أيُّها الباكي عذابا وانتحابا
تستشفُّ السَّعدَ من حُبًّ تغابى
ترتضي ظلمَ الحياةِ وكم توالت
حادثاتٍ تأخُذُ النَّفسَ اغتصابا
أيُّها الباكي على عمرٍ تولَّى
ترقُبُ الأيامً والعُمرَ ارتقابا
فانتبِهْ مما تراهُ فلا بكاءٌ
لو بكيتَ العمرَ يُبقيكَ الشبابا
وانتَبِهْ من غفوةِ الأيام واعلمْ
ربَّ غفلانٍ غفا يوماً فثابا
***
كم تسامَتْ في ذُرى الأفلاكِ روحي
لم أُعِرْ للهمِّ وزناً أو حسابا
كم تعالتْ في هوى الأشجانِ نفسي
لم أهُنْ في الناسِ خوفاً وارتيابا
كلَّما أُوتيتُ رزءاً ، رمتُ آفاقَ
الرزايا ، والرُّؤى منِّي كِذابا
ما عسى الأحلامُ للنَّاسِ تُغنِّي
وأراني أندُبُ الحظَّ اكتئابا
فإذا أصبحتُ تحملني همومي
وإذا أمسيتُ غنَّيتُ العذابا
***
يا سماء الحبِّ رفقا ، ظلِّلي بالـ
ـحـبِّ قلبي ، وافتحي للحبِّ بابا
يا سماء الحبِّ جودي من عطاءٍ
ما يُروِّي حيرةَ القلبِ احتسابا
أين أيَّامُ الصِّبا والحبِّ منِّي ؟
أين أحلامي ؟ ، لقد صارت سرابا
أين آمالي وكفُّ العمرِ يعلو
فوقَ أَصْواتِ المنى قاباً وقاباً ؟
أينَ عمري ؟ ، فرَّ مِنِّي مثلما فرَّتْ
ورودُ الحبِّ منْ قلبٍ تَصَابى
***
يا فؤادي ! ، إنَّمَا الأيَّامُ تمْضي
مثل حلمٍ قدْ رأيناهُ وذابا
إنَّما الدُّنيا تُباريك الأماني
تستقي منك المُنى كَأْساً عِذَابا
إن تُقاسمْكَ المنى كأساً بكأْسٍ
هل تُراها تحتوي عَنْكَ العذابا ؟
فاغتَنِمْ في صفوها برداً وشهداً
وارْتَشِفْ في جورها مُراً وصابا
واتَّخِذْ من رغدها فرشاً ومهداً
واغْتَصِبْ في شُحِّهَا الحظَّ اغتصابا
***
في غدٍ تَصحو على نورِ رقيقٍ
في غدٍ يبدو ويرتادُ الضبابا
يُبْهرُ العينينِ إذ ترنو بريقاً
يقهرُ الظَّلْماءَ قهراً والسحابا
فاغتَرِبْ في تيهِ دُنْياكَ حبيبي
واحتملْ منها -إذا شئتَ- اغترابا
يا فؤادي ! ، قد تبَصَّرْتُ طريقي
ورأيتُ الحقَّ والظُّلمَ كِتابا
فتعالَ أبصِرِ النُّورَ رفيقي
واتَّبِعْني علَّنا نَرْنُو الصَّوَابا
***
أيُّهَا الباكي ! ، كفانا ما نُعاني
فتعالَ ننشر الخير احتسابا
ما عسانا إذ تَمَنَّيْنا الأَمَانِي
هل تُرانا نأخُذُ الحظَّ اغتصابا ؟
ما ترى إن ضاق رزقٌ أو توارى ؟
هل تَعُبُّ الرِّزْقَ علماً واكتسابا ؟
لا تَخَفْ مِنْ ضيقِ دُنْياكَ الَّتي قدْ
جِئْتَها كرهاً وغصباً وانتِسابا
ما لغيبِ اللهِ مِنْ مُبْدٍ ، ولا مِنْ
كاشِفٍ مِنْ علْمِهِ مهما أصابا
***
الشاعر سمير الزيات
دراسة تحليلية بقلم الأستاذة: حليمة حلومة
_______________________
يقول جبران خليل جبران :"الشعر حكمة تسحر القلب والحكمة شعر يترنم بأناشيد الفكر"
لعل هذا القول خير مدخل نلج منه إلى عالم هذه القصيدة، فبين حكمة الشعر وشعر الحكمة حكاية إبداع وخلق فني اختُزلت في هذا الملفوظ الشعري " أيها الباكي " والذي أعترف منذ بداية تناولي له أنه من أفضل ما جادت به قريحة سمير الزيات لأسباب سيتم تناولها تباعا من خلال الإبحار في يم هذه القصيدة التي فجر في تجاويفها سمير الزيات دلالات عميقة، يتزاوج فيها الروحي بالفكري والفلسفي بالحكمي . وقد نجح في تفجير كل طاقاته المحسوس منها والروحي والفكري لنقل رؤيته من عالم الفكر المجرد إلى عالم الشعر المحسوس . هذه القصيدة هي عصارة تجربته في الحياة وهي عبارة عن وقفة تأمل أمام مرآة الذات فقد ارتحل بنا الشاعر من عالم أرضي دنيوي بما تحيل عليه اللفظة من دنس إلى عالم فوق أرضي وفوق بشري إنه عالم ملائكي بما يحمل من معنى الطهر والصفاء والنقاء في دعوة ضمنية أحيانا صريحة أحيانا أخرى إلى التخلص من رداءات الواقع ومعانقة عوالم أرقى وأنقى وتغيير الذات نحو الأفضل فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يغير ما بداخله ....
