اتجاهات النقد في العصر العباسي.
إ.د/صبري فوزي أبوحسين
النقد الأدبى هو نتاج تذوق ذاتى خاص ناشئ عن إحساس مرهف بمواطن الجمال أو القبح بحيث تصحبه دراسة مستفيضة ناشئة عن ثقافة فكرية واسعة. وتعود الآراء النقدية الأولى في الحضارة العربية الإسلامية إلى العصر الجاهلي حين كانت تعقد أسواق العرب ويتبارى الشعراء فيقوم أحدهم، كما فعل النابغة الذبياني، بالتحكيم. وبمجيء الإسلام اتخذ الشعر موقعًا محددًا في خدمة الدعوة حين شجع الرسول –صلى الله عليه وسلم- حسان بن ثابت على محاربة الكفار بشعره، وجاء القرآن الكريم ليضع قيمة عليا للشعراء المؤمنين في مقابل غيرهم، وظل النقد الأدبي عربيًّا أصيلاً، صافيًا على يد بعض الخلفاء، واللغويين، والرواة، والأدباء والوعاظ.
وعلى الرغم من مجيء مؤثرات أخرى لتؤدي دورًا في تطوير الرؤية النقدية العربية في العصور التالية فإن الأسس الإسلامية ظلت قوية التأثير. وفي مطلع القرن الثاني الهجري دخلت الثقافة العربية عصر التدوين، وجاءت عناصر أجنبية عدة منها الفارسي والبيزنطي واليوناني والهندي فدخلت إثر ذلك مفاهيم جديدة وتغيرت مفاهيم موجودة. فجاء مفهوم "الأدب" بمعنى "الثقافة" أو "العلوم الإنسانية"، وجاء مفهوم "الكاتب" مميزًا عن "الشاعر". ومع هذه التطورات تحول النقد الأدبي إلى كيان مستقل بعودة الدارسين كابن سلام الجمحي إلى الشعر الجاهلي والإسلامي وتصنيف الشعراء في طبقات، ودراسة الخليل بن أحمد للعروض، كما حدد ابن قتيبة، وقدامة بن جعفر أغراض الشعر العربي وفنونه.
وفي القرن الثالث الهجري أخذت المؤثرات الفلسفية من خلال المعتزلة تتضح، وكان على النقد أن يتفاعل معها مثلما يتفاعل مع التطورات الشعرية ذات العناصر الأجنبية كما عند أبي نواس ثم أبي تمام. فاشتعلت معارك القديم والجديد والصنعة والطبع، وكان لابد من مراجعة بعض الأسس النقدية.
وشغلت تلك القضايا نقاد القرنين الرابع والخامس الهجريين مثل ابن طباطبا وابن رشيق ثم عبد القاهر الجرجاني الذي تعد نظريته في "النظم" تتويجًا للتوجه الشكلاني الذي نلمح أسسه عند الجاحظ من قبل. وفي تلك الفترة أدى الفلاسفة المسلمون مثل الفارابي وابن سيناء وابن رشد دورًا كبيرًا في تطوير النظرية النقدية عبر مفاهيم فلسفية مستقاة من مصادر يونانية أرسطية كمفاهيم التخيل والمحاكاة التي استثمرها ناقد كبير في القرن السابع الهجري، هو حازم القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" الذي أكد فيه على عدد من المفاهيم منها التخييل الذي عده مهمة الشعر، وذلك باستثارة الصور في ذهن المستمع على نحو يستثير الدهشة().
وقد تعددت اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي بسبب تطور الحياة العقلية فيه، ويمكن إجمال هذه الاتجاهات في الآتي:
أولاً:الاتجاه اللغوي:
هو اتجاه نقدي يعتمد على اتخاذ قواعد اللغة أساسًا لنقد الأدب، وقد بدأت خطواته الأولى بصورة أولية ساذجة –في غضون القرن الثاني للهجرة، وذلك على أيدي طائفة النحاة واللغويين والرواة الذين أصدروا أحكامهم على الشعر وانتقاداتهم للشعراء في ضوء بعض المقاييس النحوية أو اللغوية أو العروضية، التي كانت قد تحددت آنذاك. من أبرز هؤلاء: عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117 هـ) ويحيى بن يعمر (ت 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي (ت149هـ) وأبي عمرو بن العلاء (ت154هـ)، والمفضل الضبي(ت168هـ)، والأصمعي(ت216هـ)، وغيرهم.
