محاضرة التكرار من كتاب المرشد إلى فهم أشعار العرب للدكتور عبدالله الطيب
شرح أ.د/علاء جانب
تلخيص الطالب الأزهري العراقي: علي الطائي
مراجعة لغوية وتوثيق أ.د/صبري أبوحسين
المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها كتاب من أربعة أجزاء في خمسة مجلدات، للعلامة أحمد الطيب المجذوب الذي تعلم بمدارس كسلا والدامر وبربر وكلية غوردون التذكارية بالخرطوم والمدارس العليا ومعهد التربية ببخت الرضا، وجامعة لندن بكلية التربية ومعهد الدراسات الشرقية والأفريقية. وقد نال الدكتوراة من جامعة لندن (SOAS) سنة 1950م. وقد عمل بالتدريس بأم درمان الأهلية وكلية غوردون التذكارية وجامعة بخت الرضا وجامعة الخرطوم وغيرها. وقد تولى عمادة كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1961 - 1974م) كان مديرًا لجامعة الخرطوم (1974 - 1975م). وهو أول مدير لجامعة جوبا (1975 - 1976م). وقد أسس كلية بايرو بكانو "نيجيريا"، وهى الآن جامعة مكتملة. وقد حصل البروفيسر”عبد الله الطيب‘’على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب عام 2000م.
وهذا السفر المُسمَّى (المرشد إلى فهم اشعار العرب وصناعتها) من أهم ما شغل المكتبة العربية في منتصف القرن العشرين ولا يزال .. فهو مرجع جامع لكل فنون الشعر والأدب وضروب البلاغة والنقد .. وقد طبع للمرة الأولى في مصر عام 1955م، ثم طبع طبعات عدة، وقد أثنى على هذا السفر العلماء الأصلاء والنقاد الكبار، من أبرزهم الدكتور طه حسين الذي قدم للكتاب، وذكر فيه أن المؤلف عرض فيه للشعر فأتقن درس قوافيه وأوزانه لا إتقان المقلد الذي يلتزم ما ورث عن العلماء بل إتقان المجدد الذي يحسن التصرف في هذا التراث ...... والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر دخول الأديب الناقد الذي يحكم ذوقه الخاص فيرضيك غالبًا ويغيظك أحيانًا ويثير في نفسك الشك أحيانًا أخرى .. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، وحسبك بهذا تفوقًا وإتقانًا. وقد قال العلامة الطيب في مقدمته: والكتاب كله مبني على فكرة بسيطة، وهي أن الشعر العربي من حيث الصناعة، يقوم على الأركان الآتية: النظم، والجَرسْ اللفظي، والصياغة، ثم إلقاء الكلام علي صور خاصة من الأداء، وفي أساليب ومناهج تمليها عوامل التقاليد والبيئة علي مّر الأزمان واختلاف الأمكنة، وتؤثر فيها الأفكار المستحدثة، وما يجري مجراها من دواعي التغير والتجدد. وقد أخذت على نفسي أن أدرس جميع ذلك في نوع من الإيجاز.
...........
وسندرس منه فصل (التكرار المحض) باعتباره نوعًا من الموسيقى الداخلية الآسرة.
وقد تحدث عنه الدكتور عبدالله الطيب من حيث قيمته وأنواعه، ومثل له بشواهد كثيرة وقام بتذوقها وتحليلها. على النحو الآتي:
وقد تعرض العلامة الطيب للحديث عن التكرار في الباب الثاني من الجزء الثاني الخاص بالجرس اللفظي، وذلك عند حديثه عن حقيقة الانسجام، وأنه يوجد نوعان من الائتلاف والانسجام في طبيعة الشعر: الأول بين وزنه وكلامه، والثاني بين رنة وزنه ورنة كلامه. قال: "وقد أفردنا للوزن والقافية بابًا طويلًا، مر بك أيها القارئ في كتابنا الأول. وسنفرد فيما بعد بابًا خاصًا بالبيان إن شاء الله. فليكن حديثنا هنا مقصودًا على ناحية الرنين اللفظي. ولما كان الانسجام كله، مداره على التنويع والتكرار، فمظاهر التكرار لا تتعدي التكرار المحض والجناس. ومظاهر التنويع لا تتعدي الطباق والتقسيم. فهذه هي الأصناف الأربعة التي يقوم عليها رنين البيت بعد الوزن والقافية".
