<!--
<!--<!--<!--<!--<!--
ندوة " أهم قضايا التراث الشعبى "
كان الهدف من اللقاء هو تحديد المعنى والدلالة والمفهوم لأهم مصطلحات التراث الشعبى بعد أن لاحظت فى أكثر من لقاء مع الأدباء أنهم لا يهتمون بمثل هذه الأمور بشكل يوقع الكثير منهم فى أخطاء لا معنى لها وبدأت بأهم هذه المصطلحات وهو " الثقافة " من حيث هى نظرية في السلوك تساعد على رسم طريق الحياة إجمالا، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب. وإجمالا فإن الثقافة هي كل مركب يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات . وبحلول القرن العشرين، برز مصطلح "الثقافة" ليصبح مفهوما أساسيا في علم الانثروبولوجيا، ليشمل بذلك كل الظواهر البشرية التي لا تعد كنتائج لعلم الوراثة البشرية ..
ثم تناولت مصطلح " فولكلور" أو " المأثورات الشعبية " حيث ذكرت أن هذا المصطلح الإنجليزي " فولكلور" ظهرعام 1846 حيث استخدمه لأول مرة عالم الأثريات الإنجليزى سير " جون وليام تومز" وعرف بمعنى حكمة الشعب ومأثوراته كمصطلح يدل على موضوعات الإبداع الشعبي ثم تطورت وتقدمت مناهج علم الفولكلور وإتسع مجال بحثه ليشمل مختلف أوجه النشاط الخلاق للإنسان في بيئته وارتباطه بالثقافة الإنسانية ككل .
بدأت عملية تعريف الفلكلور وتوثيقه في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد أن ظهرت مجموعة من التخصصات والأبحاث الإنسانية التي أهتمت بالفولكلور كعامل مهم في ثقافة الشعوب .
وبدأت بالإشارة إلى أهم المصطلحات التى ترتبط بالعناصر الثقافية المكونة للإنسان والتى تتحكم فى سلوكه وتعتبر من الراقات الثقافية الكامنة فيه والقابلة للحراك والطفو على السطح حين تدعو الحالة أو الأحداث التى يمر بها ، وأول هذه المصطلحات هو .. الأسطورة ..
وتناولت المصطلح فى الحدود الموضحة فيما يلى :
والأسطورة كما نفهمها للوهلة الأولى هى " ما لا علاقة له بالواقع " أو بشكل آخر هى " ما لا وجود له فى الواقع " بما يعنى أننا نتعامل مع تصورات نابعة من الخيال لظواهر طبيعية غير مفهومة ، و لأشياء أو شخصيات غير موجودة بالفعل لكن لها ما يبرر الإيمان بها ويجعل لها حضوراً قوياً فى نفوس المؤمنين بها ..
يقول " توماس بلفنش " أن الأسطورة – بصرف النظر عن أصولها – تكون ضربا من هيكل أو أساس لثقافتنا ، وسواءً كانت الأسطورة اختزالاً نفسيا أو تمثيلا عقائديا أو أصلا دينيا ، فهى ذات أثر بالغ على كل من كياننا الواعى وغير الواعى .. بل إن هناك من يزعم أننا أقرب جدا – بسبب هذا الأثر – لأن نكون نتاجا لأساطيرنا لا لمزايانا العقلية الموروثة ، ذلك لأن أساطيرنا تحيط بنا على الدوام حتى لتنفذ إلى صميم قراراتنا الأخلاقية وألوان نشاطنا العقلى .. وفى ذلك تكمن أهمية دراسة الأساطير وما يرتبط بها من فنون كالحكاية الشعبية وغيرها من فنون قولية أو تشكيلية أو حركية ، ودلالة هذه المقولة التى تقضى بأننا نتاج أساطيرنا أكثر من كوننا نتاجا لمزايانا العقلية تفسر الكثير من ظواهر النشاط الانسانى خاصة فى ميدان المعتقدات الشعبية التى تتحكم فى سلوك الجماعات والشعوب ، وليس من قبيل المبالغة أن نقول أن هذه المعتقدات الموروثة – والتى تتخذ فى الكثير من الاحيان – صفة المقدس يمكنها أن تظل مترسبة داخل وجدان الانسان – ربما دون وعى – لآجال طويلة ومن ثم تتداخل فيما هو مقدس دينى حتى لو كان سماويا كما هو الحال فى ممارسة عادة " الأربعين " فى حالات الوفاة فى مصر" الاسلامية " بعد ظهور الاسلام بقرون وحتى اليوم رغم عدم وجود أية إشارة إليها فى صلب العقيدة الاسلامية ، لكنها تسربت من مخزون ثقافى قديم ، وفكر عقائدى كان موجوداً وحاضراً بقوة فى عصور بالغة القدم ..