وخير أنموذج له ذلك الحوار الحاد بين عبدالله بن إسحاق الحضرمي والفرزدق الشاعر الأموي، يقول ابن قتيبة:" وكقول الفرزدق:
إليكَ أميرَ المؤمنينَ رمتْ بنا
وعضَّ زمانٌ يا ابن مروانَ لم يدعْ
همومُ المنى والهوجلُ المتعسفُ
من الناسِ إلا مسحتًا أو مجلفُ()
فرفع آخر البيت ضرورة، وأتعب أهل الإعراب فى طلب العلّة، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشىء يرضى. ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أنّ كلّ ما أتوا به من العلل احتيال وتمويه؟! وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه إيّاه فشتمه وقال: علىّ أن أقول وعليكم أن تحتجّوا! .وقد أنكر عليه عبد الله بن إسحق الحضرمىّ من قوله:
مستقبلين شمال الشّأم تضربنا بحاصب من نديف القطن منثور
على عمائمنا تلقى، وأرحلنا على زواحف تزجى مخّها رير()
مرفوع، فقال: ألّا قلت: على زواحف نزجيها محاسير؟ فغضب وقال:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكنّ عبد الله مولى مواليا()
فهاهنا نرى الصراع بين الإبداع المطبوع عند الفرزدق ومتطلبات القاعدة النحوية عن الحضرمي، صراع حاد قاس، مرجعه التعصب للقاعدة عند اللغوي، والحرص على الحرية والعفوية في الإبداع عند الشاعر، ولكل وجهة هو موليها.
ومن أمثلة هذا النقد أيضًا: قول عيسى بن عمر: إن النابغة أساء في قوله:
فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ
من الرقشِ في أنيابها السمُّ ناقعُ
أن الصواب في نظره أن يقول: (ناقعًا)،
ومن ذلك أيضًا ما يروى من أن الأصمعي قد قرأ على أبي عمرو بن العلاء شعر النابغة الذبياني، فلما بلغ قوله في وصف الناقة:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها
له صريفٌ صريفَ القعو بالمسدِ()
قال أبو عمرو: ما أضر عليه في ناقته ما وصف، فقال له: وكيف؟ قال: لأن صريف الفحول من النشاط وصريف الإناث من الإعياء والضجر!! كذا تكلمت العرب.
وقد تطور هذا الاتجاه اللغوي في تراثنا العربي تطورًا ملحوظًا في القرن الثالث الهجري، فإذا كانت نظرات هذا الجيل المبكر من علماء اللغة قد انحصرت –كما رأينا من خلال الأمثلة السابقة- في نطاق البحث عن جوانب الخطأ أو الصواب –نحويًّا أو لغويًّا أو عروضيًّا- في لغة الشعر، فإن البحث عن أسرار الجمال الفني في تلك اللغة قد أصبح هو محور اهتمام طبقة "النقاد" الذين حملوا لواء النقد الأدبي منذ القرن الثالث، والذين أشار كثير منهم إلى أن وظيفة الناقد في تناوله للشعر ينبغي أن تتجاوز وظائف علماء النحو والعروض واللغة().
هذا ما يلفتنا إليه القاضي الجرجاني، حيث يقول: "وأقل الناس حظًا في هذه الصناعة من اقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادته واستسقاطه على سلامة الوزن، إقامة الإعراب، وأداء اللغة".
ويفرق ابن الأثير بين نظرة النحوي، ونظرة عالم البيان (الناقد الأدبي) إلى اللغة، فيقول: ".. النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة، وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة، والمراد بها أن تكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة..".
ويشير القاضي الجرجاني إلى السمة الغالبة في النقد اللغوي عندما يتعرض للنص القديم:الجاهلي والإسلامي والأموي :" ثم تصفحتَ مع ذلك ما تكلّفه النحويون لهم [أي للشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين]من الاحتجاج إذا أمكن: تارة بطلب التخفيف عند توالي الحركات، ومرة بالإتباع والمجاورة؛ وما شاكلَ ذلك من المعاذير المتمحَّلة، وتغيير الرواية إذا ضاقت الحجّة؛ وتبيّنتَ ما راموه في ذلك من المَرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصّعبة، التي يشهد القلب أن المحرّك لها، والباعث عليها شدةُ إعظام المتقدم، والكلَفُ بنُصرة ما سبق إليه الاعتقاد، وألِفته النفس().
