(( وراء برزخ الغيبوبة ))
...............
الساعة تشير إلى السابعة صباحا كالمعتاد إئتزرت زيي الطبي و بدأت في جولة إلى شرفات المرضى للإطمئنان عليهم .
و أنا أسير من عنبر إلى آخر حتى جاءت سيارة الإسعاف وكانت بها حالة صعبة فجراح المصابة بليغة جدا .
هرعت مع الممرضات أدخلنا السيدة إلى غرفة العمليات .
أجرينا لها اللازم بعد عناء طويل وخسرانها للكثير من دماءها أنقذناها ولكنها دخلت إلى غيبوبة لم نكن نعلم مدتها . خرجت لأتكلم لأهلها ، علمت أنها كانت السائقة أخبرتهم عن حالتها و أنها مازالت تسبح في بحر الخطر .
أنهيت عملي وذهبت متجه إلى بيتي ، ولكني لا أعلم لما تسارع قلبي في خفقاته ، سرحت طويلا ركع ذهني للأفكار لم أجد لها تفسيرا ، واستكانت مهجتي لنبضات مجنونة ، وجدت نفسي تحملني أقدامي وخطاي تمشط الطرقات حتى وصلت إلى المشفى أدركني الديجور وأنا أقف أمام حجرة الإنعاش أراقب المريضة في الغيبوبة من وراء الزجاج .
شعرت وكأنها لؤلؤة خرجت من محار قلبي لتخبرني أنها ولدت لتراني و رقدت قبل أن تراني .
ذهبت إلى مكتبي غسلت وجهي عشرات المرات بماء بارد علًني أصحو من غفوتي ، تَأملت وجهي في المرآة لأجد لأسئلتي أجوبة لم أحسن من العثور في داخلي على دليل .
حملتني أقدامي إلى غرفتها ثانية وهذه المرًة تجرأت ودخلت الغرفة ، جلست إليها على كرسي محاذيا لسريرها ، وثبت ملامحها التي ترقد في غياهبها البعيدة مسكت كفها وتكلمت إليها .
قلت : ترى هل تشعرين بي ... ؟
سخفت من نفسي كيف ستجيبني وهي طريحة الفراش سجينة الغيبوبة ، محاولا جادا في مسح الهجس الذي سبغ لونه على ذهني واعتصر وجداني .
غادرت غرفتها مصطحبا روحها بين ضلوعي ، لم أعد أبصر غير وجهها وشعور غريب ينتابني ، لكمت قلبي ببنية كفي لعلي أخرجها من خلجات صدري .
فلم يلبث الصباح على الطلوع والشمس تخترق غشاء السماء حتى وجدتني أعد أنفاسي لإستنشاق لهب الجمر الذي اعتراني في غرفة الإنعاش ، ويحي أدمنت للجلوس إليها وأحدثها .
هذه المرًة مسكت يدها حتى شدت بأناملها أطراف أصابعي ، ذهلت فتسللني خوف وبرد اقشعر له جسدي بادلتها اللمس ففرت دمعة هاربة من بين أهدابها أغلقت عيني لتتبادل روحينا أطراف الحديث .
فقالت : أتعرف أين أنا .... ؟
قلت : أين .... ؟
ضحكت طويلا ثم صمتت وبعثرت ابتسامة كادت أن تشق ستر ثغرها
قالت : أنا هناك على تلة خضراء ، ألوان ورودها مختلفة هناك زنابق ، جوري أقحوان وياسمين و أنا كالفراشة أطير وأتنقل من زهرة إلى أخرى .
قلت : وهل أنا موجود معك ... ؟
قالت : نعم ولكنك حزين جدا و أحيانا أعطش فأرتشف من دموعك ، فأتحول إلى حمامة بيضاء أحلق إلى الآفاق ثم أحط على كتفك لتضمني أضلعك .
قلت : ولكنني سعيد بك جدا ، أراك كطفلة تعبث في ماء النهر فتبتل ملابسك وتعودين إلي باكية شاكية من الماء البارد فأجففه وأدفئك بمعطفي الأبيض وأشتم عطرك أدللك و أقبل يدك .
قالت : نعم روحي تخرج من بين ترائبك فتعود إلى جسدي لألعب بالنار ، أرتل لك أشعاري ، وأهمس لك عن مكنوزي ثم أعود بعد تعب لأنام في خدر قلبك .
قلت : ماذا تكنزين ... ؟
قالت : تأجج في قلبي شعور بعشق غريب ، هل تراه يصيب أم يخيب .... ؟
قلت : تحدي قدراتك وأخرجي من وراء أسوار الغيبوبة لنكون معا .
قالت : لا أستطيع إنني أعد نفسي إلى سفر بعيد ، ولكن المؤلم في هذا السفر أنك لست معي إنه سفر يشبه الرحيل أبصر هناك أرضا بيضاء كلها ضباب لا أعرف ماذا وراء الضباب .
قلت : لا تتركيني وحدي لقد أدمنت روحك ، ماذا سيتبقى إن رحلتي سوى شوق كالبركان يحرق كياني .
تفقدتها حتى ارتخت يدها وأفلتت من بين أناملي ، صحوت من حلم روحي و كأن عقلي جن ، صرخت بصوت عال أنادي على الممرضات لنحاول إعادة نبض قلبها للحياة لكن بدون جدوى .
رحلت تحمل أطيافها روحي معها ، أبقت لي لمسة يد وذكرى روح سكنت ضلوعي لأيام قليلة .
......................
13.01.2016
بقلمي .........../ خوله ياسين