احمد بوسرة والانتاج الحيواني

بحوث + دروس نضرية وعملية

 

 

 الورثة والامراض

 

الصبغيات (الكروموزومات) chromosomes هي مكونات خـلوية تحتوي على مورثات (جـينات) genes الكائن الحـي. وتحدث فيها أنواع عدة من الشذوذ [ر. الشذوذ الصبغي]، في حين تحدث أنواع أخرى من الشذوذ تطال المورثات وحسب، ولهذا يفصل العلماء والأطباء بين هذين النوعين من الشذوذ.

تنتشر شذوذات مورثة أو أكثر في المجتمعات البشرية، ولاسيما تلك الخاصة منها بمورثات متنحية recessive genes لا تستطيع إظهار أثرها ما لم تكن بحالة متماثلة اللواقح (أصيلة)، وهذه لحسن الحظ ليست شائعة بوفرة في المجتمعات البشرية؛ إذ تكون فرصة امتلاك فرد لمورثتين متنحيتين معاً ضئيلة للغاية، ولكنها تكون أكبر في المجتمعات التي تُمَارس فيها زيجات الأقارب على نطاق واسع.

يمكن أن تكون المورثة «الشاذة» موروثة أو تنشأ بالطفرة mutation لأسباب معلومة أو مجهولة، وتنتهي بانتهاء حياة الفرد إذا حدثت في خلاياه الجسمية somatic cells، ولكنه يورثها إلى نسله إذا حدثت في أعراسه (خلاياه التناسلية). وقد يكون بعض المورثات «شاذاً» وضاراً، وفي الوقت ذاته مفيداً، فمثلاً إن مورثة الكريات المنجلية sickle cell تسبب فقر دم (أنيميا) anemiaمعروفاً باسمها، ولكن المصاب بها ذو قدرة على مقاومة الملاريا، فهي مفيدة من هذه الناحية في أماكن متعددة من العالم.

ومن جهة أخرى فإن المورثات السائدة أكثر شيوعاً، ويكفي أليل سائد من شفع من الأليلات القرينة ليُظهر أثره. ويتطلب إظهار أثر المورثات أن تكون ذات نفاذية penetrance كاملة، فإذا كانت هذه جزئية فإنها لا تحدث الأثر الكامل. وفي هذا الصدد فإن جميع المورثات الموجودة على الصبغي الجنسي X تُظهر آثارها في الذكور (حيث النمط الصبغي هو XY)، أما في الإناث (XX) فإن المورثات السائدة وحدها تظهر أثرها، وتظهر المورثات المتنحية أثرها إذا كانت بحالة متماثلة اللواقح (أصيلة). ويتمثل أثر المورثة السائدة الشاذة في إحداث تشوه أو مرض أو استعداد لتطوير مرض ما.

إن وظيفة المورثة هي أساساً للتحكم في إنتاج بروتين معين، ولهذا فإن المورثة الشاذة تنتج بروتيناً شاذاً أو بكميات غير طبيعية، فينتج من ذلك شذوذ في وظائف الخلية، ومن ثم في إحدى وظائف الجسم ومظاهره.

المورثات السائدة الشاذة المسببة لأمراض شديدة هي لحسن الحظ غير كثيرة، وهي تتجه نحو الاختفاء لأن المصابين بها يكونون في حالة من الضعف الشديد لا تمكنهم من إنتاج نسل، ولكن هنالك استثناءات قليلة، فمثلاً في حالة مرض هنتِنغتونHuntington’s disease الذي يسبب تدهور وظائف الدماغ بعد عمر 35 عاماً، يكون المريض قد أنتج نسلاً قبل ظهور المرض هذا في جسمه.

ثمة نماذج للأمراض الوراثية كما يأتي:

ـ مرض هنتِنغتون:

مرض تنكسي عصبي تدرُّجي يسبب تدهوراً عقلياً وحركات لا يقدر المصاب على التحكم بها، وقد اكتشفه جورج هنتِنغتون وكان أول من وصف طبيعته الوراثية.

يدعى هذا المرض أيضاً «رقَص» هنتِنغنتون Huntington’s chorea، وهو مشتق من الكلمة اليونانية التي تعني الرقص، إشارة إلى الحركات اللاإرادية التي تتطور مع تقدم المرض. ويسبب هذا المرض فقداً متزايداً لخلايا من مناطق دماغية مسؤولة عن التحكم في بعض الحركات والقدرات العقلية. وإضافة إلى ذلك فإن الشخص المصاب به يصاب بتغيرات في تفكيره وسلوكه وشخصيته.