ثانيًا:الاتجاه الكلاسيكي الاتباعي:
وهو ذلك المنهج الذي يقوم على الالتزام بالأصول والتقاليد الفنية الموروثة، ويرى ضرورة اتباعها، وعدم الخروج عليها.
وخير ما يمثل ذلك المنهج هو النقد العربي في فترة طويلة من تاريخه، فقد زاول النقد العربي –لفترات طويلة- هذا الأسلوب في النقد، وبخاصة حين استقر ما عُرف بعمود الشعر.
و"عمود الشعر": مصطلح مأخوذ من البيئة العربية البدوية؛ فعمود الخيمة هو الذي تقوم عليه الخيمة وترتفع، ولا يمكن أن يتصور لها من وجود بغير هذا العمود، وكذا عمود الشعر، فكأنه الحامل لبناء الشعر وخيمته، فإن فقد أو توجه إليه وهن انعكس ذلك على بنية الشعر كلها بما يضع منها. إنه مأخوذ من مجموعة التقاليد والسنن التي سلكها شعراء العرب القدماء في الجاهلية وصدر الإسلام، والتزمت بها جماعتهم بحيث صار أمرًا من المسلمات بينهم لا يكاد يوجد من يخرج عنه، وهذا المصطلح أبان عنه خير إبانة المرزوقي المتوفي 421هـ، في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام، حيث قال: فالواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب؛ ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث؛ ولتعرف مواطن أقدام المختارين فيما اختاروه، ومراسم أقدام المزيفين على ما زيفوه، ويعلم أيضًا فرق ما بين المصنوع والمطبوع أو مجموعة الأسس الفنية التي يجب على الشاعر أن يحققها في مجالي المعنى واللفظ، لكي يسير على تقاليد القدماء أصحاب الأصالة والسبق، وبذلك يصل إلى المرتبة العالية التي بلغوها.
كما يقول عن القدماء الذين أرسوا الخصائص المميزة للصنعة الفنية: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف –ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات- والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم، والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا تحدث منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر. ولكل باب منها معيار"(). وقد مضى المرزوقي شارحًا ومحللاً هذه الأصول الفنية، ثم انتهى إلى إعلان الرأي العام العربي الذواقة للشعر، "فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم المفلق المعظم، والمحسن المقدم، ومن لم يجمعها كلها، فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، وهذا إجماع مأخوذ به ومنهج متبع حتى الآن"().
ثالثًا: الاتجاه الرومانسي التجديدي:
وهو ذلك المنهج الذي يقوم على التحرر من الأصول الموروثة، وتعظيم الذوق الفردي بناء على أن الإنسان مقيد بشخصيته، وأنه ليست هناك مقاييس يستطيع أن يزن بها أفكاره، أو أفكار غيره، فالشخصيات تختلف؛ ولذا ينبغي أنه يفهم كل قارئ العمل الفني حسب طبيعته، أي: ميوله النفسية واستعداده الكافي. ويمكن أن يعقد الشبه هنا بين هذا المنهج وبين اتجاه التجديد الذي شاع في العصر العباسي وتزعمه أبو نواس، وبشار، ومسلم بن الوليد، وأضرابهم ممن نحوا نحو التجديد والخروج على عمود الشعر القديم. وبلغ أوجه عند المتنبي وأبي العلاء المعري.
ولعل أول محاولة علمية جادة في ميدان علم البديع هي تلك المحاولة التي قام بها خليفة عباسي ولي الخلافة يوما وليلة ثم مات مقتولا وقيل مخنوقا سنة 296 هجرية. هذا الخليفة هو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد، والمولود سنة 247 هجرية. لقد كان شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مغرما بالبديع في شعره، وبالإضافة إلى ذلك كان أديبا بليغا مخالطا للعلماء، والأدباء معدودا من جملتهم، وله بضعة عشر مؤلفا في فنون شتى وصل إلينا منها: ديوانه، وطبقات الشعراء، وكتاب البديع().
وإذا كان عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 للهجرة وصاحب كتابي: «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» هو واضع نظرية علم البيان وعلم المعاني فإن عبد الله بن المعتز هو واضع علم البديع، كما يفهم ذلك من كتابه المسمى «كتاب البديع» الذي ألفه سنة 274 للهجرة. ويبدو أنه ألف هذا الكتاب ردا على من زعم من معاصريه أن بشار بن برد ومسلم بن الوليد الأنصاري وأبا نواس هم السابقون إلى استعمال البديع في شعرهم.
