: "ورد إلينا من حلب من قلم السيدة مريانا فتح الله مراش شقيقة فرنسيس أفندي مراش المشهور ما يأتي"، ثم بدأت المقالة ببيتين للمتنبي. وإذا كانت مريانا كتبت عنواناً لمقالتها، لكانت المجلة أشارت إليه في قولها السابق. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن إدارة المجلة، وجدت فيما كتبته مريانا ما يُعد ريادة فكرية، تستحق أن تعنون بـ(شامة الجنان).

ومن الجدير بالذكر إن مريانا لم تبث أفكارها – في هذه المقالة – بصورة بدائية أوّلية، بل بثتها بصورة احترافية، تنم عن مقدرة وريادة واقعية مستحقة، حيث عززت أفكارها بوسائل متنوعة، منها: التمثيل، عندما تحدثت عن مكانة المرأة المتمدنة في أوروبا، والاستشهاد، عندما استشهدت ببيتين للمتنبي، وصف فيهما المرأة بالبخل والجبن، قائلاً:

بِنَفسي الخَيالُ الزائِري بَعدَ هَجعَةٍ       وَقَولَتُهُ لي بَعدَنا الغُمضَ تَطعَمُ

سَلامٌ فَلَولا الخَوفُ وَالبُخلُ عِندَهُ        لَقُلتُ أَبـو حَفصٍ عَلَينا المُسَلِّمُ

أما المقارنة بين الرجال والنساء  – كوسيلة لتعزيز فكرتها - فقد استخدمتها مريانا كثيراً في مقالتها، كذلك التعليل، كان من الوسائل المستخدمة، لا سيما في شرحها لبيتي المتنبي، قائلة: "فقد حق للشاعر بعصره أن يتغزل بهاتين الصفتين في النساء لأنه وقتئذ كان دأب الرجال الغزو والضرب والنهب وأخذ الثأر. وأما النساء فكن محجوبات في خدورهن". كما استخدمت مريانا التفسير كوسيلة من وسائل تعزيز فكرتها، عندما فسرت المقصود بالشجاعة الأدبية؛ بأنها "الصبر على الحوادث واحتمال الأكدار والكوارث" لا "الجسارة والاقتحام نظير الرجال". ولم تكتف مريانا بما أوردته من أفكار، بل بثت في مقالتها دعوة جريئة لبنات جنسها – في هذا الوقت المبكر - بدفعهن إلى الإسهام في ميدان الآداب والمعارف، قائلة: "هلمنّ بنا نتسابق في ميدان الآداب والمعارف، ولا نصغى لما اقترف به علينا بعض المغرضين بنفيهم عنا صلاحيتها". وأخيراً اختتمت مريانا مقالتها ذات الأفكار الرائدة، بدعوة بنات جنسها إلى الكتابة في مجلة الجنان، قائلة: "فلنتمنطق إذاً بالحكمة والفطنة، ولنتحلّ باللطافة والدعة، ولنتكلل بزهور ذلك الجنان الذي قد تفضل بستانيه الفاضل بفتح بابه لنا لتنزهات أفكارنا واقتطاف أثمار الفوائد منه رافعات رؤوسنا بالافتخار والنصر، ولا نكن في جبن وبخل كما قيل عنّا فنعم الجنان والرضوان".

ومما سبق يتضح لنا ريادتان نسائيتان، الأولى ريادة حقيقية - من حيث السبق - لأديليد البستاني، والأخرى ريادة واقعية - من حيث الأفكار والدعوات الجريئة - لمريانا مرّاش؛ ولكن هذا الحكم، يظل حكماً نظرياً فاقداً للتطبيق العملي، ويحتاج منّا إلى تتبع هاتين الريادتين؛ لنتعرّف إلى أثرهما في الكتابات النسائية فيما بعد؛ لأن من المحتمل أن أديليد البستاني، تكون قد أثرت في غيرها بما كتبته، حتى ولو كان إبداعاً قصصياً؟! أليست قصتها القصيرة، (هنري وإيميليا)، تحمل أفكاراً ودعوات بنبذ الحسد والغيرة بين النساء؟!