إذن .. ما هى الأسطورة ..؟
السؤال يطرحه " أرنست كاسيرر " فى كتابه ( الدولة الأسطورة ) .. ويقول " كاسيرر" فى محاولة إجابته : " بمجرد إثارتنا هذا السؤال ، فإننا سنستغرق فى معركة حامية تدور بين نظريتين متعارضتين .. ونقص المادة التجريبية ليس أكثر العوامل إثارة للحيرة فى هذه الحالة ، وإنما هو وفرتها ، فلقد بحثت هذه المشكلة من كل زاوية كما درس – فى عناية – تطور الفكر الأسطورى التاريخى وأصله السيكولوجى واشترك الفلاسفة وعلماء الأثنولوچى والأنثروبولوچى والسيكولوچى وعلماء الاجتماع فى هذه الدراسات ، ويبدو أننا أصبحنا الآن على إلمام بكل الوقائع ، فلدينا أساطير مقارنة تنتمى الى كل بقاع المعمورة تساعدنا على التدرج من أكثر صور الأساطير بدائية الى أكثرها تقدماًَ وتعقداًَ .. فسلسلة مادتنا العلمية مكتملة الحلقات ولا تنقصها أية حلقة وإن كانت النظريات الخاصة بالأسطورة مازات موضع خلاف كبير ؛ إذ يعرض علينا كل مذهب إجابة مختلفة ، وتتعارض بعض هذه الإجابات مع بعضها تعارضا شنيعا ، وينبغى أن تبدأ أية نظرية فلسفية عن الأسطورة من هذه النقطة " .
بعد الإشارة الى صعوبة الإجابة المباشرة على السؤال وأسباب صعوبته فى نظر "كاسيرر" يبدأ بعد ذلك فى استعراض المذاهب المختلفة وآرائها فى الأسطورة ابتداء من علماء أصل الإنسان الذين يرونها ظاهرة بسيطة للغاية ، وأننا لسنا فى حاجة فى شأنها الى أى تفسير سيكولوچى أو فلسفى معقد لأنها تمثل البساطة ذاتها ، فهى ليست من نتاج أى تأمل أو فكر ، كما أن وصفها بأنها من نتاج الخيال الإنسانى أمر ليس كافياًَ ويقال إن " قصور تفكير البداوة الإنسانية " هو المسئول بمعنى أصح عن هذه الحماقات والنقائص فلولا هذا " الغباء البدائى " ما وجدت الأسطورة ..
من هذه النتيجة التى توصل إليها علماء أصل الإنسان والاعتراض عليها من جانب (كاسيرر) من منطلق أننا لم نصادف تاريخياًَ أية حضارة كبيرة لم تخضع لجوانب أسطورية ، وأن الحضارة البابلية والمصرية والصينية والهندية واليابانية لايمكن أن تكون مجرد أقنعة للغباء البدائى .. كما أن الأساطير لا تفتقر فى حججها إلى أية قيمة إيجابية أو مغزى ..
واتجهت الأجيال التالية إلى نظرة أكثر اعتدالاًَ إلى طابع الأسطورة ، فلم يعد يعنيهم معناها الميتافيزيقى ، وتناولوا المشكلة من الجانب التجريبى وحاولوا حلها اعتماداًَ على منهج تجريبى ، ويمكن القول إن المذاهب المختلفة لم تر اساساَ فى المرآة السحرية للأسطورة غير وجوها ، إذ يكتشف فيها اللغوى عالما من الكلمات والأسماء .. وتبدو فى نظر الفيلسوف فى صورة فلسفة بدائية ، أما فى نظر عالم النفس فإنه يرى فيها ظواهر مرضية نفسية معقدة مثيرة للاهتمام كما اهتم علماء التحليل النفسى اهتماماً كبيراً بأبطال الأدب والأساطير فنظروا إليهم على ضوء عقدة أوديب واعتبروا هؤلاء الأبطال تجسيماً للعقدة المكبوتة ..