وعن ذلك يقول في مقدمة كتابه: «قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس من تقيّلهم، وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه...ثم إن حبيب بن أوس الطائي «أبا تمام» من بعدهم شغف به حتى غلب عليها وتفرع فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبي الإفراط وثمرة الإسراف. وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرا، ويزداد حظوة بين الكلام المرسل()».
رابعًا : الاتجاه التاريخي:
المنهج التاريخي من المناهج الخارجية في دراسة الأدب، وهو يعطي مساحة كبيرة في الدراسة الأدبية للجانب التاريخي، ويكاد يطغى على كثير من الدراسات الأدبية التي درست الشعراء والمبدعين، فلا نكاد نقرأ كتاباً في التحليل الأدبي إلا وجدنا صفحات كثيرة كتبت عن تاريخ حياة الشاعر وأسرته وأولاده وعن كل المؤثرات الخارجية التي أثرت في شعره وأدبه، مثل الثقافة والبيئة وأحداث العصر السياسية والاجتماعية، حتى يظن قارئ الكتاب أنه يقرأ كتاباً في التاريخ لا في الأدب لكثرة التفاصيل عن حياة الشاعر، ولكثرة ما يرى في حاشية الكتاب من إحالات إلى كتب ومراجع ومصادر، وبذلك تنطمس معالم الكتاب .
إنه المنهج المعني بوصف الأحداث التي وقعت في الماضي وصفًا كيفيًّا، يتناول رصد عناصرها وتحليلها ومناقشتها وتفسيرها، والاستناد على ذلك الوصف في استيعاب الواقع الحالي، وتوقع اتجاهاتها المستقبلية القريبة والبعيدة. وهو في سياق الدرس الأدبي: يقوم على دراسة الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية للعصر الذي ينتمي إليه الأدب, ويتخذ منها وسيلة لفهم الأدب وتفسير خصائصه واستجلاء كوامنه وغوامضه. وهو يقوم بالأساس على توظيف المعلومات التاريخية في فهم الظاهرة الأدبية/الإبداعية باعتبارها مُعطًى تاريخيًّا قبل كل شيء، ويربط الوقائع الأدبية بالحقائق التاريخية فيصبح تاريخ الأدب فرعًا من التاريخ العام.
وقد حفل التراث النقدي العربي بكثير من المقولات النقدية، التي يمكن أن تدرج في إطار هذا المنهج، وإن جاءت في صورة جزئية تمثل طبيعة العصر الذي قيلت فيه. فمن ذلك على سبيل المثال:
-تعليل ابن سلام الجمحي للين شعر عدي بن زيد، وسهولة منطقه بأنه: "كان يسكن الحيرة ويراكز الريف"(). وتفسيره لقلة الشعر في مكة والطائف بقلة الحروب، فهو يقول: "وبالطائف شعراء وليس بالكثير، وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا"().
-تفسير ابن الأثير لما تميز به شعر الشعراء المحدثين من ابتداع المعاني، ولطف المأخذ، ودقة النظر بأن هؤلاء قد "اتسع الملك الإسلامي في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون"().
-تعليل القاضي الجرجاني لاختلاف نمط التعبير الشعري من شاعر لآخر، وذلك حيث يقول:
"وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجلف منهم كز الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب.. ومن شأن البداوة أن تحدث بعض ذلك .. فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله.."(). هذا ناهيك عن كتب عنيت بالدراسة التاريخية للأدب والأدباء كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، والذخيرة لابن بسام الشنتريني ونفح الطيب للمقري وغيرها من مصادر السير والتراجم في المجال الأدبي في تراثنا، والتي تكاد تكون قد غطت أعصار الأمة وأمصارها قديمًا.
خامسًا: النقد النفسي:
من المألوف الذي لا ينكره أحدٌ أن النزعة النفسية في تفسير الأدب قديمة قدم الأدب، فهي تمتد في أفق التاريخ الإنساني حتى فيلسوفي اليونان أفلاطون وأرسطو فأفلاطون يجعل الشاعر متبوعاً ينطق عن وحي سماوي وهو في حالة استحضار بين النبوة والجنون. ويربط الشعر بوظيفة خلقية لما له من تأثير على النفوس. ويعد أرسطو المصدر الأول لعلم النفس والنقد النفسي للأدب، في عدد من مؤلفاته أمثال كتاب النفس، وكتاب الطبيعيات الصغرى وغيرهما. لكن هذه النزعة لم تأخذ طابع العلم فتصبح منهجًا نقديًّا، إلا بعد أن ظهرت نتائج دراسات الفرويديين للغة والباطن، كذلك بعد أن أفاض أتباع يونج في الحديث عن الأسطورة والرمز....