لقد تتبعت أعداد مجلة الجنان، التي صدرت بعد مقالتي أديليد ومريانا، ووجدت مقالة منشورة بعنوان (التربية) – في المجلد الأول للسنة الثانية، الجزء الثاني عام 1871م – "من قلم السيدة وستين مسرة زوجة سليم أفندي حموي في الإسكندرية"، التي أشارت إلى الكتابات النسائية السابقة، قائلة لصاحب المجلة: "أجليت عياني بما تكرمت بنظمه الست أديليد بستاني بجزء 12 و13 المعنون بهنري وإميليا". وبعد عدة أسطر قالت أيضاً: "على أنني لا أغفل عن مدح محاسن ما أتت به السيدة مريانا فتح الله مراش بجملتها المعنونة شامة الجنان". وإذا قارنا بين العبارتين، سنجد أن الكاتبة تُشير فقط إلى أسبقية أديليد في الكتابة، وتحدد عملها بأنه كان نظماً. وربما في مفهوم الكاتبة أن النظم – الذي يعني الشعر – هو الإبداع الأدبي عموماً، شعراً كان أم قصة. أما ما ذكرته عن مريانا فيحمل المدح الكبير لما جاءت به من أفكار مؤثرة، وإن لم تكن بصورة صريحة. ولكن المقارنة تفيد بأن الكاتبة – ضمناً – تأثرت بما كتبته مريانا، ولم تتأثر بما نظمته أديليد.

والدليل على هذا الطرح؛ أن الكاتبة تبنت معظم أفكار مريانا، مرة بمعناها، وأخرى بفحواها. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قولها: "وقد اعتصمت بحبل الأمل وقلت لا بُدّ من يوم نطرد فيه عناء الخوف والوجل ونرمح في ميادين الأدب بالقول والعمل". وبعد عدة أسطر، نجدها تقول: "فما لنا لا نخلع عنا أثواب التواني والكسل. ونلبس أثواب النشاط ونقدم على العمل، ونحن من بنات القرن التاسع عشر الذي فاق بالتمدن كل قرون البشر. كيف لا نبين للرجال لزوم دخول النساء إلى جنات العلوم الأدبية". وأخيراً نجدها تقول: "هيا بنا نتسابق إلى جني ثمار العلم والآداب. فتنفتح لنا في منازل الفضل أبواب. فإن قال الرجال إنكن لا تزلن مقصرات. نجيب بالصبر والثبات تنال الغايات". وهذه الأقوال - في مجملها – هي أفكار مريانا، التي بثتها أول مرة في مقالتها (شامة الجنان)، وهذا يعني أن أثرها كان واضحاً جلياً في الكتابات النسائية فيما بعد. ومن الجدير بالذكر أن السيدة وستين مسرة، تأثرت بأفكار مريانا، لا من أجل تكرارها؛ بل من أجل البناء عليها في مقالتها (التربية)، التي عالجت فيها الأسلوب الأمثل في تربية الأبناء؛ أي أن أفكار مريانا دفعت الكاتبة وستين إلى التوسع في معالجة الأمور، والابتكار فيها؛ وربما أصبحت أفكار مريانا أساس مقالات وستين مسرة؛ التي كتبتها في مجلة زوجها  - سليم حموي – (الكوكب الشرقي)، التي أصدرها عام 1873م ([11]).

لم تكتف مريانا بأثر أفكارها في كتابات غيرها من النساء - وتقلدها ريادة الصحافة في الواقع - فقررت أن تقتحم  - في مقالتها الثانية – مجال النقد الصحفي، لتثبت أن ريادتها؛ ريادة ملموسة على أرض الواقع. ولشدة جرأة هذه الرائدة، أنها اختارت في نقدها أسلوب الهجوم على كتابات الغير، وحددت موضوعها بالهجوم على من يكتب في غير مجاله – أو تخصصه – فيضطر إلى تدعيم كتاباته بأفكار مسروقة من المختصين، وعنونت مقالتها بـ(جنون القلم)، ونشرتها في مجلة الجنان أيضاً – السنة الثانية، الجزء الثالث عشر 1871م، ص(444-445) – وقد عبّرت عن أصحاب هذا القلم المجنون بأنهم "أخذوا يسرقون له من أثمار بعض أراضٍ فلحها وحرثها غيرهم، ويأتون بها فيمزجونها بعقاقير أفكار وحشة عديمة الفلاح ويغذونه بها. وجمعوا له أيضاً بعض حُلي مسروقة من أغنياء العقول وتأليفات الذين صرفوا حياتهم بالجد والتعب إلى أن كنزوها فسرقت منهم ليلاً". واختتمت مريانا مقالتها ببيت للناصيف اليازجي (1800-1871م)، قال فيه:

