<!--<!--<!--<!--<!--
معزوفتان للموت
1- طعم البلح الأخضر ..
حين قال لنا أنه يستطيع أن يطلع النخلة العالية ، ويهز سباطها كي يتساقط لنا البلح فنأكل حتي نشبع .. قلنا أنه لا يستطيع .. حلف أنه يستطيع أن يفعل وحلفنا أنه لا يستطيع .. قال : سترون !
كانت النخلة عالية .. أعلي من مأذ نة جامع سيدى عبد الله ، وأعلى من الصهريج ، وكان هو صغيرًا .. صغيرًا ..
لكنه قال لنا : سترون !
تقدم إلي جذع النخلة ، رفع رأسه ونظر إلي جريدها الكثيف وسباط البلح الأخضر والأحمر والتفت إلينا قائلا :
أيحب أحدكم أن يأتي معي ؟
لما لم يرد أحد ، شتمنا .. وصفنا بالجبناء وهو يضع طرف ثوبه فى فمه .. بانت ساقاه السمراوين ..احتضن جذع النخلة وبدأ يطلع .. لما وصل إلي منتصف النخلة .. هللنا مشجعين ومعجبين .. ولما وصل إلي نهايتها صفقنا له و...
كانت النخلة عالية .. وبدا هو أكثر ضآلة .. مد يده الصغيرة إلي سباط البلح وأخذ يهزه بعنف .. تساقط البلح علي رؤوسنا وأكتافنا وعلي الأرض من حولنا .. ضحكنا وانحنينا نلم البلح ونحشو به جيوبنا ونأكل .. كان بلحا أخضر وكنا نشرق به ..
- نريد بلحا أحمر .... نريد بلحا أحمر ..
صحنا به في احتجاج ، ونحن نضحك ونأكل ويضرب بعضنا بعضا .. لم نسمعه يرد ولايشتم ..لكننا شاهدناه يحاول أن يصل إلي البلح الأحمر في سباطة أعلي مد يده .. مدها عن آخرها ..كي يطعمنا بلحا أحمر .. لكنه .. لكن ..
سمعنا صرخة حاده .. وصوت ارتطام شديد .. ورأيناه يتكوم هناك .. قرب جذع النخلة العالية .. صغيرًا كان ... ونحيفاً كان .. لكنه ..
- ما ت ..؟ !
تسائلنا في خوف وحزن وهلع .. وانطلقنا نجرى .. نجرى .. وتركناه هناك قرب جذع النخلة العالية .. وقد انحسر ثوبه المتسخ عن ساقيه السمراوين ، وحوله تناثر بلح أخضر كثير ، طعمه ليس جميلا .. وكنا نشرق به ..
2- محمد شمعة
- محمد شمعة
- ..............
ارتفعت رأس الأستاذ عاصم عن كشف الحضور و الغياب ، تجولت عيناه في أنحاء الفصل وهو يكرر ..
- محمد شمعة
- ................
علي الرغم من وجود اسم أبيه في الكشف إلا أننا لم نعرفه أبدا .. ولم نسمع الأستاذ عاصم نفسه يناديه به يوما .. وكان محمد شمعه يتقبل الأمر وكأنه لا يخصه
كان حين يسمع اسم – محمد شمعه – يرد بسرعة وبصوته الغليظ القريب من أصوات الرجال :
- أفندم ..
تتجه إليه أنظارنا هناك ، في نهاية الصف وبجوار الحائط يجلس محمد شمعة .. يعبث بطلاء الحائط ، أو يحفر دكته الخشبية بمسمار صغير ، يرسم طائرا أو حيوانا .. لكنه أبدا لا يكتب اسمه .. كنا نضحك كثيرا عندما نراه ممسكا بالقلم بطريقة خاطئة لاتمكنه من كتابة الحروف والكلمات بشكل صحيح .. وكلما حاول الأستاذ عاصم أن يصحح له الوضع ، لا يلبث أن يعود بعد قليل ليمسك القلم بطريقته .. ينهال عليه الأستاذ عاصم ضربا .. لكن محمد شمعه لا يهتم ويصر علي الإمساك بالقلم بطريقته وعلي العبث بطلاء الحائط .. وعلي رسم الطيور والحيوانات علي دكته .. لم يكن يبكي أبدا كأن جلده مات مثل قلبه .. محمد شمعه قلبه ميت .. كان يستطيع أن يدخل الجبانه في عز الظهر ..عندما تنشط العفاريت .. وكان يطلع أعلي نخلة في البلد ويقذفنا بالبلح الأحمر والأخضر .. وكان يتسلق سور جنينة الباشا العالي ويقذف لنا عناقيد العنب و حبات الجوافة الخضراء دون أن يخاف من الخفير حسانين ، ..
- محمد شمعة
- .............
لما لم يرد محمد شمعة ، انحني الأستاذ عاصم علي مكتبه وسجل أمام اسمه حرف الغين ..
منذ ذلك اليوم لم نعد نري محمد شمعة .. وبعد أيام نسيناه .. ولم يعد الأستاذ عاصم ينادي اسمه كل صباح ..
واليوم .. وجدت الخاله شمعة أمامي تحجل وراء حمارتها ، تارة تسب الحمارة وتارة تسب العيال الذين يشاكسونها .. سألتها ..
- خاله شمعة .. خاله شمعة .. محمد راح فين ؟ ..
تساقطت دموعها ، وأسرعت وراء حمارتها دون أن تجيب ..
نشرت فى مجلة البحرين الثقافية العدد 75 يناير 2014
ساحة النقاش