وقد جعل الدكتور عبدالله الطيب الغرض الرئيسي من التكرار هو الخطابة، ونعني بالخطابة: أن يعمد الشاعر إلى تقوية ناحية الإنشاء « أي ناحية العواطف، كالتعجب، والحنين، والاستغراب، ، وما إلى ذلك» من طريق التكرار .
ويمكننا أن نحصر التكرار الذي يحدثه الشعراء في ألفاظ شعرهم في الأنواع التالية:
<!--التكرار المراد به تقوية النغم
<!--التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية
<!--التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية .
و(التكرار المراد به تقوية النغم) من أكثر أصناف التكرار النغمي ورودًا في الشعر المعاصر، ذلك التكرار الذي يُعاد فيه بيت كامل أو بيتان، للفصل بين أقسام القصيدة الواحدة، مثال ذلك قول المهندس(علي محمود طه) رحمه الله:
أين من عيني هاتيك المجـالي یا عروس البحر يا حلم الخيال
فقد كرر هذا البيت عدة مرات في قصيدته . وهذا النوع من التكرار في صيغته العصرية التي نجدها عند المهندس وكثير غيره، مأخوذ من الأساليب الافرنجية، حيث يكثر الشعراء من استعمال إعادة الأبيات، ويسمون ذلك بالإنجليزية Refrain . وإن اللغة العربية قد عرفت هذا النوع من الإعادة في دهرها الأول، حين لم تكن أوزانها وقوافيها قد بلغت النضج والقوة والاستواء الذي بلغته في العصر الجاهلي . ومن الذي يدلنا على أن العربية قد عرفت هذا النوع من التكرار أمران، هما:
<!-- أننا نجد نحوًا منه في القرآن الكريم، في بعض السور المكية، مثل « فبأي آلاء ربکما تكذبان » في سورة الرحمن، ومثل « ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر » في سورة القمر . ولا أحسب أن القرآن قد فاجأ العرب بضرب جديد من التأليف، إذ التزم هذا التكرار في هذه السور، ونحوًا منه في غيرها . ولو قد كان هذا ضربًا جديدًا التأليف، لكانوا قد طعنوا فيه، ولكننا لم يبلغنا أنهم قد فعلوا ذلك.
<!-- والأمر الثاني الذي نستدل به على أن اللغة العربية قد عرفت أسلوب إعادة البيت في أجزاء القصيدة على سبيل الترنم، هو ما نجده من رواسب هذا الأسلوب وآسانه في بعض الأشعار التي بأيدينا من تراث الجاهليين، وحتى في بعض الأشعار الإسلامية، خذ مثلا هذين البيتين لامرئ القيس:
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا بذات الخزامي أو على رأس أوعال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
تأمل هنا تكرار « وتحسب سلمى لا تزال » . فمثل هذا التكرار ليس المراد منه مجرد الخطابة، ولكن تقوية النغم أيضًا. ولعل أدل على القصد وأصدق في التمثيل ما جاءت فيه الصدور مكررة في عدة أبيات من الشعر القديم . مثال ذلك لامية الحارث اليشكري التي كرر فيه قوله:
قربا مربط النعامة مني.
وقوله:
يا بجير الخيرات لا صلح حتى
عدة مرات .
ولعله أن يقال: إن هذا التكرار من تزيد الرواة .
ومع التسليم بذلك، فهو يدل على نهج من القول كان مألوفًا في القصص المخلوط بالشعر، وقد روي أبو علي القالي رائية المهلهل:
أ ليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري
عن شيوخه الثقات، مكررة فيها الأبيات التالية على النحو الآتي :
وهمام بن مرة قد تركنا عليه القشعمين من النسور
على ان ليس عدلا من كليبٍ اذا طرد اليتيم عن الحزور
على أن ليس عدلا من كليبٍ إذا رجف العضاه من الدبور
ألا نرى أن إعادة (على أن ليس عدلا من كليب) إنما هي رنة لفظية قوية، كررها الشاعر ليصل بها الى الكلام، ويبالغ في جرسه.