ما كلُ من قالَ القوافي شاعرٌ       هيهاتِ يَطعنُ كلُّ من حَمَلَ القَنا

وعلى الرغم من جرأة مريانا فيما طرحته من نقد في هذه المقالة، إلا أننا لم نجد أثراً له فيما كتبته النساء – فيما بعد طوال ثلاث سنوات – خلافاً لما وجدناه من أثر لأفكار مقالتها الأولى – وكذلك مقالة التربية لوستين مسرة – في مقالة (في النساء) "من قلم حضرة الست فريدة قرينة المرحوم منصور شكور"، التي نشرتها في الجنان أيضاً – بتاريخ 15/4/1874، ص(271-272) – وفي هذه المقالة أعادت الكاتبة صياغة أفكار مريانا ووستين؛ لتعالج موضوعها عن تربية البنات من أجل إعداد الأسرة المتمدنة مستقبلاً. وفي العام التالي نشرت الكاتبة نفسها – السيدة فريدة – مقالتها الثانية (التقدم الحقيقي) – في الجنان بتاريخ 1/6/1875، ص(374-376) – وفيها استخدمت أيضاً أفكار مريانا ووستين في معالجة موضوعها الجديد عن تعليم البنات؛ بمناسبة افتتاح مدرسة السيوفية للبنات في القاهرة.

ويمكننا إجمال أفكار مريانا الأولى - التي تطورت، وتوسعت على يد السيدتين: وستين وفريدة – في الدعوة إلى تحلي النساء بالشجاعة الأدبية، والإسهام بالقول والعمل في مجالي الآداب والمعارف، والمشاركة بكتاباتهن في الصحافة، واتخاذهن أفضل الأساليب في تربية أبنائهن، والاهتمام بتعليم البنات. وهذه الدعوات في العقد السابع من القرن التاسع عشر، كانت بمثابة أحلام خطتها المرأة على الورق؛ ولكن هذا الورق طُبع، وأصبح متداولاً بين القُراء في شكل مجلة سيارة، يطلع عليها المثقفون والأدباء.

ومن المحتمل - المؤكد - أن هذه الأفكار شغلت أغلب النساء وقتئذ؛ فقامت مجموعة منهن بتكوين جمعية علمية أدبية نسائية عام 1880م، أُطلق عليها اسم (باكورة سورية)! واللافت للنظر أن أهداف هذه الجمعية، كانت مستوحاة من أفكار مريانا ووستين وفريدة، مثل؛ ترويض عقول النساء " بالخطب والمباحثات العلمية والأدبية، والنظر في ما من شأنه تحسين الهيئة الاجتماعية بين النساء ...... حتى تقاسم المرأة الرجل أشغاله علماً وأدباً، ويسعيان بيد واحدة نحو إصلاح المعيشة العائلية، وتحسين الهيئة الاجتماعية" ([12]). وهذه الجمعية – بعد عام واحد – استطاعت أن تطبع كتاباً، جمعت فيه ست خُطب للسيدات، أُلقيت باسم الجمعية، وموضوعاتها، هي: الغاية التي خلق الإنسان لأجلها، وتهذيب العقل، والكتب ومطالعتها، والارتقاء، وحياة الإنسان وواجباته، وحقوق النساء ([13]).

ومن آثار هذه المحاضرات – سواء بالإلقاء، أو النشر – ما ذكرته إحدى الفتيات المتأثرات بنشاط الجمعية، قائلة: "وودت لو فتحت لي عوائد هذا الجيل باب المناقشة فأناقش عن بنات جنسي جهاراً وأحثهن على العلم والأدب والتمدن والتهذيب" ([14]). كذلك نجد السيدة مريم سركيس تكتب مقالة – في مجلة المقتطف، نوفمبر 1881م، ص(364-365) - عن (فوائد المطالعة) بالنسبة للنساء، وتندب فيها حظهن؛ لعدم وجود صحف خاصة بهن! أي أن التأثير – في هذا الوقت – وصل إلى حد المطالبة بصحف نسائية!! واستمرت الكتابات النسائية في الصحف العربية – خصوصاً مجلة المقتطف – تدور في فلك أحلام النساء، المستوحاة من أفكار مريانا وزميلتيها، حتى عام 1884م، عندما تحولت هذه الأحلام والأفكار إلى حقوق نسائية؛ يجب المطالبة بها!!

كتبت السيدة مريم جرجي إليان مقالة بعنوان (حقوق النساء ووجوب تعليمهن) – نُشرت في المقتطف، مارس 1884م، ص(358-360) - تحدثت فيها بأفكار مريانا وزميلتيها بصورة موسعة مع إضافات عديدة، اختتمتها قائلة: "أقول ولا أخشى لومة لائم: إن للنساء حق ما للرجال من المساواة في الهيئة الاجتماعية، وأن وجود هذه المساواة في بلاد دليل تقدمها وارتقائها ..... وها أنا أنادي الرجال بلسان بنات جنسي قائلة: لن تبلغوا معالي الفخر والكمال؛ إن لم تسرعوا لتعليم بناتكم العلوم والآداب". وهذا النداء ظل نداءً – طوال عامين – دون استجابة من أي رجل!! ولكن في يونية 1886م، استجاب وديع الخوري، وأثنى على صاحبة النداء، وعضد حقوق المرأة – كما وردت في مقالة مريم – بمقالة مسهبة في هذا الشأن، ومن ثم شرع في تأليف كتاب حول هذه الحقوق، أطلق عليه (المرأة وحقوقها الواجبة وأثرها المشكور) ([15]).

