موتٌ مسجّى على أهداب السلام
- أخافُ عليكِ مِن هذا المكان .. أشعلُ سيجارتي وأنا أتأمَلُها وهيَ تملأ لي كأس النبيذ الثاني ، وتبتسم ، لتقولَ:
-لا تَخَف عزيزي ، فالأبنيةُ هُنا هي أعرقُ مِن هولِ الانفجار ، فالكنائِسُ جمَعت الأديانَ في فجرٍ واحِد ، لطالما كُنت أتأمَّلُ صوتَ أذانِكُم في الصباح ، صوتٌ يرنوُ لِلغة الله ، صوتٌ يسدِلُ على قلبي إنجيلاً مصقولا ، لا أدري إن كنتُ عِبئاً على الأحرارِ لِكي يفجّروا الموتَ في عُمري ..
كانتَ تقطُن أمام أحدِ المباني التابعة للدولة ، والتي كانتْ مُهددةً بالتفجير ، لكنّني لم أعلم سِرَّ برودِها اتّجاهَ الموت ، كانت تُنمِّقُ لي كُلّ الأديان ، وتجمَعَهُم لتخبِرني بأنَّ الإنسانَ هوَ قَطُّ نوعان ، إنسانٌ جيّد ، وإنسانٌ سيء ، لا فرقَ بيننا ، إن احتسينا النبيذَ معاً ، أو سبّحنا خالِقنا معاً ، أو تحدَّثنا عن معجزات نبّينا معاً ، أو تعارضنا في صلبِ مسيحهمْ معاً ، كانت تخبرني بأنَّها مُجردُ أفكارٍ ووجهاتِ نظر ، بيدَ أنّها بعيدةٌ أشدَّ البُعد عن عظمة الإنسان ، كانتْ مُؤمنةً بأنها تعبَدُ السلامْ ، والرب هوَ السلام ، وهوُ ابتسامةُ المخلوقِ في وجهِ الخالِق
.. - لِمَ لا تقطُنينَ عِندي لبضعةِ أشهر إلى أن تنتهيَ زوبعتُنا ؟!
سألتها بعدَ أن استلقَتْ على الأريكة واضعةً رأسها في حُجُري وهيَ تتأمَّلُ لونَ النبيذ وتَدَاعُب ذرّاتِ الكحولِ فيه
-….لمْ أحبِّذ يوماً طعمَ القهوةِ عندك ، وتموضُعَ السريرِ بعيداً عَن الشُرفة
.. ضحِكتْ ضِحكةَ طِفلةٍ يافِعةٍ ناضجةٍ وصمتت قليلاً لِتُكمل......
- تلكَ الزوبعة هيَ الحُريّة ، هُناكَ أُناسٌ يحتسونَ القتلَ بِزيِّ الحُريّة ، حُريّتُهم الدماء ، وقتلُ الوردة ، واحتساءُ رحيقِها ، لن تنتهيَ هذهِ الزوبعة دونَ أن تَجرُف أحلامَنا ودونَ أن تئد البسمةَ على شفاهِ أطفالنا القابعين في رحمِ الخوف ، لا خوفَ مع السلام ، وأنا قد اتخذتُ حُريتي بِرونقِ السلام معكْ ، ها أنتَ رجلٌ مِن غيرِ مِلَّتي ، أفكارُنا مُختلفة ، عاداتُنا وتقاليدُنا مختلفة ، حتّى الشيبَ الذي لمْ أعشقهُ يوماً قد عبدتُّ انسيابِه في عُتمةِ شَعرك ، لمْ تُنشِني الكلماتُ يوماً ، إلى أن لثمتُها مِن زُهدِ شفتيك
.. تضعُ كأسها لِتنظرُ في عيني بِحزنٍ كِدُّت أذكرهُ وتُحكمَ قبضتها على يدي وتقول:
- أنتَ حُريّتي ، وملاذي الآمنُ أنتْ ، أنتَ ائتِلافُ كلِّ شيء ، فدعني أمتطي صهيلَ الموتِ وأنا هائمةٌ في بحرِ عينيك ..
يفوحُ مِن صوتِها حفيفُ براءةٍ ثَكلى ، وأشتمُّ عطرَ الحياةَ مِن رحيقِ أهدابِها ، أتأملُ صفوةَ السماءِ في قاعِ عينيها ، وأبدأُ مسيرتي في تدنيسِ مساماتِ وجهها على مهلٍ ، كأنّي أحملُ عنها ندىً نائماً بِرفقٍ قربَ جداوِل نهريها ، صُدقُ الآهاتِ هيَ ، والروحُ الهائمةُ على شواطئ الخلودِ هيَ ، هيَ السلامُ النازِحُ في أرقى صُورهْ ، وهيَ الأنوثةُ الصارخةُ في وجهِ اليأس .. كأسٌ وكأسٌ آخر ، يوصِلاني إلى البيت عقيماً مِن دُنيا الحواس ، لأستلقيَ على ذاتِ السرير التي لمْ تحبّذهُ جوليانا ، والنومُ يطرقُ أبوابي التي سَّلمتُ مفاتيحها لتراتيلِ جوليانا ، وأغفو ، لِأصحو على جرسِ الهاتف !!
-أمازلتَ نائماً !! افتحِ التلفاز .....
وصلتُ إلى المكانِ المُحَدد ، لمْ أدر حينها كيف ، ربّما ذرّاتُ النبيذ قد أوقدتْ اللاوعي بِالأنا المضمرةِ خلفَ ملاحِم الموتِ المُرصَّعِ بِعبراتِ الوداع)…. أبانا الذي في السماوات ، ليتقدَّس اسمك ، ليأتِ ملكوتُك ، لتكُن مشيئتُك ، كما في السماء ، كذلكَ على اّلأرض ، أيًّها الإله الذي يدير حياةَ الناسِ ويُجدد أعمارهم ، نستودِعُكَ بثقةٍ هذا الميّت الذي نبكي شبابه ، ونطلب إليك أن تمتَّعهُ بالشبابِ الأبدي ، في السعادة السماويّة ، بربِّنا يسوع المسيحِ ابنك( ...
أقتربُ شيئاً فَشيئاً ، لأجلسَ على حافةِ القبر ، وتخرجُ مِني دونما أدري ).. بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالكِ يومِ الدين ، إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين (..
أصواتهم تدنو شيئاً فشيئاً ، ونظراتُهم تدنو مِن ذاكَ المُلتحي المتضرِّجِ بانعدامِ الألوان ..) اهدنا الصراطَ المُستقيم ، صراطَ الذينَ أنعمتَ عليهم ، غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالين)
بضعةُ أصوات تُشارِكُني)آمين!!(
.. نخلَعُ الأديانَ عنَّا ، ونرتدي الحُزنَ سويّاً ، لِنبكي جوليانا