وقد كان غرض هذا المنهج البحث عن سيكلوجية المبدع من خلال أثره الأدبي الذي تركه عبر اتجاهات عديدة، فهي تارة تحلل أثرًا معينًا من الآثار الأدبية، لتستخرج من هذا التحليل بعض المعلومات عن سيكلوجية المؤلف.
وهي تارة أخرى تتناول جملة آثار المؤلف وتستخرج منها نتائج عامة عن حالته النفسية، ثم تطبق هذه النتائج العامة في توضيح آثار بعينها من آثاره .
وهي تارة تتناول سيرة كاتب من الكتاب على نحو ما تظهر من أحداث حياته الخارجيّة، وفي أمور أخرى كرسائله واعترافاته أو يومياته الشخصية ثم تبني من هذا كله نظرية في شخصية الكاتب : صراعاته، حرماناته، صدماته، عصاباته، لتستعمل هذه النظرية في توضيح كل مؤلف من مؤلفاته. وهي تارة أخرى تنتقل من حياة المؤلف إلى آثاره، ومن آثاره إلى حياته، موضحة هذه بتلك، وتلك بهذه . وهي في أكثر الأحوال تجمع بين هذه الأغراض كلها، وتستعمل هذه الأساليب جميعها... ()
ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض أمثلة تطبيقات هذا المنهج في القديم والحديث، أما في القديم:
أ-يقول ابن قتيبة:
"وللشعر دواع تحث البطيء، وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب()".
ويسوق ابن قتيبة أمثلة للتدليل على ذلك، فيقول: "قيل للحطيئة: أي الناس أشعر؟ فأخرج لسانًا دقيقًا كأنه لسان حية، فقال: هذا إذا طمع.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد (يعني كاتب البرامكة) أشعر من مراثيك فيه وأجود!! فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء().
وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع، وإيثار النفس لعاجل الدنيا عن آجل الآخرة.
وقيل لكثيّر: يا أبا صخر كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟
قال: أطوف فى الرّباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل على أرصنه، ويسرع إلىّ أحسنه. ويقال أيضا إنّه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجارى والشرف العالى والمكان الخضر الخالى....وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهيّة: هل تقول الآن شعرا؟ فقال: (كيف أقول وأنا) ما أشرب ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه...()
ب-ويقول أبي هلال العسكري في بيان أثر الحالة النفسية في قوة الشعر أو ضعفه: "إذا أردت أن تصنع كلامًا فأخطِر معانيه ببالك، وتذوق له كرائم اللفظ. واعمله ما دمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور وتخونك الملال فأمسك، فإن الكثير مع الملال قليل والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقل عنك غناؤها()".
سادسًا: الاتجاه الفني:
يقوم هذا المنهج على مواجهة الأثر الأدبي المدروس بالقواعد والأصول الفنية المباشرة، بحيث يتم النظر في نوع هذا الأثر: قصيدة هو أم أقصوصة أم رواية أم ترجمة حياة أم خاطرة أم مقالة أم بحث...ثم يتم التطرق إلى النظر في قيمته الشعورية التي يؤديها، وقيمه التعبيرية ومدى ما تنطبق على الأصول الفنية لهذا الفن من الأدب. وقد يتم تلخيص خصائص الأديب الفنية ـ التعبيرية والشعورية ـ من خلال أعماله. وحتى يكون التأثر الذاتي للناقد مأمون العاقبة في الحكم الأدبي، فإنه لابد أن يسبقه ذوق فني رفيع، يستند إلى الهبة الفنية اللدنية، والتجارب الشعورية الذاتية، وإلى الاطلاع الواسع على مأثور الأدب البحت والنقد الأدبي. كما يقوم المنهج الفني تاليًا على القواعد الفنية الموضوعية، إذ تتناول القيم الشعورية والتعبيرية للعمل الفني. وهذه القواعد والأصول ليست ثابتة بل متغيرة.
