<!--
<!--<!--
الفصل الرابع
ركب الأمير حمزة متوجهاً إلى الحيرة وبين يديه فرسانه ، وعمراً ورجاله حول الجيش وأمامه كالعفاريت يستطلعون الطريق ، ويلبون احتياجات الجنود ، ويكتشفون أماكن الآبار والينابيع ، ويوجهون المسيرة إلى الطرق الممهدة ، وبعد أن ساروا لمسافة بعيدة أقبل عمرعلى حمزة وعلى وجهه علامات الفزع وطلب منه سلوك طريق آخر فعلى مرمى البصر يربض أسد هائل فضحك حمزة ساخراً وصاح آمراً بمواصلة المسير ثم ترجل عن جواده واستل سيفه متجهاً إلى حيث يربض الأسد وسط دهشة جنوده وخوفهم عليه ، شعر الأشد بحمزة يقترب منه فهب واقفاً وكشر عن أنيابه الهائلة وزام رافعاً ذيله وانقض على حمزة فراغ منه وعاجله بضربة سيف شقت رأسه نصفين ، انطلقت صيحات الفرح والنصر من الجنود ، وهم حمزة بشق بطنه ليأكل من قلبه ويطعم من يريد من رجاله وإذا بفارس يهبط من أعلى الجبل وهو يصيح بغضب .." قتلت رفيقى فى الحياة .. لابد من قتلك .." تنبه حمزة واستقبل الفارس بسيفه واشتبكا فى قتال ضارٍ استمر لساعات لأن الفارس كان قوياً شجاعاً يجيد الضرب والطعان ، لكنه لم يكن ليصمد أمام حمزة الذى ما إن شعر بأن الفارس قد وهنت قواه فاقترب منه وانتشله بيده وألقاه على الأرض ورفع سيفه ليقطع رأسه لكن يده توقفت فى الهواء واستخسر شجاعته وقوته خاصة أنه لا عداوة بينهما وقد تعجب كيف يكون رفيقاً لأسد دون البشر فسأله عن حكايته ، عندئذٍ علم الفارس أنه نجا فتنفس الصعداء وأخذ يروى حكايته لحمزة وكيف خانته القناصة ابنة الملك النعمان التى كان مغرماً بها وأنقذها من يد الملك غشام العراقى بعد أن هزمها فى ميدان القتال وأخذها كسبية وادعت لنفسها الإنتصار على غشام وعندما أوضح للنعمان حقيقة ما حدث اتهمه بالكذب وطرده من بلاده فاضطر للخروج والعيش مع ذلك الأسد بعد أن هاجمه واستطاع هو هزيمته ولم يقتله لأنه شاهد ضعفه بعد أن تغلب عليه ، تعجب الأمير من حكايته وأخبره أنه فى طريقه للإنتقام من الملك النعمان لكفره وعبادته النار دون الواحد القهار فإذا شئت انضم إلينا وأعدك بالزواج من هذه القناصة التى تهواها ففرح الفارس غاية الفرح وعاهد حمزة على الإخلاص فى خدمته وسار معهم فى مقدمة الجيش كدليل ، ثم رأى حمزة أن يسبق رجاله وطلب منهم أن يتأثروه واصطحب معه عمر ومخلوف صاحب الأسد وأوغل فى البرية إلى أن وصل إلى طريق ضيق يصل إلى جبل عال وإذا بأربعة رجال بدا أنهم من الأعجام إلى جانب الطريق ، أشار إلى عمر فأحضرهم بين يديه ، كانوا فى أشد حالات البؤس ، حفاة عراة إلاّ مما يسترعورتهم ، سألهم عن حكايتهم فقالوا إننا نعمل بالتجارة واعترضنا فى طريق عودتنا من اليمن بالأموال الوفيرة فارس مدجج بالسلاح يدعى أصفران الدربندى سلبنا كل ما معنا وهو هناك فى ذلك الحصن ، عزم حمزة أن يرفع الظلم عنهم وأسرع إلى الحصن منادياً صاحبه للنزال ، واشتبكا فى قتال ضارٍ أظهر فيه كل منهما شجاعة وقوة ما لها من مزيد إلى أن تمكن حمزة من انتشاله بيديه