وكما تعددت الآراء فى تفسير سر الأسطورة ، فإن النظريات التى تناولت أصل الأسطورة قد تعددت أيضا ، ويمكن أن نشير سريعا إلى النظريات الأربع التى ذكرها " توماس بلفنش " فى كتابه " عصر الأساطير " وهى نظريات الكتب المقدسة والنظرية التاريخية والمجازية والنظرية الطبيعية .. ، ومنذ عهد " بلفنشن " ( 1796 – 1867 ) حتى الآن تعددت النظريات عن أصل الأساطير ..
ونحن لا نميل إلى الفصل بين الأسطورة وفكرة تأمل الظواهر الكونية المحيطة بالإنسان البدائى ومحاولة التعامل معها سواء بالطقس الدينى أو بالإنتاج الفنى ( قولى أو تشكيلى ) ..
ومن هنا فإننا نتفق - إلى حد ما - مع د. نبيلة إبراهيم على أن أن الأسطورة عملية إخراج لدوافع داخلية فى شكل موضوعى بغرض حماية الإنسان من دوافع الخوف والقلق الداخلى ..
والعلاقة بين الأسطورة والعقيدة والقصص عند " د. الحجاجى " واضحة ، فالأسطورة هى العقيدة والعقيدة تتمثل فى شعائر والشعائر عبارة عن تقديم القرابين وعند تقديم القرابين لابد من أن تقول شيئا وهذا الشىء هو الأسطورة ..
فمعنى الأسطورة هو الكلام المنطوق - وكلمة Myth - تعنى فى اليونانية المنطوق ، ثم تأتى القصص لتوضيح هذه الشعائر وهناك اتفاق واضح بين رأى " د. الحجاجى " و " برونسلاو مالينوفسكى " الذى يرى أن " الأسطورة تقوم فى الثقافة البدائية بوظيفة لا غناء عنها فهى تعبر عن العقيدة وتذكيها وتقننها وتصون الأخلاق وتبرهن على كفاءة الطقوس وتضم قواعد عملية لهداية الإنسان " .
وتتطور الأسطورة تبعا لتطور المجتمع وقد تتبدد تحت وطأة عناصر ثقافية أقوى فينفرط عقدها وتنحدر إلى أسفل الكيان الاجتماعى أو ترسب فى اللاشعور وتظل على الحالين عقيدة ثانوية أو ضربا من ضروب السحر أو ممارسة غير معقولة أو شعيرة اجتماعية .. وكثيرا ما تتحول إلى محاور رئيسة تعاد صياغتها فى حكايات شعبية .. كما أنها يمكن أن تتطور تحت تأثير صنعة القاص وعند ذلك ينسى أصلها الدينى ، وتتخذ شكل حكاية خرافية أو شعبية .. تروى فى أى مكان ووقت بعكس الأسطورة الأصلية لها التى ترتبط ممارستها بمواسم أو مناسبات محددة .
وهذا الرأى يرجع الحكايات الخرافية والشعبية إلى الأساطير على عكس تصور مدرسة الأدب الشعبى فى بدايات هذا القرن ، والتى كانت ترى أن الأساطير هى التى انحدرت عن القصص الشعبى .
إذن – ورغم الإختلافات الكثيرة فى الرؤى – نجد أن الإتفاق يكاد أن يكون عاماً على أن الأسطورة والمعتقد الشعبى مرتبطان ببعضهما ارتباطاً عضوياً ، بما يعنى أننا عندما نتحدث عن تجليات المعتقد الشعبى فى فنون السرد فإننا نتحدث أيضاً عن البعد الأسطورى فى الإبداعات الشعبية الأدبية عامة ، كالحكاية والقصص الخرافى وقصص الأبطال وغيرها ..
