الموقف من الحداثة في النقد الأدبي وما بعدها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تعددت المواقف من الحداثة وما بعدها بين فريق يمثل الأصدقاء المادحين والدعاة الناقلين، وفريق يمثل الخصوم الناقدين والناقمين المتوجسين والمتربصين والمنفرين، وفريق ثالث يمثل العقلاء الوسطيين، وبيانهم على النحو التالي: الفريق الأول القابل والناقل: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هم الجماعة الناقلة للحداثة ومناهجها من الغرب والداعية إليها والمطبقة لها نقديًّا على أدبنا العربي. ومنهم: صلاح فضل، وجابر عصفور، وكمال أبو ديب، وسيزا قاسم ، وخالدة سعيد، ومن الجزائر عبد الملك مرتاض، ومن السعودية: عبدالله الغذامى، ومحمد سعيد السريحي ، ومن المغرب: محمد مفتاح، ومحمد بنيس، ومحمد عبدالعال، وعبدالفتاح كليطو، وسعيد بر كجراد، ومن تونس عبد السلام المسدى وغيرهم. ومعظمهم متفرنج منبهر بالغرب، وبعضهم ساخط على العقل العربي والتراث العربي، واقع في العجمة والشعوبية والتيه! وأدل مثال نقدي على الإبهام في النقد ما أورده الدكتور وليد قصاب قائلاً: يقول أحدهم: "إنَّ إستطيقا الرواية الحداثية المعاصرة قد سعت إلى فضِّ المسافة الاختلافاتية بين الفكر وكينونته المضمرة في تشكُّل المعنى الجوهريِّ للجمالاتية..". ويقول آخر: "تحتاج قصيدة النثر العربية إلى مزيد من التصعيد الكميِّ والوعي الإبستمولوجي والأنطولوجي لتختبر كلُّ تجلياتها ومقترحاتها الجمالية على محكِّ الذَّاكرة، ووفق رؤية منهجية، تكفل لبعثرتها الملتبسة حالة من الالتئام الفنيِّ والنسقيِّ، والمفهمة الموجبة للاقتراب منها بمزيد من الوعي والتذوُّق، من خلال ذلك الأثر الذي تُخلِّفه، ونراه في شتى التمظهرات الواعية واللاواعية، كبصمة وجودية في خطِّ الزمن.." الفريق الثاني الناقد الناقم: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهو فريق معادٍ للحداثة و ما بعدها مستهجن لها رافض إياها، منفر منها، مشوه لإفرازاتها، مضخم عيوبها، ويرون أن من استورده من التنابلة الهلكى في ديارنا الذين همهم استيراد ما يمكنهم استيراده، وأننا بذلك بتنا قوما مستهلكين لا منتجين في كل مناحي الحياة . منهم: الدكتور عبد العظيم المطعني، الذي ألف كتابًا في ذلك أسماه (الحداثة سرطان العصر)، والدكتور عوض القرنى في كتابه ( الحداثة فى ميزان الإسلام )، والدكتور عبد العزيز حمودة في كتابه (المرايا المحدبة) وهو أخطر كتاب عن الحداثة وأكثر كتاب أثر سلبيًّا في الموقف من الحداثة في مجال النقد الأدبي، واتكأ عليه كثير ممن اتخذوا موقفًا معاديا منها، والصحفي الإسلامي محمد عبد الشافعي القوصي في كتاب "سقوط الحداثة"!! والناقد الفرنسي "رايمون بيكار" ينشر كتابًا في باريس يسمِّيه "النقد الجديد، أو الدجل الجديد" ويمثِّل على ذلك بكتابات رولان بارت، ويقول عنه: "إنَّ بارت في كتابه حول راسين - والنُّقاد الجدد بوجه عامٍّ - يَميلون في كتاباتهم كلِّها إلى إساءة استعمال لغة مجهدة شبه علمية، ذات رنين يبعث على الإثارة، لغة مستلَّة من ميادين أخرى؛ لكي يُخضعوا