من فوق جواده وألقاه إلى عمر ليوثقه ريثما يجهز على بقية رجاله لكنه فوجئ به يصيح به " العفو يا أمير حمزة البهلوان " ، تعجب حمزة وسأله " كيف عرفت اسمى ولم أذكره أمامك ، ما حكايتك أيها الفارس ..؟" روى له أصفران كيف التقى برجل صالح فى كهف بالجبل راح يستظل به من هجير الشمس ذات يوم وعرف منه أنه لن يهزم فى قتال إلاّ من رجل من مكة السعيدة يدعى حمزة البهلوان وأعطانى لك أمانة أحفظها لك ولو كنت أخبرتنى باسمك ما كنت قاتلتك ، وانضم أصفران إلى جند حمزة وأعطاه أمانة الرجل الصالح وكانت عبارة عن ستة معاضيد من الذهب واحدة له وخمسة لخمسة أولاد سيولدون له وواصلوا المسير إلى بلاد الملك النعمان .
استطاع الأمير حمزة هزيمة النعمان وأسره ، ثم عفا عنه بعد أن عاد إلى عبادة الله الواحد وأبدى حمزة عزمه على المسير إلى المدائن لكن النعمان أشار بعدم المسير الآن وعليه أن ينتظر حتى يستدعيه كسرى لنصرته بعد أن يفقد عرشه واسحسن حمزة هذا الرأى وعاد برجاله إلى مكة ، وذهب النعمان إلى المدائن ليعرف ماذا سيفعل بعد علمه بما فعله حمزة برجاله وأمواله ، وما إن روى لكسرى ما حدث حتى هاج وماج وهو يصرخ فى حاشيته " كيف يجرؤ كلب عربى على قتل رجالى ..؟ " وجاءه الرد من الوزير بزرجمهر فى هدوء " إن من فعل هذا من رجالك يامولاى .." تعجب الملك ونظر إليه متسائلاً وواصل الوزير قائلاً أن هذا الفارس يامولاى هو الأسد الذى رأيته فى منامك منذ زمن طويل ، تهلل وجه كسرى ونسى ما حدث لجنوده وخلع على النعمان الخلع السنية ، بينما ظهر الغيظ والحقد على وجه الوزير بختك لأنه يكره العرب ويحتقرهم ، وعاد النعمان إلى الحيرة ومرت الأيام والشهور ، وذات يوم تواترت أخبار عن عن فارس يدعى "خارتين" خرج من حصن خيبر فى أربعمائة ألف فارس دخل بهم حدود البلاد وهو يقتل وينهب وأنه يزحف صوب المدائن ..
أمر كسرى وزيره بختك بتجهيز الجيش ، فامتثل للأمر وجهز جيشاً من تسعمائة ألف جندى ، والتقى الجيشان على مشارف المدائن وانتهى اليوم الأول من القتال بخسائر كبيرة فى صفوف جيش العجم مما جعل كسرى يلوم الوزير بختك إذ كان قد عرض عليه أن يستدعى جماعة العربان للمعاونة لكن بختك رفض بحجة أنهم إذا حضروا وانتصر الجيش سينسبون النصر لأنفسهم وطمأن الملك اعتماداً على كثرة عددهم ، وفى اليوم التالى حلت بجيش كسرى خسائر أكبر وبات من الظاهر أن خارتين سيخل المدينة بعد يوم أو يومين فاستنجد كسرى بوزيره بزرجمهر الذى أشار عليه بأن ينسحب وأهله حاملاً ما يقدر على حمله من الكنوز والنفائس ويقصد مدينة طهران ليكون فى مأمن ريثما يستدعى العرب لنصرته ، ولم يكن أمام كسرى سوى تنفيذ ما أشار عليه الوزير العاقل ، وبالفعل مر يومان ودخل خارتين المدائن وسط تهليل جنوده وفرحتهم الغامرة بالنصر المؤزر ، وجلس خارتين على عرش كسرى وسمى نفسه كسرى الخيبرى ملك العرب والعجم وقرر إرسال الكتب لعمال كسرى كى يأتوه بالجزية من ولاياتهم لكن ما من أحد أجابه ..