بعد ذلك تناولت ظاهرة " التنبؤ " كنموذج تطبيقى لمنهج الفكر الأسطورى الذى لم يفارق الإنسان منذ وجد وحتى الآن فى الحدود الموضحة فيما يلى :
النبوءة ظاهرة إنسانية نشأت في أحضان العقيدة الدينية البدائية وظلت هذه الظاهرة قائمة وممتدة ومستمرة مع الإنسان – باختلاف موقعه الجغرافي وبيئته الثقافية – وظلت قاسماً مشتركاً فى الخطاب الدينى للإنسان حتى عصرنا الحاضر ، أى أن معظم المفاهيم الأخرى المتعلقة بالعقيدة الدينية سقطت مع مرور الزمن ، أو تطورت واتخذت أشكالاً أخرى بفعل التقدم الحضارى من جهة و نزول الديانات السماوية من جهة أخرى .. إلاّ أن مفهوم النبوءة أو ظاهرة التنبؤ ظل ملازماً للإنسان ومتحكماً في ثقافته وعضوا هاما فى ابداعاته وموجهاً لبعض سلوكياته حتي اليوم ..
و الدافع الأساسى وراء هذه الظاهرة هو الرغبة الملحة فى الاطلاع على المستقبل ومعرفة ما يطويه الغيب ، سواء للأفراد أو الشعوب ، تلك الرغبة وذلك الإلحاح الذى جعل الإنسان يقع فريسة سهلة فى أيدى كل من يدعى معرفة الغيب وقراءة الطالع ..
والمعنى اللغوى( للنبوءة) قريب الصلة بما يجسده المفهوم ، فالنبوءة فى اللغة من نبا، ونبأ الشيء نبأ ونبوءًا أي ارتفع وظهر، وتنبأ بالأمر أي أخبر به قبل وقته ومن معانيها ( فى المعجم الوسيط ) الإخبار عن الشىء قبل وقته حزرًا وتخميناً.
وبالرغم من أن اليونانيون يعتبرون منشئ ومؤسسى علم المنطق والمذهب العقلى ، إلا أنهم فى نفس الوقت اعتقدوا فى السحر والعرافة ، ولقد كانت نبوءات دلفى تشكل أسس العبادة والسياسة والحياة الاجتماعية فى بلاد اليونان لعدة قرون وقد تحدث الكتاب والمؤرخون عن قدرة أبولو الفائقة متميزاً بذلك عن بقية الآلهة ووصفوا الكنوز والقرابين التى كان يقدمها المؤمنون به ..
والركن الأساسي الذي تقوم عليه النبوءة هو ( الحتمية ) التى لا بد من تحققها ، ولا يمكن معها فعل أى شيء يمنع حدوثها فتظهر تفاصيل وأحداث النبوءة ( المستقبل ) وكأنها حالة محسوبة ومحددة سلفاً ، ويبدو الحديث عنها وكأنه حديث عن وقائع تاريخية حدثت فعلاً. ويترتب على هذه الحتمية أن النبوءة – وهذا أخطر ما فيها- تسلب أصحابها والمؤمنين بها أى قدرة على الفعل ، إذ أن كل شيء حتمي ومحدد سلفًا ، ومن ثم فلا بد من التسليم به وانتظاره ، بل كثيراً ما يتحول الفعل في اتجاه العمل على الإسراع بتحقيق النبوءة تماماً كما حدث مع شعب (الأزتك) في المكسيك ، تلك الامبراطورية العريقة التى امتدت شمالاً لتشمل الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة ( قبل ظهورها) وجنوباً حتى أمريكا الوسطى ، فقد كانت تسيطر عليهم نبوءة محورية مفادها أن الآلهة طردت إله الشمس (كوتزالكوتل) من بلادهم إلى الشرق ، فأقسم عند رحيله بالعودة يومًا ما لتدميرهم والانتقام منهم واستمرت هذه النبوءة مسيطرة عليهم وتصادف في القرن السادس عشر أن غزا المكسيك المغامر الأسباني الشهير (هرنان كورتيز) مع خمسمائة من جنوده ، فرأى فيه الأزتك (كوتزالكوتل) العائد من أجل الانتقام ، والذى تقول الأسطورة إنه سيعود على (طوف) ومعه الرعد والبرق والكائنات الغريبة ، وأسقطوا النبوءة بكل تفاصيلها عليه ، فالطوف الذى بشرت به النبوءة هو السفينة التى تحمل كورتيز وأصحابه والرعد والبرق هو المدفع والبارود الذى كان جديداً عليهم ، أما الكائنات الغريبة فكانت ( الخيل ) التي اصطحبها كورتيز معه وكانت المرة الأولى التي يراه فيها شعب الأزتك ، لذلك لم يكن غريبًا أن تنهزم إمبراطورية الأزتك العريقة المترامية الأطراف أمام مجموعة من المغامرين لا تزيد عن الخمسمائة فرد ، لأن النبوءة سلبتهم القدرة على الفعل فلم تعد هناك فائدة من المقاومة أو حتى التفكير فيها.