ولابد في هذا السياق من ألوان وأنماط من التجارب الشعورية تسمح للناقد بالمقايسة عليها. يضاف إليها خبرة لغوية فنية، وموهبة خاصة في التطبيق، مع مرونة فائقة تسمح بتقبل الأنماط الجديدة التي قد لا يكون لها نظائر يقاس عليها. ويطلق أصحاب المنهج الفني من الشكلانيين على هذه العملية اسم التوازن الانعكاسي. إن الناقد الفني يضع أسئلة عدة عن النص، تتمثل في:ما قيمة النص ؟ ما سر قوته وجماله؟ لماذا خلد على الأيام؟ والحق أن هناك من الآثار الأدبية ما يثبت أمام التاريخ والنقد الأدبي، ويجيب عن هذه الأسئلة الدقيقة دائمًا دون حاجة إلى الرجوع إلى بيئته أو منشئه، والسبب في ذلك أنها قامت على عناصر عامة لا ترتبط بزمان أو مكان أو قائل بعينه. وقد قيل عن شكسبير:إنه ليس ملكًا لأي عصر، بل لكل عصر، ويمكن أن يدخل في هذا الباب كثير من حكم المتنبي وآراء المعري التي تعبر عن الطبائع والغرائز الإنسانية الخالدة فتكون مؤثرة في كل نفس؛ لأنها صورتها التي تعلو على البيئات جميعًا().
إنه منهج يتناول الأدب في جوهره وصفاته التي تجعل منه أثرً فنيًّا ويحاول بيان المقاييس التي نسترشد بها لبيان قيمة النص ودرجته فترده إلى عناصره وينظر في كل منها متبينًا أسرار قوته وتأثيره أو أسباب ضعفه وقيمته. وهو منهج نقدي مجدٍ، وشائع في الدرس الأدبي الحديث والمعاصر.
ومن أمثلته البارزة المميزة في تراثنا النقدي كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر، وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبدالعزيز الجرجاني، وكتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي، وكتابا أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، وكتاب المثلالسائر لضياء الدين ابن الأثير الجزري...وغيرهم.
سابعًا:الاتجاه الذاتى :
وهو ما يعرب فيه الناقد عما يحسه ويتأثر به حين يقرأ عملا أدبيا، معتمداً فى حكمه عليه بالجودة والرداءة على ما ينطبع فى نفسه حين يواجه هذا النص، لاعلى مقاييس موضوعية أو قواعد معينة، فهو إذن يقابل النقد الموضوعى().
وقد عرف نقاد العرب هذا اللون من النقد وسموه (النقد الإقناعى) فهاهو ذا ابن الأثير فى كتابه (المثل السائر) يقول: "وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال: أما الفرزدق ففى يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها، وأما الأخطل: فأشدنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر"، ويختم ابن الأثير كلامه بتعليق له فيقول:" لكنه أقرب حالا مما روى عن أبى عمرو بن العلاء فمما وقعت عليه: سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا"().فهذا اللون من النقد كان سائداً فى الأدب العربى القديم حيث كان الناقد آنذاك يصدر حكمه النقدى عن إحساس ذاتى بالأثر الأدبى، وتذوق فطرى له معتمداً على أصالة عروبته، وسلامة ملكته ونقاء فطرته وصفاء طبعه().وهذا اللون وإن كان عدة الناقد الأول فى التقويم، والحكم على النص الأدبى فإنه لايجب أن يعتمد عليه الناقد دون أن يعتمد على ثقافته ومعارفه التى اكتسبها وذلك لأن الاعتماد على النقد الذاتى وحده، والذى هو وليد الميول والأحاسيس والمشاعر الذاتية الخاصة قد يصل بالناقد إلى إصدار أحكام خالية من التثبيت أو التمحيص والتدقيق فيؤدى حينئذ إلى الخطأ فى الحكم على العمل الأدبى، ومن ثم فقد نبه بعض النقاد إلى عدم الاعتماد على النقد الذاتى فحسب، بل لابد من تناول النص الأدبى بالشرح والتحليل والتعليل، وهو ما يسميه النقاد المحدثون (بالنقد الموضوعى).
ثامنًا: الاتجاه الموضوعى
وهو الذى يعتمد فيه الناقد على ذوقه الفطرى وموهبته النقدية واستعداده الفطرى وعلى ذوقه المكتسب، والذى يتمثل فى ثقافاته المتعددة التى تصقل موهبته وذوقه الفطرى، وتعينه على نقد النص الأدبى نقداً بناءً، موضحاً مافيه من جوانب الحسن والرداءة ومستعيناً فيه بالقواعد والأصول والضوابط النقدية().
