احدي بناتي تحبني سكر زيادة , وعلى راي المثل ( الاب بعين بنته غزال ) ـــ مهما كان شكل هذا الاب ونوعه ـــ كتبت على صفحتها شعار( ومن كأبي ) فلما رايته استفزني الوضع قلت : بل انا ( ومن كأبي ) , ابوها لم يفعل الا ما فعله الناس في عصره ؛ ربّى وعلّم واختار الزوج الصالح وارشد ووجّه , اما ابي فسأحدثكم وساترك لكم الحكم , لمن ننسب الفضل لأبي ام لأبيها . 

كان ذلك في صيف عام الف وتسعمائة وتسعة وستين , حيث كنت تقدمت لأول امتحان وزاري , شهادة الدراسة الاعدادية ( التاسع) , ظهرت النتائج واقيمت في بيتنا الافراح والليالي الملاح , ودارت اكواب شراب الورد على المهنئين . عرفت يومها معنى النجاح وذقت طعمه لأول مرة , وقراته في عيون الوالدين خاصة . كان قد مضي على حرب عام 1967 عامان بالتمام والكمال , فتحت اسرائيل حدودها مع المناطق المحتلة , لاستقطاب عشرات الالاف من العمال , للعمل في مصانعها التي لا بد ان تعمل بكامل طاقاتها لتوفير مستلزمات الشعوب التي اصبحت داخل حدودها, ووجدت نفسها مسؤولة عن توفير حاجاتها اليومية , فتدفق الكثير من العمال بحكم الحاجة ثم المردود المادي الذي يعادل ثلاثة اضعاف اجرتهم في مناطقهم . وكذلك ترك بعض الفلاحين حقولهم ومزارعهم وانطلقوا الى المصانع لتحقيق المال الوفير على حساب اراضيهم التي تُركت بورا . وقد اغرى ذلك كثيرا من الطلبة الذين هم على مقاعد الدراسة في الصفوف العليا لمغادرتها , ليحجزوا لهم موقعا مبكرا في سوق العمل , خاصة الضعاف ومتوسطو التحصيل العلمي . وقد تسرب قسم لا باس به من طلية المرحلة الاساسية ليعملوا في مزارع عرب (الخط الاخضر) الذين اشرت اليهم في مقال سابق . لذلك فقد غاب عن المدارس وجوه كثيرة كنا نعرفها . فقّلّ عدد طلبة المدارس وتضخم جيش العمال , ليصبحوا فيما بعد عبئا ثقيلا على السلطة التي اضطرت للتنازل مقابل سماح اسرائيل لبعض هؤلاء بالعمل في مصانعها , بعد بناء الجدار العازل على طول الخط الاخضر ابان الانتفاضة الثانية .

نعود لموضوعنا كان والدي رحمه الله عاملا زراعيا , رفض منذ البداية العمل في الداخل الاسرائيلي , لم أسأله عن السبب ولم اسمع منه تبريرا لذلك , رغم ان غالبية رفاقه (من العمال) وابناءَهم انطلقوا للعمل هناك , فتحسنت احوالهم وعمّروا البيوت والفلل الضخمة , وبقينا نحن بالإيجار حتي تخرجت من الجامعة , وكان رحمه الله ينظر اليهم ويهز راسه ويضحك كانه يقول ( ان غدا لناظره قريب ) . بقي والدي يعمل في مزارع عرب (الخط الاخضر) فنخن في قرية حدودية , ومزارعهم تبعد عنا من ثلاث الى خمس كيلومترات . كانت اجرته الشهرية 12 دينارا , قليلة ولكنها تكفي لسد احتياجات تسعة انفار مع شوية تدبير , كان يأخذ ستة دنانير في منتصف الشهر وستة في نهايته . يحرص على شراء كيس من الدقيق ونصف كيلو شاي ومثلها قهوة وربطة سكر وبعض المستلزمات الأخرى , وزجاجة كاز ام اللتر لإضاءة المصباح , قبل وصول الكهرباء الى القرية . اذكر ان كيس الدقيق في ذلك الوقت بدينارين , وزجاجة الكاز بقرش ونصف والشاي والسكر والقهوة بحوالي الدينار . اما الباقي فيصرف منه على المدارس ويدخر قسم لمواسم الاعياد والمناسبات , و الملابس والاثاث . واظنكم تتساءلون : لم تتحدث عن الهم اليومي, اي الوجبات الثلاث . سأقول لكم : في ذلك الوقت ـــ ايها الافاضل ـــ لم يكن في القرية بند لمصاريف للطعام والشراب , ولا توجد محلات لبيع الخضار والفواكه ولا الدجاج , في القرية عرف سائد ان من يحتاج الي أي نوع من الخضار او الفاكهة المتوفرة ( ولا يشتهي غير المتوفرة) ينزل الى المزارع , يقطف حاجته منها بنفسه , فالكل اهل واقارب وجيران ويتمتعون بسخاء النفس , وهناك عرف اخر : الثمار الواقعة على جوانب الطرق ليست لصاحبها بل هي سبيل , يسمح لأي فرد ان يأخذ منها دون استئذان , ثم ان العمال في العادة لهم الحق يوميا ملء سلالهم بمنتوجات المزارع التي يعملون بها , اضافة الى اجرتهم اليومية . اقول لكم كانت الدنيا بخير, والطعام سهل ويسير لا تتعب كثيرا في ايجاده والقناعة متوفرة لدي الجميع . اضافة الى ان المرأة الريفية تكاتف الرجل وتسانده فتجفف الأغذية وتعمل المربيات في موسمها لاستهلاكها في الشتاء , اضافة لتربية الطيور والارانب والمواشي . اما الطهي والتدفئة فعلى نار الحطب والجفت( مجلفات الزيتون بعد العصر) .