وبنفس المنطق الذى تعامل به الأزتك مع النبوءة ، تتعامل بعض التيارات الإسلاميه فيما يخص الصراع العربى – الصهيونى اعتماداً على حديث نبوى رواه مسلم يقول : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيختبئ اليهودى وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودى ورائي تعال فاقتله ، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود" ، حيث أعلن البعض ترحيبهم بتزايد معدلات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين بل وطالب بتشجيعها باعتبارها تجميع للشتات اليهودى بما يعجل بالمعركة الفاصلة التى تبشر بها النبوءة ، وصاغ البعض خطابًا إسلاميًا معتمدًا على هذه النبوءة مفاده أن القضية الفلسطينية لن تحل إلا بالمواجهة الحاسمة والشاملة النهائية مع اليهود كما تبشر النبوءة وهو ما يعني تأجيل أو ترحيل هذه المشكلة وربما الهرب من مواجهتها لأن الحل في هذا الخطاب مؤجل إلى يوم القيامة!.
واليوم ، ورغم الانتصار الظاهرى للمنطق والعلم نجد الكثيرين الذين يستشيرون العرافين المعاصرين والمنجمين والفلكيين سواء سراً أو علانية ، بل يمكن القول بأن علماً خاصاً بدراسة الظواهر الغريبة التى لا تخضع للإدراك العقلى يأخذ مكانه بين العلوم التجريبية الاخرى ونجد أنفسنا أمام ميدان لم يكتشف بعد ولا ندرى إذا ما كانت تلك الظواهر التى نسميها بالمعجزات أو على الأقل الاحداث الخارقة تتعارض فعلاً مع الطبيعة أو ما نعرفه نحن عن الطبيعة ، وما إذا كان من الواجب علينا أن نسلم بأن منطقنا لا يقوى على حل كل مشاكلنا .
ويبدو أن الرغبة فى الكشف عن المجهول والتحرق شوقاً لمعرفة ما لا يمكن أن يعرف يخفى بداخله سحراً خاصاً ، فيقول شيشرون " لقد وُجِدت وتوجد لدى شعوب الأرض قاطبة ومنذ الأزمنة القديمة وحتى يومنا هذا أنواع مختلفة من السحر والتنجيم ، ويبدو أن أصلها يرجع إلى فكرة اتصال الإنسان بإحدى القوى الخفية التى تقوده إلى غياهب المستقبل وتهدئ من قلقه .." وتعتبر ظاهرة التنبؤ ظاهرة شائعة فى معظم النظم الدينية كعنصر أصيل فى تكوين الديانة باعتبارها المعبر الذى يصل الإنسان بربه ..
وقد مارس القدماء ألوانا عديدة من العرافة ، يشير أيسخوليوس إلى بعضها كالأحلام وأصوات الوحى التى تكشف عن الرغبة الإلهية والعلامات التى يصادفونها فى الطريق ، حيوان على سبيل المثال أو طير وقراءة الغيب عن طريق فحص أحشاء القرابين من الحيوانات وغير ذلك ..
وكان للعرافة مراكز مخصصة عند كل الشعوب ، ولكن كان من أشهر هذه المراكز مركز " دلفى " فى اليونان القديمة ، وكان من الممكن أن تمارس المهنة باستدعاء الشخص المعروف بالعرّاف أو العرّافة أو الذهاب إليهم حيث يقيمون ..
ويعتبر التنبؤ نسيجاً أساسياً من أنسجة الأسطورة ، بل لا نغالى إذا قلنا أنها تمثل الهيكل العظمى لها قياساً على أسطورة أوديب التى بنيت على نبوءة معبد دلفى القائلة بأن هذا الطفل ( أوديب ) سوف يقتل أباه ويتزوج من أمه ..