فالنقد الموضوعى السليم إذن هو الذى يحيط فيه الناقد بجميع زوايا العمل الأدبى، ويلم بكل أبعاده، ليصل من دراسته المفصلة إلى نتيجة مقنعة وحكم معلل يطمئن إليه العقل ويؤمن به، ويرتضيه الذوق ويأمن له، ونرى هذا اللون من النقد القويم لدى نقادنا العرب القدامى، كالآمدى فى كتابه (الموازنة بين أبى تمام والبحترى).
وقد لاينظر الناقد إلى العمل الأدبى نظرة كلية شاملة، وإنما ينظر إليه نظرة جزئية، نابعة من ثقافته المحدودة، كأن يكون الناقد ذا ثقافة لغوية، وذا دراية بالنحو والصرف والعروض وغير ذلك من علوم اللغة، فيوقع النص الأدبى تحت التأثير اللغوى فحسب، فيكون نقده الموضوعى حينئذ قد شابه النقص، وأخذ طابع التفسير والتعليق دون التحليل والتعليل، ويتضح ذلك من تعليق المبرد على قول الشاعر:
فلو كنت فى سلمى أجا وشعابها
لكـان لحجـــاج على دليـــل
بنى قبــة الإســـلام حتى كأنمـا
أتى الناس من بعد الضلال رسول
فقال: أجا وسلمى: جبلا طئ، و(أجأ) مهموز، وإنما هو(أجا) مقصور، فاعلم ذلك، ويقول زيد الخيل:
جلبنــــا الخيل من أجـــــأ وسلمى
تخــب نزائعـــــــا خبب الذئــــــــاب
فالشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمزة قلبها، إن كانت الهمزة مكسورة جعلها ياء، أو ساكنة جعلها على حركة ما قبلها، وإن كانت مفتوحة وقبلها كسرة جعلها ياء، وإن كانت قبلها ضمة جعلها واوا().
فهذا النقد وإن كان نقدًا موضوعيًّا بناءً إلا أنه لا يعتمد عليه فى إصدار حكم نقدى شامل؛ لأن النقد الصحيح هو الذى يقوم ـــــ بالإضافة إلى الجانب اللغوى ـــــ على تحليل النص وتفسيره، وبيان ما فيه من وجوه الحسن والرداءة مع التعليل والتدليل. إن النقد موهبة في أساسه مثله في ذلك مثل أية موهبة شعرية، أو نثرية لدى الشعراء، والكتاب، وهو ما يسمى الذوق الذي هو استعداد فطري، وخاصية جوهرية في أي ناقد.
تاسعًا:النقد السلبي المتعصب
مما لاشك فيه أن ثمة صلة وثيقة بين الأديب والناقد، لأن الحياة الأدبية فى أى عصر وفى أية أمة لايمكن أن تستغنى عن وجود النقاد، ولايمكن أن تسمووتزدهر إلا بهم إذ أنهم يغيرون طرقها وسبلها، ويوجهونها ويدرسون قديمها وجديدها، والنقد ظل الأدب، فهو يوجهه ويبين سماته ويجلى قيمه، ويهديه إلى المثل العليا والنماذج الفريدة().
وما دامت هناك صلة وثيقة بين الأديب والناقد فيجب على الناقد أن يبين جوانب الحسن ومواطن الرداءة، وأن ينأى بنقده عن الميل والهوى، فلا يقتصر على كشف جوانب القبح أو يميل عن المهمة السامية للنقد الأدبى وله أن يخالف الأديب فى رأيه إن كان هناك ما يوجب المخالفة.
وقد أشار ابن قتيبة إلى التزام الناقد العدل فى حكمه فيقول: "ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولانظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه"().
فابن قتيبة يوصى الناقد بأن يلتزم العدل فى حكمه، والحيدة فى رأيه، والاحتكام إلى ذوقه النقدى السليم الذى لم يفسده التعصب ولم يتأثر بالأهواء والميول الشخصية.
وفى تاريخ النقد العربى ما يدل على أن بعض النقاد لم يلتزم بما أشار إليه ابن قتيبة، فاستسلم لنوازع نفسه وانقاد لهواه، وتعصب لشاعر بعينه أو عليه، فجاءت أحكامه النقدية بعيدة عن الصواب والجادة، وأتت آراؤه ولمحاته غير موضوعية تعوزها الدقة، وهذا ما فعله أبو بكر الصولى فى كتابه (أخبار أبى تمـام) حين أسرف فى تعصبه لأبى تمام، وفعل ذلك الحاتمى مع المتنبى حيث تحامل عليه تحاملاً شديداً().