وبسبب هذا الموقف من ديع الخوري، فتحت مجلة (المقتطف) صفحاتها لبحث قضية (حقوق المرأة)، فبدأت المقالات تتوالى في شكل مناظرة أدبية، بين كل من: وديع الخوري، وأمين أبي خاطر، وسليم شقرة، ونجيب أنطونيوس. وظلت هذه المناظرة - حول حقوق المرأة - مستمرة طوال ثلاثة أعوام (1885-1887م)، ثم تحولت إلى مناظرة أخرى حول سؤال: (المرأة والرجل وهل يتساويان؟)، واستمرت هذه المناظرة بين: الدكتور شبلي شميل، وخليل سعد، وظلت مقالاتهما تنشرها المقتطف لمدة عامين (1887-1888م). وبعد ست سنوات أثار هذا الموضوع – من الأستانة العليا – رجل يُدعة (زكي.م)، فنشر مقالة بعنوان (هل للنساء أن يطلبن كل حقوق الرجال؟) - في مجلة الهلال 15/1/1894 - أثار فيها الموضوع، ووصل إلى فكرة مفادها: أن للنساء كفاءة للقيام بأعمال الرجال بالقوى البدنية والعقلية معاً؛ لذلك يحق لهن المطالبة بكل حقوق الرجال. فردّ عليه بمقالة مضادة الدكتور أمين الخوري – من دمياط في مصر - مطالباً النساء بدلاً من أن يصبحن طبيبات وعالمات في الفلك وشاعرات أن "يتعلمن ترتيب المنزل وتدبير البيت وتربية الأولاد والاقتصاد؛ فإن ثمن الحبر والورق الذي ينفقنه على الرسائل والتآليف يكسي الولد والابنة".

وبسبب هذا الردّ خصصت مجلة الهلال عدة صفحات – في كل عدد تقريباً من أعداد سنتها الثانية ([16]) – لمشاركة القراء في بحث هذه القضية، فتدخل جرجس إلياس الخوري – من طرابلس الشام – وفند أقوال الدكتور رافضاً أفكاره، وكذلك تدخلت أستير أزهري – من بيروت – معارضة أفكار الدكتور، فرد عليهما الدكتور أمين الخوري رداً مطولاً؛ وضح فيه وجهة نظره، وتراجع بعض الشيء على موقفه بأسلوب علمي. ثم تدخلت سيدة تُدعى (المعتدلة) من بيروت برأيها، وكذلك فعل جبر ضومط – من بيروت – وأيضاً السيدة مروم أنطاكي من حلب في مجلة الفتاة – الجزء الثاني عشر – فرد عليها الدكتور في الهلال، ومن ثم تدخلت في المناظرة أستير خوري – من طرابلس الشام – فردّ عليها الدكتور كذلك، فشاركت في القضية السيدة بهيّة من الإسكندرية. وهكذا توسعت المقالات والردود، فاستشعرت إدارة المجلة أن القُراء أصابهم الملل، فكتبت الآتي: "قد درجنا من الرسائل بشأن المرأة ما يكفي الآن وحباً بإقفال هذا الباب نتقدم إلى حضرة الدكتور أمين أفندي الخوري أن يوافينا برسالة يدافع بها عن رأيه ولتكن آخر رسالة بهذا الموضوع". وبالفعل أغلق الدكتور القضية بمقالة نُشرت في الهلال - في 15/6/1894 – أجمل فيها فحوى آرائه السابقة، مع إشارة إلى مقالات جريدة لسان الحال؛ التي تدخلت في المناظرة.

ومن الجدير بالذكر إن أغلب الأفكار التي طرحتها مجلتي المقتطف والهلال منذ عام 1880م إلى 1894م، ما هي إلا تطور طبيعي فكري مُوسع لأفكار مريانا مراش الأولى؛ كما بثتها في مقالتها (شامة الجنان). ولا أكون متعسفاً إذا قلت: إن ما جاء في مقالات المقتطف والهلال من آراء وأفكار مكتوبة – بيد النساء والرجال – هي الأساس الذي بنى عليه قاسم أمين دعوته الشهيرة لحرية المرأة في كتابيه الشهيرين: (تحرير المرأة) عام 1899م، و(المرأة الجديدة) عام 1900م، وما جعل دعوة قاسم أمين تلقى الشهرة والانتشار – من وجهة نظري - وضعها بين دفتي كتاب – أُعيد نشرة مرات عديدة - خلافاً لمقالات المقتطف والهلال النادرة .. المتناثرة .. متهالكة الأوراق .. المطبوعة طبعة وحيدة!