أيها الباكي"خطاب مباشر يتوجه به الشاعر لمن دأبه في الحياة الشكوى والتذمر والبكاء حتى يمر به قطار العمر ليكتشف في نهاية الرحلة أن حياته مرت هدرا لأنه كان غافلا عن مواطن الجمال فيها والتي يراها إيليا أبو ماضي في الطبيعة إذ يقول:
"كم تشتكي وتقول انك معدم ... والأرض ملكك والسماء والأنجم ".
ويراها الزيات في الزهد في الدنيا والتعالي عن توافه الوجود فالبكاء لا يعيد الشباب لذلك لا طائل من وراءه يقول الشاعر سمير الزيات:
أيها الباكي على عمر تولى ***ترقب الأيام والعمر ارتقابا
فانتبه مما تراه فلا بكاء **** لو بكيت يعيد للقلب الشبابا
هذه الحكمة البليغة المعنى الرائعة الإخراج الفني الذي سنعرج عليه بعد إيراد أبيات لشاعر الحكمة والزهد أبي العتاهية يلتقي فيها مع الزيات من حيث المعنى والدلالة إذ يقول أبو العتاهية :
مضى عني الشباب بغير رد ****فعند الله أحتسب الشبابا
وما من غاية إلا المنايا **** لمن خلقت شيبته وشابا
وما منك الشباب ولست منه ****إذا سألتك لحيتك الخضابا "
وإيراد هذه الأبيات هي شهادة في حق الأستاذ سمير الزيات الذي ينهج على نهج فحول الشعراء دون تقليد أعمي بل إن الرجل نجح إلى حد بعيد في خلق نهج شعري خاص به .
إن الأبيات السالفة الذكر شأنها شأن كل أبيات القصيدة كانت عبارة عن لوحة فنية أثثتها الأساليب البلاغية المتعددة ، بل يحق القول إن هذا النص هو فسيفساء من علمي البديع والمعاني ، أضفى عليها النداء ( وهو أسلوب إنشائي غير طلبي) حركية ودلالة سواء سبق بأداة تنبيه ( أيها الباكي ) أو بحرف نداء ( يا ) (يا فؤادي ، يا سمائي ) وزادها الإلحاح في السؤال عمقا في المعنى وإصرارا على ضرورة سؤال الذات عن عدة جوانب . وكما هو معلوم الاستفهام من الأساليب الإنشائية الطلبية، لكن الشاعر لم يكن يطلب معرفة أمر يجهله بقدر ما كان يرمي إلى تأنيب النفس علها تستفيق من غفوتها بعد أن انشدَّت إلى الدنيا انشدادا قويا في صراع مع الأحلام والأماني التي لا تنتهي ذاك الصراع العبثي ... لذلك ورد الاستفهام مثقلا بمعنى التحسر، ليس تحسرا عن عمر تولى ولن يعود وذهب في غير رجعة ولن يؤوب ، بل تحسرا عن أيام قضاها في الجري وراء سراب ينتظر برقا خُلَّبا ليتفطن في نهاية الرحلة أن أحلامه التي لا تنتهي ذهبت إدراج الرياح .
ولا نغفل أهمية الأمر الذي ورد بكثافة بين ثنايا القصيدة وقد راوح بين ثلاثة معان وهي : النصح والإرشاد (انتبه – اغتنم ...) و الحث على القيام بالفعل ( تعال أبصر...) والدعاء ( جودي – رفقا ). ومن مظاهر الإبداع في القصيدة أنها نظمت على بحر الرمل الذي يتميز بوحدة التفعيلة ( فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ) مما ولد جرسا داخليا ألف بين الأبيات وفي مقابل وحدة الإيقاع وتناغمه ، اشتملت القصيدة على جملة من الثنائيات : الأمر والنهي \ النفي ( لا بكاء ،لم أعر ، لم أهن ، ) والإثبات قد تبصرت ، رأيت تمضي ...) الماضي والحاضر تحاكي تناقضات الواقع واختلاف مآربه التي يلهث الإنسان وراءها دون يمسك بها ...