تبتدئ أعراض المرض بالظهور في عمر يراوح بين 30 ـ50 سنة، وفي نحو 10% من الحالات فإنه يبتدئ بالظهور في أواخر فترة الطفولة أو بداية المراهقة. ويقدر معدل حدوثه في الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 4 ـ 7 أشخاص/ 100000 نسمة.

يُتسبب مرض هنتِنغتون عن تغير في مورثة تدعى هنتِنغتين huntingtin. ويمتلك الدنا فيها عادة مكررات repeats من القواعد CAG تبلغ نحو 40 مرة أو أكثر. وإن القواعد الإضافية في هذه المورثة تسبب احتواء البروتين أجزاء إضافية ترمز لتصنيعه؛ ويُعتقد أنها تتفاعل مع بروتينات أخرى في الخلايا الدماغية مؤدية إلى موتها.

مورثة هذا المرض سائدة، وهذا يعني أن أليلاً واحداً منها كافٍ لإحداث المرض. ويصيب هذا المرض كلاً من الجنسين. وإن احتمال انتقاله إلى المرأة الحامل لا يتأثر بنتائج الحمل السابق.

ـ متلازمة لِش ـ نَيهان Lesch-Nyhan syndrome

اكتشفت هذه المتلازمة عام 1964 من قبل العالمين اللذين سميت باسمهما. وتُتسبب عن تغيير شديد (طفرة) في المورثة المسماة HPRT المسؤولة عن إنتاج إنزيم يتوسط تفاعلاً مهماً ضرورياً لمنع تراكم حمض البولة uric acid، واسمه هيبوكسانثين ـ غوانين فُسفوريبوسيل ترانسفيراز phosphoribosyl transferase hypoxanthine-guanine. وتؤدي الطفرة الشديدة في هذه المورثة إلى غياب نشاط الإنزيم المذكور، ومن ثم إلى حدوث ارتفاع ملحوظ في مستوى حمض البولة في الدم (فرط اليوريكَميَّةhyperuricemia). وهذا التراكم سام للجسم يرتبط بعلامات المرض. كما يُعتقد أن هذا الغياب يؤدي إلى تغيير الوظائف الكيمياوية لمناطق في الدماغ، مثل العقدة المركزية basal ganglia، مما يؤثر في الموصلات العصبية neurotransmitters بين الخلايا العصبية.

تتطور مشكلات عصبية عند الذكور المصابين بهذه المتلازمة في فترة طفولتهم، ويكونون ذوي عضلات ضعيفة (نقص التوتر hypotonia)، ولا يبدون تطوراً طبيعياً. وتشاهد عندهم حركات بالأطراف لا يمكن التحكم بها (الكَنَع athetosis)، وكذلك تصلب عضلي على مر الزمن. كما أن العجز عن الكلام يعدّ من علامات هذه المتلازمة، أما أشد علاماته فهي الإيذاء القهري المؤدي إلى أذيَّات ذاتية في نحو 85% من المصابين. ويتضمن ذلك عض المصابين لشفاههم وأطراف أصابعهم وضربهم العنيف لرؤوسهم. وقد تؤدي هذه التصرفات إلى إصابات شديدة وجروح خطيرة.

ـ الناعور (أ) Hemophilia A

مرض دموي وراثي يصيب الذكور أساساً ويتصف بنقص العامل الثامن factor VIII، وهو بروتين مهم يُصنِّعه الكبد من جملة عدة بروتينات مسؤولة عن عملية تخثر الدم، مما يؤدي إلى نزف غير اعتيادي حتى لو توافرت جميع عوامل التخثر الأخرى.

عُرف هذا المرض منذ البابليين حوالي 1700 سنة ق.م، ولكنه لقي اهتماماً واسعاً حينما أورثته الملكة فِكتوريا إلى عدة عائلات ملكية أوربية. ويعرف اليوم أنه متسبب عن المورثة هيما HEMA على الصبغي X (ر. صبغيات الجنس)، والذي يمتلك ذكر الإنسان ومعظم الحيوانات منه صبغياً واحداً فقط. ومن ثم فإنه يظهر في الذكور أساساً.

