مقدمة بحثي:
(القرآن الكريم والتناص: مقاربة في الضوابط والمحاذير)
المقدم إلى المؤتمر الدولي لكلية اللغة العربية بالقاهرة، في 28-29 من شهر مارس سنة 2022م.
-----------------------------------------
القرآن كتاب اللّه-عز وجل- الخالد ودستوره الماجد، ختم به الكتب، وأنزله بدين هادٍ للعالمين أجمعين، وهو جامع لكل تشريع، وهو معجز بلفظه وأسلوبه، وهو عماد لغة العرب الأسمى، وهو حجة للنبي العربي الأمي الخاتِم وآيته الكبرى، يستند إليه الإسلام في عقائده وعباداته، وحكمه وأحكامه، وهو مؤثر مهيمن، يقول الله تعالى عنه: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ (الزمر: 23)، و يقول: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ﴾ (الحشر: 21(، وعن ابن عباس -رضي اللّه عنهما-: أن الوليد بن المغيرة، جاء إلى النبي -صلى اللّه عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فذكر ما كان بينهما...، إلى أن قال الوليد: "والله ما فيكم رجل أعلمُ بالأشعار منِّي، ولا أعلمُ برَجَزِه ولا بقصيدِه مني، ولا بأشعار الجنِّ، والله ما يُشبهُ الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حَلاوةً، وإن عليه طُلاوة، وإنه لمُثمرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفلُه. وإنه لَيَعلُو، وإنه ليَحْطِم ما تحتَه" (البيهقي: شعب الإيمان)، وقال أبو العلاء المعري: "وأجمع مُلحدٌ ومُهتدٍ، وناكبٌ عن المَحَجَّة ومُقتدٍ، أن هذا (الكتاب) الذي جاء به "محمد"-صلى الله عليه وسلم- كتاب بهَرَ بالإعجاز، ولقِىَ عدوه بالإِرجاز (يعني بالأمر الشديد). ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريبَ الأَمثال. ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز من سَهْلٍ وحَزون، ولا شاكل خَطابة العرب، ولا سجع الكَهَنة ذوي الأرَب"[رسالة الغفران 479-480]؛ فالقرآن الكريم كلام الله تعالى القديم، مُصدِّق لما في الكتب الإلهية السابقة، ومُهيمِن عليها؛ وهي كتب تخرج من مشكاة واحدة، وتُعبِّر عن رسالة واحدة، وأتتنا من طريق واحد، وتدعونا إلى طريق واحد! فـ"الأنبياءُ-كما قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " إخوَةٌ لعَلَّاتٍ: دِينُهم واحِدٌ، وأُمَّهاتُهم شَتَّى"، وهو مثلٌ ضربه الرسول -صلى الله عليه وسلم- تأكيدًا على مسألة اتفاق الرسل في الدين الواحد. و(الدين الواحد) هنا هو الأصل الكبير الذي جمع دعوة الأنبياء- عليهم السلام- جميعًا، ألا وهو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، وما يتضمّنه ذلك من الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد إلى الله بالطاعة، وكل ما ورد في هذه الكتب هو من الله تعالى وحده لا شريك له، عز وجل...
وانطلاقًا من هذه المُسَلَّمة العقَدية الخاصة بالقرآن المجيد، ينبغي لنا أن نقف وِقفةً علميةً متأنِّيةً مع ما يُثار في الآونة الأخيرة من إشكاليات في مجال(النقد الأدبي الحداثي) حول تطبيق مناهج الحداثة على القرآن الكريم، مثل منهج (التَّناصّ)، الذي هو مصطلح نقدي وافد غازٍ أو مستورد مجلوب! صاغته الناقدة البلغارية جوليا كريستيفيا متأثرة بناقدين من بني جِلْدتها، سابقين ومعاصرين إياها؛ للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، عبر تفاعل أنظمة أسلوبية، حيث تتقاطع النصوص وتتداخل ثم تتحاور وتتفاعل فيما بينها، وترى أن هذا (التناص) يسهم في تفكيك النصوص والخطابات وتَبيُّن مرجعياتها وتعالقاتها. وهو أنواع وأشكال كثيرة، حسب رؤية كل ناقد وكل مدرسة في الغرب، وحسب ثقافة النَّقَلَة العرب ورؤيتهم له!