ابتذال توكيداتهم، وفي أحيان أخرى، لكي يُخفوا السَّخف فيها..". ويشير رولان بارت نفسه إلى أنَّ هنالك كثيرين هاجموا هذا النَّقد الجديد، فوصفوه بالدَّجل، والاحتيال الثَّقافيِّ، والسخف، وغير ذلك.. ومن حجج ناقدي الحداثة أنها -في زعمهم - منكرة وغريبة عن أصولنا، لا تستقيم مع تراثنا، فعلينا أن ننطلق من تراثنا؛ فعوامل الحداثة فيه مخبأة، تحتاج إلى من يكشف سترها، فيكون التجديد والتحديث من داخل التراث نفسه .أو نظل بلا حداثة تفرضها أنظمة ودول علينا! وأن الحداثة في أصل ميلادها ومرباها لها علاقة سلبية بالدين أي دين، وأن (الحداثة) حق أريد به باطل، وهو الهدم و الخروج من عباءة تراثنا وموروثنا الحضاري والثقافي، الذي هو جوهر وروح الحداثة الوافدة، وهذا ما يتبناه قطاع عريض من المثقفين المتصدرين للمشهد الثقافي العربي في المجلات الأدبية و المجالس الثقافية...الخ،.... وكل هذه التوجسات خاصة بالحداثة في المجال الأدبي، أما في المجال الفكري فلم أر أي ضرر أو أية سلبية ضد ثوابتنا وموروثنا؛ فالخلفية الدينية للحداثة تخصهم. وما يخصنا هو مدى الإفادة منها في قراءة منتجنا التراثي والحديث؛ فلن نكتشف تراثنا ونقرأه إلا من خلال هذه المناهج الوافدة في إجراءاتها العملية فقط، فالتناص-مثلاً- يكشف موسوعية الجاحظ، وأضرابه من الموسوعيين، والتداولية والحجاج يكشفان عظمة فن المناظرات والمفاخرات وأدب المعتزلة في تراثنا، والسرد يوضح عظمة المنتج القصصي التراثي، فكل منهج حداثي طُبِّق على تراثنا كشف جديدًا فيه بلا مبالغة، التجديد مرحلة، والحداثة مرحلة تالية، ولانتفاع بعلوم الغرب مطلب حضاري. أما الآداب والعلوم الإنسانية الغربية فلابد فيها من الحذر؛ لأنها نتاج الأديان والعقائد، لهم دينهم وعقائدهم. ولنا ديننا وإسلامنا. الفريق الثالث الوسطى الاصطفائي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وهم عقلاء انتقائيون، ينطلقون من أصالتنا وثوابتنا، ويرون الحداثة في النقد الأدبي منتجًا عقليًّا، نأخذ منه ما يفيدنا ويلائمنا، ونترك مالا يفيدنا ولا يلائمنا . منهم الأساتذة: شكري عياد، وسعد مصلوح، ومحمد عبد المطلب، وحميد الحمداني، وعبدالسلام المسدي، ويمنى العيد، ووهب رومية، وغيرهم. إنَّ موقف النقد الإسلامي من المناهج الغربيَّة المُعاصِرة ليس واحدًا، وإنما هو موقفٌ يترجَّح بين الاتِّصال والانفِصال، أو القَبول والرَّفض، فأمَّا الاتِّصال فيَتَجلَّى في ضرورة انفِتاح النقد الإسلامي على تقنيات المناهج الغربيَّة وأدواتها في تحليل النصِّ الأدبي تحليلاً علميًّا موضوعيًّا يَقُوم على استِنطاق لغته والتعمُّق فيها من أجل الوصول إلى دلالتها الخفيَّة العميقة. وأمَّا الانفِصام فيَظهَر بجَلاءٍ في رفْض النقد الإسلامي لفكرة "عزل النص" بجميع ألوانها، كما يَظهَر في التحفُّظ بخصوص الخلفيَّات المتمثِّلة في العلمانيَّة والفلسفة الماديَّة وسائر الأيديولوجيَّات التي لا تُلقِي للدين بالاً، ولا تكتَرِث بالأخلاق والقِيَم الإنسانيَّة النبيلة.
الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
328,073