ومما سبق يتضح لنا أن ريادة مريانا للصحافة العربية؛ كانت ريادة واقعية ذات أثر وتأثير في كتابات النساء - فيما بعد - ووصف ريادتها بالريادة الحقيقية المبنية على السبق فقط، يُعد ظلماً بيّناً لها؛ لأنها ريادة محددة بالتاريخ؛ الذي يأتي لنا بالجديد كل يوم! فمن كان يتصور أن مريانا صاحبة أول عمل منشور في الصحافة – كما كُنّا نتعتقد - يأتي التاريخ – وبعد قرن ونصف تقريباً – ويحطم هذ الاعتقاد، ويجعل أتيليد البستاني هي صاحبة الريادة الحقيقية من حيث السبق؟! خصوصاً وأنني لم أجد – حسب جهدي المتواضع – أي عمل آخر منشور لأتيليد! وإذا كانت أتيليد البستاني رائدة القصة العربية القصيرة أيضاً، فإن هذه الريادة تُعد ريادة حقيقية من حيث السبق، أما الريادة الواقعية للقصة القصيرة العربية فهي – من وجهة نظري – من حق السيدة (لبيبة هاشم 1880-1949م)، التي نشرت ثماني قصص في ثماني سنوات (1898-1906م)، تنوعت بين: التأليف، والترجمة، والتعريب ([17])، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة مستقلة.

الهوامش



([1]) – فيليب دي طرازي، تاريخ الصحافة العربية، الجزء الثاني، المطبعة الأدبية، بيروت، 1913، ص(241-243).

([2]) – السابق، الغلاف الأمامي.

([3]) – ينظر: السابق، الجزء الأول، الفصل السابع (معرفة الجميل)، ص(39-42).

([4]) – قارن بين السابق، الجزء الثاني، ص(141-143، 278-281)، وبين لويس شيخو، تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، الجزء الأول، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت 1910، ص(170-174)، والجزء الثاني، ص(326)، ومجلة الضياء 15/2/1900، ص(344-352).

([5]) – لويس شيخو، الجزء الثاني، السابق، ص(413).

([6]) – السابق، ص(242).

([7]) – طرازي، الجزء الثاني، السابق، ص(281-286).

([8]) – Moreh, Shmuel, (1987), “Ya’qub Sanu’: His Religious Identity and Work in the Theater and Journalism, According to the Family Archive”, The Jews in Egypt A Mediterranean Society in Modern Times. edited by. Shimon Shamir, London, 259 - 261.

([9]) – ينظر: قسطاكي الحمصي، أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر، المطبعة المارونية بحلب، 1925م، ص(42-44).

([10]) – سامي الكيالي، مريانا مراش، مجلة الحديث، السنة 31، العدد التاسع، سبتمبر 1957م، ص(569).

([11]) – ينظر إعلان مجلة (الكوكب الشرقي) لسليم حموي في مجلة (الجنان) تموز 1873، ص(441).

([12]) - مجلة المقتطف، السنة الرابعة 1879-1880، الجزء التاسع، ص(249).

([13]) - مجلة المقتطف، السنة السادسة، الجزء الثاني، يولية 1881م، ص(127).

([14]) - مجلة المقتطف، السنة السادسة، الجزء الرابع، سبتمبر 1881م، ص(239-241).

([15]) - ينظر: مجلة المقتطف، السنة العاشرة، الجزء التاسع، يونية 1886م، ص(557-559).

([16]) - ينظر: مجلة الهلال، السنة الثانية، من 15/1/1894 إلى 15/6/1894، صفحات: (304-306، 367-369، 435-440، 463-470، 491-493، 526-535، 561-569، 591-593، 622-629).

([17]) – هذه القصص نشرتها لبيبة هاشم في مجلة (الضياء) من عام 1898 إلى 1906م، وهي: حسنات الحب، والفوز بعد الموت، ومادلين، وفالنتين، والشرف الصحيح، وجزاء الخيانة، وأفضل تذكار، والحب البنوي.

المصدر: نُشرت بعنوان (أديليد البستاني رائدة الصحافة العربية) – مجلة الدوحة القطرية – عدد 25 – نوفمبر 2009 – ص(43-49).
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

751,772