وقد لاحظت أن بعض المستشرقين، وتبعهم باحثون عرب، عمدوا إلى تطبيق هذا (التناص) على القرآن الكريم، وأخرجوا في ذلك دراسات كثيرة ومتنوعة؛ فأردت في هذا البحث الإجابة عن الأسئلة المُثارَة حول كيفية التعامل أدبيًّا ونقديًّا مع هذه الإشكالية، عبر ما يُسمَّى أدبيًّا: (التناصّ مع القرآن الكريم)، وما يُسمَّى نقديًّا: (التناص في القرآن الكريم)؛ إذ يرى منظرو هذا التناص أنه "ما من أثر أدبيّ، في أيّ درجة كان، وحسب اختلاف قرّائه، إلاّ ويحيل على أثر آخر، ومن ثمّ، فإنّ كلّ الآثار السابقة ناسخةٌ واللاحقة منسوخة"! ويزعم هؤلاء المستشرقون وأتباعهم العرب أن التناص في القرآن نوعان: (تناصٌّ داخليّ) بين مكوّنات النص: بين البسملة والاستعاذة، وبين اسم السورة ومتنها، وبين الفواتح والخواتم، وبين السور ذات الموضوع الواحد. و(تناصٌّ خارجيّ) كامن في علاقة القرآن الكريم بالواقع العَقَدي والأدبيّ، وبينه وبين النصوص المقدّسة والنصوص البشريّة من نثر وشعر. وهذا صنيع جريء خطير، يترتب عليه خلل ينال من عقيدة الإنسان تجاه كتاب الله القديم العالمي الخاتم!
هذا، وتوجد دراسة سابقة حول هذه الإشكالية، بعنوان(التناص: مفهومه وخطر تطبيقه على القرآن)، إعداد البااحث/محمد زبير عباسي، إشراف أ.د/مصطفى إمام حسن، رسالة دكتوراه في كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية العالمية، بإسلام آباد بباكستان، سنة 1436ه=2014م. وقد تكونت هذه الدراسة من تمهيد وثلاثة أبواب: جاء (التمهيد) للحديث فيه حول تاريخ التناص، والممارسات النصية قبل ظهور التناص. وكان (الباب الأول) حديثًا عن التناص في الدراسات الحديثة والأجنبية، وجاء في فصلين، الأول عن مفهوم التناص، والثاني عن أنواعه وأشكاله. وفي (الباب الثاني) بحث عن التناص في الدراسات العربية، وفيه فصلان: الأول عن (مفاهيم وأفكار عربية تتلاقى مع التناص)، والثاني عن(ومصطلحات عربية تتلاقى مع التناص)، وقرر(الباب الثالث) أن خصائص النص القرآني تأبى وصفه بالتناص، وفيه فصلان: الأول عن (مواقف تاريخية تؤيد بعد القرآن عن التناص)، والثاني عن (مواقف عقلانية تؤيد بعد القرآن عن التناص). وبَيِّنٌ من هذه الأبواب أنها عرضت للقضية من رؤية دينية وتاريخية وعقلانية معينة، لكنها لم تتحاور تحاورًا نقديًّا متخصصًا مع الدراسات التي طبَّقت هذا التناص على القرآن الكريم. وهذا ما يدفعني دفعًا إلى هذه النظرة العلمية التي أحاول أن تكون جادة رصينة: تصف، وتفحص، وتحلل، وتناقش، ثم تقيِّم وتقوِّم، حتى نصل إلى كلمةٍ فصلٍ سواءٍ، في هذه الإشكالية، والتي تثير الأسئلة الآتية:
- ما التناص غربيًّا؟ وما علاقة التناص بالقرآن الكريم؟
- هل في القرآن الكريم تناص؟
- ما الفرق بين التناص مع القرآن والتناص في القرآن؟
- ما الموقف من الدراسات التي طبَّقت التناص في القرآن الكريم، وادَّعت وجودَه؟
- ما المخاطر والمحاذير في دراسة التناص في القرآن الكريم؟
- ما البديل المناسب المُغنِي عن مقولة: (التناص في القرآن الكريم)؟
ومن ثم كان هذا البحث: (القرآن الكريم والتناص: مقاربة في الضوابط والمحاذير)، وجاء في تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة، على النحو الآتي:
التمهيد: ماهية التناص وأنواعه.
المبحث الأول: تجارب نقدية حول تطبيق التناص في القرآن الكريم
المبحث الثاني: ضوابط التعامل الأدبي مع القرآن الكريم.
المبحث الثالث: محاذير وردود حول دراسة (التناص في القرآن الكريم).
ثم كانت (الخاتمة) مُجمِلة كلَّ ما يراد قوله، ومُضِيفة ما قد يكون في البحث من جديد مفيد، ومُقدِّمة البديل العربيَّ العتيق لدراسة القرآن الكريم، المتمثِّل في اصطلاحي (الاقتصاص) عند ابن فارس(ت395هـ) و(التضمين البديعي في القرآن الكريم) عند ابن أبي الإصبع المصري(ت654هـ)، إن شاء الله تعالى، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عز وجل!