وفي هذا المستوى من قراءة القصيدة يجوز لنا الإشارة إلى أن هذا الباكي الذي توجه له الشاعر في بداية القصيدة بالخطاب ما هو إلا الشاعر نفسه . إنه يجرد من نفسه نفسا ثانية يخاطبها بضمير المخاطب (أيها الباكي ، تستشف ، ترتضي....) .وبعد مخاطبة الذات باستعمال اسم الفاعل من بكى يوجه الخطاب إلى جزء منه وهو الفؤاد باعتباره المحرك الأساسي للإنسان استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم " أَلا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِى الْقَلْبُ " وتتجلى أنا الشاعر وتبرز بوضوح من خلال استعمال ضمير المتكلم .
يا فؤادي ! ، قد تبَصَّرْتُ طريقي
ورأيتُ الحقَّ والظُّلمَ كِتابا
فتعالَ أبصِرِ النُّورَ رفيقي
واتَّبِعْني علَّنا نَرْنُو الصَّوَابا
إن فاء النتيجة في قوله "فتعال" كانت ذات دلالة فلا شيء مجاني في الأدب كما يذهب إلى ذلك تودوروف ، إن الأفعال (تعال ، أبصر، اتبعني...) لم تكن إلا نتيجة لهذا التبصر وهذه الرؤية العقلية فالفعل رأيت من أفعال اليقين ولا يعني به رؤية بصرية عابرة فالقصيدة وُلدت أثناء لحظة تبصر وتفكر في أسرار الحياة أو لنقل كانت لحظة مكاشفة ومحاسبة للذات أثناء محطة توقف فيها الشاعر متأملا ماضيه مستشرفا مستقبله مستندا إلى رؤيته الجديدة حديثة الولادة . فلحظة الولادة الشعرية كانت نفسها لحظة صوفية ترفعت فيها الذات الشاعرة عن مرتبة البشر العاديين لتلقي نظرة فوقية عن متاهات الوجود وتفاصيله ومنعرجاته لتخرج بنتيجة مفادها أن الدنيا بتعقيداتها لا يمكن أن تغنينا عن الوعي بحقيقتها باعتبارها مرحلة بسيطة تفضي إلى مرحلة أعظم شأنا ، فلا نعطيها فوق قدرها متناسين الآخرة . ويتجلى المنزع الروحي الصوفي خاصة في نهاية القصيدة التي أعتبرها عودا على بدء فقد انفتحت القصيدة بقوله :
أيُّها الباكي عذابا وانتحابا
تستشفُّ السَّعدَ منْ حُبٍّ تغابى
ترتضي ظلمَ الحياةِ وكم توالت
حادثاتٍ تأخُذُ النَّفسَ اغتصابا
ويقدم الحل في قوله :
لا تَخَفْ مِنْ ضيقِ دُنْياكَ الَّتي قدْ
جِئْتَها كرهاً وغصباً وانتِسابا
ما لغيبِ اللهِ مِنْ مُبْدٍ ، ولا مِنْ
كاشِفٍ مِنْ علْمِهِ مهما أصابا
بل إن البيت الأخير كان بمثابة الجواب لكل ما ورد في القصيدة من تساؤلات ومن وصف للضياع في الدنيا . فالحل الأمثل هو ترك الواقع الموجود لبلوغ واقع ممكن منشود وترك الوضيع لبلوغ الرفيع .
إن هذه القصيدة تعتبر الحصيلة الديناميكة لمجموع طاقات الشاعر كما أشرنا؛ وهي طاقات فكره العميق وطاقات حروفه الملتهبة التي تشع علما ودراية بتفاصيل الحياة بعد أن صارع الأيام وتمرس بها ، فضلا عن قدرة فائقة على ضبط الوزن العروضي والحرص على الانسجام بين اللفظ وما يؤديه من معنى وما يخدمه من إيقاع ، فلم يكن الزيات حريصا على ضبط قافية يزج فيها بالمفردات زجا بل إن التناغم والانسجام بين المبنى والمعنى يجعلنا نستشعر انسيابية الألفاظ وتلقائيتها في غير تكلف ولا تصنع إذ تستدعي اللفظة السابقة لفظة لاحقة بالضرورة وما هذا المد في الروي " با " إلا يد تمتد في خشوع تضرع إلى الله .وليس هذا بالغريب على سمير الزيات هذا الشاعر القادم من زمن بعيد ، زمن عمالقة الشعر العربي . ولأن الحديث عن شاعرية الزيات يطول ولا يمكن اختزاله في بضع جمل ( بل قد يكون هذا مشروع دراسة معمقة حوله) أكتفي بأن أقول :" أجزم أنك قد أحرجت شعراء عصرك يا زيات ".
بقلم الأستاذة: حليمة بوعلاق