تم توفير معالجة ناجعة للناعور (أ) منذ منتصف القرن العشرين، وذلك بحقن مصوَّرَة (بلازما) plasma أو منتجات بلازما مصَنَّعة لتوفير مصدر استعاضي للعامل الثامن، وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي حدث تلوث على نطاق واسع لمنتجات دموية بفيروس مرض نقص المناعة المكتسب (HIV)، ومن ثم أُصيب معظم مرضى الناعور الذين تلقوا الدم الملوث بهذا الفيروس مما دعا الباحثين إلى توفير مصادر أخرى للعامل الثامن، منها العامل الثامن المأشوب recombinant factor VIII[ر: الهندسة الوراثية] الذي يستخدم بديل المعالجة السابقة.

تجرى اليوم بحوث كثيرة نشطة لتطوير المعالجة الوراثية[ر] gene therapy لهذا المرض، وكانت النتائج التي تم التوصل إليها حتى اليوم مشجعة.

ـ متلازمة الصبغي X الهش fragile X syndrome

تعدّ الأكثر شيوعاً من أنواع التخلف العقلي الموروث. ويتصف الأفراد المصابون بها بنمو متأخر ودرجات مختلفة من التخلف العقلي، وكذلك بصعوبات سلوكية وعاطفية. وفي العادة يكون التخلف العقلي متوسط الشدة عند الذكور وقليله عند الإناث. وهذه المتلازمة تظهر عند الذكور والإناث، وتقدر نسبة إصابة الذكور بها بنحو 1: 4000 ـ1: 6250، ونسبة إصابة الإناث بها نحو نصف نسبة إصابة الذكور، من دون تمييز للمجموعات الإثنية.

سبب هذه المتلازمة هو طفرة في المورثة FMR-1 الموجودة في الصبغي X. ولا يُعرف تماماً دور هذه المورثة، ولكن يعتقد بأنها يمكن أن تكون مهمة في تطور الدماغ، ولكن دورها في تطور الجسم ليس معروفاً بدقة حتى اليوم.

ـ التهاب المعثكلة الوراثي hereditary pancreatitis

إضافة إلى أهمية المعثكلة (البنكرياس) في إفراز هرموني الأنسولين insulin والغلوكاغون glucagon المسؤولين عن تنظيم مستوى سكر الدم (الغلوكوز) glucose في الجسم، فإن هذا العضو مهم جداً في تنظيم بعض عمليات الهضم بوساطة مجموعة من الإنزيمات، وهذه تُخزَّن عادة فيه بحالة غير فعالة inactive، وتطلق منه استجابة للغذاء فتنتقل في قناة إلى المعي الدقيق حيث تصير فعَّالة في هضم الغذاء.

التهاب المعثكلة هو حالة تهيجية التهابية تنتج في معظم الأحوال من تناول الكحول بإفراط أو من وجود حصيات صفراوية أو إصابات ڤيروسية أو شذوذات استقلابية أو أسباب أخرى. ويمكن في بعض الحالات النادرة أن يكون ناجماً عن شذوذ وراثي ينتقل من الأب أو الأم إلى النسل؛ تبتدئ في الطفولة وتتصف بنوبات متكررة ناتجة من التهاب المعثكلة ومسببة آلاماً بطنية حادة ودواراً وإقياء. وقد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة تراوح بين مرض السكري وسوء الهضم إلى الإدماء وتسريب سوائل من الأوعية الدموية إلى التجويف البطني. وتمر إنزيمات المعثكلة عبر الأوعية الدموية المتضررة إلى مناطق متعددة في الجسم مسببة أضراراً أخرى، ويمكن أن تؤدي أضرار المعثكلة من الحالات الالتهابية المتكررة إلى التهاب مزمن وتلف للمعثكلة أو حتى إلى سرطان، والوفاة.

يُورث المرض صفة جسمانية سائدة ويُتسبب عن أكثر من خمسة تغيرات في المورثة المسؤولة عن إنزيم التربسين وموقعها الصبغي هو s7q35. وفي المصابين بالحالة الوراثية يتنشط إنزيم التربسين وهو لا يزال ضمن المعثكلة ويبتدئ في هضمها ذاتها مسبباً تخريشاً والتهاباً فيها. وقد يسبب هذا المرض تغييرات في مورثات أخرى لعلها في الصبغي 12.

يبلغ معدل الإصابة السنوي بهذا المرض نحو 1: 10000 شخص، وهو على أي حال مرض نادر إذ لا يبلغ أكثر من 2% من جميع حالات التهاب المعثكلة.