ولاشك أن هذا اللون من النقد يفقد قيمته، لأنه نأى عن الصواب والعدل فى الحكم والتقويم وجنح إلى التعصب والتحامل، وانقاد إلى الأهواء والنزعات والميول الشخصية التى أبعدته عن الحيدة فى التقويم، وعن التمسك بالأصول النقدية القويمة.
عاشرًا: الاتجاه الفلسفي في النقد العباسي()
تتضح الإفادة من النقد اليوناني في أي أثر من آثار التفكير البلاغي والنقدي عند العرب في كتابين هما:
(نقد الشعر) لقدامة بن جعفر(ت337هـ)، الذي كان نصرانيًّا وأسلم ثم كان أحد النقلة والمترجمين لآثار اليونان في المنطق والفلسفة وقد أتاح له ذلك خبرة طويلة بمذاهب اليونان في الأدب والنقد، وكان من الطبيعي أن تظهر آثار هذه المعرفة في كتابته عن الشعر العربي ونقده. فلا ريب في أن الثقافة اليونانية كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر؛ فقد كان ممن يشار إليه في علم المنطق وعد من الفلاسفة الفضلاء، وله كتاب في صناعة الجدل، ويدل كتابه في الخراج على ثقافة حسابية دقيقة. وهذه الثقافة نفسها هي التي جعلته يشارك في النقد الأدبي، إذ لا تكاد تشك في أن المنزلة الثالثة من كتاب الخراج إنما كتاب صدىً لكتاب أرسطو في الخطابة، وإن استكماله لمراحل المنطق الأرسططاليسي (وكتاب الشعر مرحلة أخيرة فيه) هو الذي جعله يقوم بتأليف كتابه " نقد الشعر "، وأنه بحكم هذه الثقافة نفسها كان منحازًا إلى تقدير " المعنى "، ولذا ألف كتابه " الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام "؛ ولكن يجب ألا ننسى أن صلته بثعلب وأمثاله من علماء القرن الثالث، هي التي وضعت في يديه المادة الأدبية الصالحة لسند آرائه النظرية. ومنذ البداية يبدو قدامة متأثراً بالمنطق الأرسططاليسي، متجاوزاً المفهوم اليوناني للشعر، في آن معاً. فهو في حده للشعر، وفي حرصه على أن يكون ذلك الحد مكوناً من جنس وفصل يدل على أنه يترسم ثقافته المنطقية().
كتاب (البرهان في وجوه البيان) الذي ألفه أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب(ت290هـ) ()، الذي كان أحد علماء الكلام وأهل الجدل والمناظرة، وحذقوا ذلك، وكان من الضروري أن يقف علي ضروب التفكير ومناهج البحث عند من يستطيع الوقوف علي نتاجهم من أبناء الأمم الذين يرعوا في الجدل والسفسطة، ووقفوا علي آثار اليونان في المنطق والجدل وفي الشعر والخطابة. والكتاب وهو من الآثار العربية في البلاغة والنقد التي يظهر فيها شيء من آثار التفكير الأدبي عند اليونان، وهو يحوي علي إشارات كثيرة تدل علي الاطلاع والمعرفة ثم علي قدرة بارعة في تعريب الفكرة ودعمها بالفكرة العربية وتأثيرها بروائع الشواهد من المأثور من القرآن والحديث وعيون الأدب العربي. ومن أقوي الأدلة علي ذلك الفصل الذي عقده للكلام في الجدل والمجادلة وفيه شيء من آراء ارسطو وأسلوبه المنطقي ويعرج ابن وهب إلي القول بعد ذلك ان المجادل لا يعد في المجادلين الحذاق حتي يكون يحسن بديهته وجودة عارضته وحلاوة منطقه قادراً علي تصوير الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، وتلك فكرة السفسطائيين الذين لا يرمون إلا إلي الغلبة والانتصار علي الخصم بالقدرة البيانية من غير مراعاة لجانب الحق أو العدل، وقد أتهم سقراط بأنه كان يعلم تلاميذه كيف يجعلون الباطل حقاً والحق باطلاً وقد ردد هذا الرأي قبل أبن وهب عبد الله بن المقفع الذي عرف البلاغة بأنها (كشف ما غمض من الحق وتصويره الحق في صورة الباطل).
المصدر: محاضرة في مقرر النقد الأدبي.
التحميلات المرفقة
نشرت فى 26 سبتمبر 2018
بواسطة sabryfatma
الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
327,316