في العطلة الصيفية عام 1971 كنت قد انهيت الصف الحادي عشر احضر لي والدي دراجة هوائية ( مستعملة) وقال : من الغد ستذهب معي وستعمل عند جارنا في مزرعته خلال العطلة لتساعده في ري ورش وتعشيب المزروعات والاعمال الزراعية الأخرى , والذي لا تعرفه اسالني عنه , وسأسترد ثمن الدراجة من اجرتك . فعلا نزلت فوجدت نفسي في مزرعة صغيرة لرجل طاعن في السن , كان رجلا طيبا وكان في غاية السرور لأني طالب في المدرسة , وكان يتفاخر بي امام زوار المزرعة , في اوقات الاستراحة نجلس في الخُصّ ( العريش) , يحدثني عن ايام زمان والمعاناة الي عاناها عرب الخط الاخضر وصراع البقاء الذي كابدوه للاحتفاظ بممتلكاتهم ومزارعهم , وكان ويفرح لأنه يراني اصغي اليه واستفسر منه واناقشه , وكان دائما ما ينفض هذا المجلس وهو يردد بصوت جهوري متقطع , ثم اصبحت اردده معه: 

تعلم يا فتى فالجهل عار ولا يرضى به الا الحمار

تعلم يا فتى تبقى اميرا ولا تكُ جاهلا ترعى الحميرا

وصدقوني حتى الان لا اعرف من قالهما , يقال انهما من الحكم الشعبية الفلسطينية .

انتهى الموسم واقتربت المدارس , فوجدتني قد عملت بعشرين دينارا , حاولت في المساء ان اعطيها للوالد او الوالدة فرفضا , وقالا : انت الان على ابواب الثانوية العامة , وتحتاج لبدلة عندما تدخل الجامعة , اذهب غدا الى المدينة (وفصّل لك احلى بدلة ), واشتري بالباقي ما ينقصك , وفعلا فصّلت ولبست بدلة ما حلم والدي رحمه الله ولا تجرّأ ان يحلم بلبس مثلها طوال حياته , فقد كانت اغلب ملابسه عادة من البالة , ويصر على ان نلبس كل جديد . نجحت في الثانوية وتخرجت من الجامعة وطوحت بي الدنيا ما شاء لها ان تطوح , ولكني كنت حريصا على العودة السنوية لأقضي الاجازة في ربوع الوطن ـــ الذي اعشق ـــ وبين الاهل والاحباب , وحتى لا افقد الهوية التي كانت تسعى اسرائيل جاهدة وبكل الوسائل لتطفيش المواطنين ليتخلوا عنها , لا تتخيلوا المعاناة ووسائل الاذلال التي كنا نكابدها على الجسور اثناء العودة , لكن الهوية تستحق هذه المعاناة , وفعلا حافظت عليها ومنحتها اولادي واولادهم . وكنت كلما عدت في الاجازة ودخلت غرفة الضيوف في بيت الوالد ارى مجموعة شهاداتي معلقة في صدر الغرفة , وما جرؤت يوما على طلبها لتعليقها في بيتي .

اقول استثمر ابي رحمه الله في أبنائه واصرّ ان يحملوا الشهادات الجامعية , رغم عسر الحال واستثمر رفاقه في البناء , فاخرجوا ابناءهم من المدارس وزجوا بهم في سوق العمل . فأتساءل : ترى اليوم من الذي ربحت تجارته , والدي ام رفاقه ؟ ثم عودا على ما بدانا به ؛ لكم الحكم الان : من صاحب الفضل ابي ام ابوها ؟ طبتم وطابت اوقاتكم.

أبى وأبوها بقلم علي الشافعي

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 121 مشاهدة
نشرت فى 6 يونيو 2015 بواسطة saherelliall44

عدد زيارات الموقع

36,419