ولم يكن الحرص على معرفة طالع المولود وما يخبئه له القدر عادة خاصة بأوديب وحده ولا باليونان وحدهم بل كانت عادة متبعة عند كل شعوب الأرض تقريباً ، ووصل الأمر إلى استقرارها فى الوجدان الثقافى الجمعى حتى أن أفراد الجماعة الشعبية تمارس التنبؤ فى حياتها اليومية فالمرأة المجربة تتوقع جنس المولود من خلال شواهد تدركها بالتجربة والخبرة من ملامح الحامل وشكل البطن، كما تعرف جنس المولود القادم من شكل رأس المولد الحالى عندما يكون برأسه منبتان للشعر أو كما يطلقون عليها " بريمتان " ومن هذه الخبرات انبثقت فى ابداعاته الأدبية التى هى فى نفس الوقت تعبير عن فلسفته ورؤيته للكون من حوله ، ما يفهمه منه وما لا يفهمه ..
والنماذج الأدبية المعروفة كلها بلا استثناء تؤكد هذه المقوله ، سواء كانت نماذج أدبية شعبية أو غير شعبية كما هو الحال فى معظم التراث اليونانى الأدبى ومن بعده الرومانى ثم الأوروبى فى أعمال كثيرة لشكسبير وآرثر ميلر وكذا فى الأدب العربى عند نجيب محفوظ مثلاً خاصة فى روايته " عبث الأقدار " التى يعتمد فى أحداثها على نبوءة عراف للملك خوفو بأن الملك سيخرج من بيته وفى الوقت الذى يحاول فيه خوفو تعطيل النبوءة نجده يحققها بيده من حيث لا يدرى – تماماً كما حدث مع أوديب – للدلالة على حتمية حدوث النبوءة .
والنبوءة إما أن تكون مباشرة من عراف يُعْتَقد – لدى أبناء مجتمعه – أنه قادر على معرفة الغيب أو يمكن أن تأتى بشكل غير مباشر أو بوسيلة أخرى كالرمل والودع أو الصدف أو فتح الكتاب ( الذى يحتوى على رموز سحرية تكشف الغيب أو الكتاب الذى يفتح لتفسير الأحلام والأحداث الغامضة ) ، أو بوسائل أخرى كثيرة ومتعددة منها على سبيل المثال " الهاتف " أو صوت مجهول المصدر يأتى من حيث لا يحتسب الانسان ولا يدرى ، لكنه صوت واثق يعلم تماماً مشكلة البطل وأبعادها وطرق الخلاص منها .. أو يمكن أن يكون التنبؤ عن طريق حلم وثيق الصلة بما يشغل بال البطل وقد يتكرر هذا الحلم أكثر من مرة ( فى العادة ثلاث مرات ) مما يعنى أنه ليس أضغاث أحلام ولكنه إشارة من قوى خفية تحدد للبطل حركته القادمة أو تكشف عن خطر يتهدده ، أو تكشف عن حقيقة قد لا يعلمها البطل ( عدو مثلاً فى ثوب صديق )
وأحياناً تعتبر كلمة غير مقصودة من شخص لا علاقة له بالأمر ( أو طفل صغير لا يدرك ) إشارة يستخلص منها البطل معنى ً خاص يكون حلاً لمشكلة تعترضه أو تفك له لغزاً مستعصٍ عليه ..
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هناك ما يمكن أن نسميه " النبوءة المعلقة " أو المشروطة ونقصد بها حدثاً يرتبط بآخر ، بمعنى أن يقول الشخص المتنبئ مثلاً للبطل " سر فى طريقك ولا تلتفت للخلف مهما حدث وإلاّ...." أو يعطى الزوج – الذى هو غول أو ما أشبه – مفاتيح غرف القصر كلها لزوجته ويحذرها من دخول حجرة معينة يحددها لها ( لاحظ هنا أن التحذير يثير الفضول ويتضمن الدعوة لمخالفة الأمر حتى يحدث ما هو مقدر) .. كمقابل للخطأ التراﭼيدى المقدر للبطل لولا وجود القوى المساعدة التى ترعاه وتخلصه من نتائج أخطائه الحمقاء ..
وقد طالب بعض الحضور بتخصيص موضوعات محددة لعرضها ومناقشتها فى ندوات تالية ، وأنا أقترح أن يقوم بهذه المهمة المتخصصون فى هذا المجال ولا يقصرون نشاطهم على العاصمة فقط حتى لو كانت هناك بعض المشقة فى التنقل ..
ساحة النقاش