مورثات مرضية أخرى:

يوجد موقع مورثة مشهورة تتحكم في الزمر الدموية A,B,O على الصبغي التاسع في خلايا الإنسان. وهي الزمر التي اكتشفت عام 1900 وكانت في أثناء معظم القرن العشرين تُستخدم في المحاكم الجنائية والشرعية وغيرها لإثبات جرم أو براءة متهم، أو لإثبات أبوة أو أمومة أو نفيهما، وغير ذلك من أمور تتعلق بشخصية الإنسان، وذلك قبل اكتشاف البصمة الوراثية(بصمة الدنا) [ر] التي تستخدم اليوم في غالبية البلاد التي تتوافر فيها إمكانية تحديدها. وهاتان التقانتان هما في الواقع صديقتان للإنسان البريء في المحاكم.

انحسر الاهتمام بالزمر الدموية A,B,O ليصير مقصوراً تقريباً على حالات نقل الدم إلى مريض يحتاج إليه، إذ يمكن أن يكون استقبال المريض لزمرة دموية لا تناسبه وبالاً عليه قد يؤدي إلى موته.

في عشرينيات القرن العشرين عُرفت وراثة هذه الزمر، وفي عام 1990 عُرفت المورثة المسؤولة، وتبين أن A وB هما شكلان لسيادة متماثلة co-dominant versions من المورثة ذاتها، لكن O هو الشكل المتنحي recessive منها. وتقع المورثة قرب طرف الذراع الطويلة من الصبغي التاسع. ويبلغ طولها 1062 حرفاً، مقسمة إلى ستة إكسونات exons موزعة في عدة «صفحات» تضم نحو 18000 «حرفاً» في الصبغي المذكور، وتفصل بين هذه الإكسونات خمسة إنترونات introns. والمورثة المذكورة خاصة بإنزيم يدعى غلاكتوسيل ترانسفيراز transferase galactosyl.

منذ ستينيات القرن العشرين صار واضحاً أن هنالك علاقة بين الزمر الدموية والإسهال diarrhea، فالأطفال ذوو الزمرة Aيصابون بأنواع معينة من الإسهال من دون أنواع أخرى، وتصاب أطفال الزمرة B بأنواع أخرى من الإسهال. وفي أواخر الثمانينيات اكتشِف أن الأناس الممتلكين للزمرة O كانوا كثيري التعرض للإصابة بمرض الهيضة (الكوليرا) cholera، ثم تبين اختلاف الأناس ذوي الزمر A وB وAB في قابليتهم للإصابة بهذا المرض. فكان أصحاب الزمرة AB أكثر مقاومة، وأكثر منعة ضد الكوليرا. وتلاهم أصحاب الزمرتين A ثم B. أما أقل الزمر مقاومة فكانت الزمرة O.

ثلاثة أمثلة على العلاقة بين الطفرات والأمراض: أولهما الارتباط بين الإصابة بمرض أنيميا الكريات المنجلية والملاريا، والذي لوحظ في إفريقيا في أواخر الأربعينيات وما تلاها، إذ إن مورثة الكريات المنجلية غالباً ما تكون مميتة بحالتها الأصيلة وذات أضرار قليلة بحالتها الخليطة، وفي الحالة الأخيرة يكون الأفراد مقاومين للملاريا. وتوجد طفرة الكريات المنجلية أساساً في أجزاء من غربي إفريقيا حيث تنتشر الملاريا، وهي شائعة أيضاً عند الأمريكيين - الإفريقيين. والمثال الآخر حالة أخرى من فقر الدم تُدعى التَلاسيميَّة thalassemia وهي شائعة في أجزاء عديدة في البحر المتوسط وجنوب شرقي آسيا، ويبدو أنها تمتلك وقاية مماثلة ضد الملاريا التي كانت شائعة في مناطق كثيرة. والمثال الثالث هو ما توفره المورثة الطافرة CFTR من وقاية ضد مرض الحمى التيفية (التيفوئيد) typhoid، وهي توجد على الصبغي السابع للإنسان، وتسبب عنده مرض التليف الكيسي cystic fibrosis

 

 

المصدر: الموسعة العربية العلمية
sase1987

العريبي

  • Currently 3/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 403 مشاهدة
نشرت فى 15 أغسطس 2012 بواسطة sase1987

ساحة النقاش

الانتاج الحيواني في ليبيا

sase1987
الموقع متخصص في بحوث الانتاج الحيواني من جامعة سلوق الليبية مهندس احمد محمود محمد العريبي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

7,357