أقام كسرى فى طهران وهو حزين على عرشه الضائع ودعا وزيريه للتشاور فيما يجب عمله وهنا ألمح بختك بشماتة إلى ما كان بزرجمهر قد تنبأ به منذ سنوات عن ذلك الفارس العربى الذى سيخلص للملك عرشه وتسائل فى سخرية لم تخفى على بزرجمهر أين هو الآن هذا الفارس ..؟ وصدق الملك على كلامه والتفت إلى بزرجمهر متسائلاً عن وقد تذكر أنه سمع عنه من قبل من الملك النعمان ، وأكد بختك قائلاً .. نعم نعم .. حين قتل جنودنا ونهب أموالنا ..! ، وتبسم الوزير بزرجمهر ورد بهدوء وثقة بأن الفارس موجود فى مكة ولو كنا استدعيناه من البداية لما كنا فى هذا الوضع البائس ، فهم الملك إشارة الوزير وأطرق بختك خجلاً ، وطلب الملك من بزرجمهر أن يتوجه على الفور إلى أرض العرب ويأتى بالفارس العربى بأسرع وقت ..
انطلق الوزير من ساعته قاصداً مكة وفى الطريق مر على الحيرة فوجد فوجد النعمان يجهز جيشاه لقتال الخيبرى فأشار عليه بعدم المسير ولكن عليه أن يكمل تجهيز الجيش حتى يذهب إلى مكة ويعود بحمزة ورجاله ليكون جيشاً واحداً فاستحسن النعمان هذا الرأى ، وواصل الوزير مسيره حتى وصل إليها والتقى حمزة وأخبره بالأمر كله ففرح حمزة وأمر بإعداد الجيش وتحرك الركب باتجاه المدائن بعد أن ودعهم الأمير ابراهيم وأهالى الجنود يتقدمهم الوزير وحمزة وأصفران ورجاله وعقيل قائد الثمانمائة وحول الجيش ينتشر عمر ورجاله حتى وصلوا الحيرة فانضم إليهم جيش النعمان الذى يربو على الخمسين ألف فارس ، واقترح الوزير أن يذهبوا إلى طهران لينضم إليهم جيش كسرى لكن حمزة رفض بإصرار وحجته أنهم إذا قاتلوا إلى جانب العجم فلا شك أنهم سينسبون النصر لأنفسهم ويكسبون من الفخر ما هو من حقنا ، واقتنع الوزير برأيه سعيداً فى داخله فهو خير من يعرف طباع العجم وخاصة ذلك الوزير الحاقد بختك ودعا له وودعه وانطلق هو إلى طهران بينما توجه حمزة إلى المدائن ، وعندما أشرف على المدينة أشار عليه النعمان أن يرابط الجيش خارج المدينة بمسافة كافية ويرسل حمزة كتاباً إلى خارتين يدعوه للخرج والعودة إلى بلاده وإلا فهى فالحرب ..
وعاد عمر بلا رد مكتوب ولكن بتهديد ووعيد ، وفى الصباح فتحت أبواب المدينة وتدفق منها أمواج من الجنود سدت الأفق حتى ذهل النعمان وشعر برعب شديد وعاتب حمزة على رفضه مشاركة جنود العجم لكن حمزة طمأنه مؤكداً أنه ورجاله فقط ودون جيش النعمان نفسه قادرون على هزيمة هذا الجيش ولو كانوا بعدد الرمال ، وأمضى الجيشان بقية اليوم فى تنظيم أنفسهم ودق خيامهم ، وفى صبيحة اليوم التالى دقت طبول الحرب وبدأت جنود خارتين بالهجوم فتلقاهم حمزة ورجاله بقلوب من حديد وبأس شديد وانقضوا عليهم انقضاض النسور الجائعة على فرائسها ، وظهرت بطولة أصفران ورجاله وعقيل وفرسانه ، وعمر وفرقته كالعفاريت حول الميدان يرمون بالسهام ويثيرون ذعر الجياد فترتبك الخطوط وتختلط الصفوف ويسقط الرجال صرعى وتناثرت جثث رجال خارتين واستمر الحال على هذا المنوال إلى قرب الزوال فضربت طبول الإنفصال وعاد كل جيش إلى خيامه ، ورجع الأمير حمزة والدماء تغطى جسدة فتلقاه النعمان بالأحضان وقبله بين عينيه وأثنى عليه وخلد الجميع إلى الراحة استعداداً للغد ، وفى الصباح بكر حمزة إلى الميدان ، صال وجال حتى تحيرت من أفعاله عقول الرجال وفيما هو على تلك الحال برز له خارتين كالغول فى قبح خلقته ، تأمل حمزة ملياً ولاحظ صغر سنه ومنى نفسه بالنيل منه فامتشق حسامه وانقض عليه بضربة صاعقة لكن حمزة غطس تحت بطن الجواد فطاشت ، ثم اعتدل قبل أن يفيق خارتين من دهشته وبادله الضرب بالرماح الطوال والسيوف الصقال وأخذا فى الالتحام والانفصال وشخصت إليهما الأبصار وكل فريق يمنى النفس بظهور بطله .. تكبدت الشمس السماء وهى ترسل شواظها لتزيد من وطيس المعركة الضارية بين فارسين لا يشق لهما غبار وشقت الصمت صرخة كالرعد القاصف فانتبه الجميع والقلوب تخفق والعيون تحدق فى الغبار الذى ثار بفعل الطراد ليروا خارتين وهو يتهاوى من فوق جواده مضرجاً بدمائه فهلل الجيش العربى ، وعلى الفور أصدر النعمان أمره بالهجوم واشتبك الفريقان وقد دبت الحمية فى قلوب العرب بينما دب اليأس فى قلوب الخيبرييين وأيقنوا بالهلاك وقد رأوا قائدهم مجندلاً وفكروا فى اللجوء إلى داخل المدينة لكن سكان المدينة بعد أن رأوا ما حل بخارتين وأيقنوا بانتصار العرب تشجعوا وحملوا سيوفهم ووقفوا على الأبواب ليمنعوهم من الدخول فلم يجدوا أمامهم غير الفرار بأرواحهم ..
ودخل حمزة المدينة وسط ترحيب أهلها وفرحتهم الغامرة ، وتوجه إلى قصر كسرى وباتوا ليلتهم فيه وهو فى شدة الإنبهار من فخامته وضخامته ، وحرص حمزة على ألاّ تمس أموال كسرى وكنوزة وكذلك أموال خارتين التى جمعها فى طريقه إلى المدائن كى تسلم بكاملها للملك ليعلم أن العرب ذوى عفة وكرامة رغم إلحاح النعمان بأنها من حقه لأنه هو الذى غنمها فى الحرب ..
وفى اليوم التالى خرج حمزة إلى ظاهر المدينة حيث يعسكر جنوده ليقيم بينهم وأرسل كتاباً إلى كسرى يدعوه للعودة إلى عرشه وأعطاه لعمر كى يسرع به إلى طهران ، وكان عمر قد جز رأس خارتين ليحمله معه إلى كسرى طمعاً فى مكافأة كبيرة يوزعها على رجاله وانطلق فى رحلته والأمل يراوده فى هذه المكافأة ، وكانت صدمته شديدة حين تأجل هذا الأمر لحين عودة كسرى إلى المدائن ..
ساحة النقاش