ولقد ورد مثل هذا الضرب عند معاصرة الحارث بن عباد اليشكري حيث يقول:
قربا مربط النعامة مني قرباها وقربا سربالي
قربا مربط النعامة مني إن قتل الرجال بالشسع غالِ
هذا يدل على ان هذا المنهج من التكرار كان حينئذ طريقًا مهيعًا.
وقد كان أبو الطيب المتنبي ممن يكثرون من التكرار الترنمي، ويحذقونه غاية الحذق، وكان لشدة حرصه عليه ربما تكلف له الكلف أحيانًا أسقطه ذلك في الدهارس.
من ذلك قوله:
قبيلٌ أنت أنت وأنت منهم وجدك بشرٌ الملك الهمام
فحرص المتنبي هنا على تكرار النغم أوقعه في آبدة نحوية، وذلك تأخيره واو الاستئناف عن موضعها، وكان وجه الكلام أن يقول: (قبيل أنت منهم وأنت أنت، وجدك كذا وكذا) ولو كان أورد قوله هكذا لجاء مستقيمًا . ولكن الوزن لم يمكنه فاضطر إلى التقديم والتأخير؛ فالعيب هنا ليس من التكرار نفسه، وإنما من التعقيد في التركيب . وللمتنبي بعد في التكرار النغمي آيات لا تجارى، ويزيدها قوة على قوتها ما يحالفها من الأغراض الآخر الكثيرة غير مجرد الترنم، مما يراد إليه بالتكرار في الشعر الرصين الجزل:
مالي أكتم حبًّا قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنـا بقـدر الحب نقتسم
قد زرته وسيوف الهند مغمدة وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلهم وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
فوت العدو الذي يممته ظفر في طيه أسف في طيـه نعـم
تأمل تكرار كلمة « الحب » في البيتين الأولين. وانظر كيف تعمد الشاعر أن يجعل هذا اللفظ عند النصف الأول من شطري البيت الأول. ثم كيف عكس هذا التركيب بجعل موضع اللفظ في أول النصف الثاني من كلا شطري البيت الثاني . وهذا توفيق غريب لا يجيء إلا بملكة نادرة، وطبع قوي، وإدراك لأصول الصناعة وأسرارها . ولا يخفى ما قصد إليه أبو الطيب من التغني بكلمة الحب في هذه الأشطار الأربعة . ثم انظر في البيت الخامس، كيف جسر الشاعر على إعادة لفظتين معا، وكرر إحداهما ثلاث مرات، وذلك قوله : « فكان أحسن » ، ثم قوله : « الأحسن » في الشطر الثاني، وبتوفيق نادر تأتَّى له أن يحدث تكراره في النصف الأول من كل شطر، قبيل تمام التفعيلة بسبب خفيف واحد؛ ثم بعد أن تدرج بالسامع كل هذا التدرج، من كلمة واحدة تكرر عند نصف البيت، إلى كلمتين تترددان بين الصدر والعجز، جسر على المجيء بالتكرار دفعة واحدة في شطر واحد، وذلك قوله : (في طيه أسف في طيه نعم) ولا أحسب أن في الشعر العربي أمثلة كثيرة ترن فيها تفعيلات البسيط هذا الرنين المُدَوَّي المستتر في نفس الوقت وراء « تكرارات » بارعة، شبيهة بالخطابية، يلقي بها الشاعر وكأنه غير مكترث .
والمتنبي تجده يستطيع الإتيان بهذا النوع من التكرار الترنمي في كل بحر يريده وكل وزن يتعاطاه، وهو من هذه الجهة يُربي على كلا البحتري وجرير، اللذين أكثر ما تجدهما يكرران في الوافر والكامل .
خلاصة القول في التكرار المراد به تقوية النغم:
قد يجاء بالتكرار لمجرد إظهار النغم وتقويته . وأوضح ما يكون ذلك إن جيء بالبيت كاملا بعد فترات . وهذا طراز من التأليف قد اندرس من النظم العربي . وقد أحياه بعض المعاصرين أمثال المهندس، نقلا عن الأشعار الغربية التي لا تزال محتفظة بطابع إعادة البيت في كثير من منظوماتها .
والذي يدل على أن هذا الطراز كان موجودًا في العربية واندرس عندما بلغت أشعارها ما بلغته من النضج والكمال في الوزن والقوافي، ما نجده من أنواع التكرار في بعض أشعار هذيل والمهلهل والحارث بن عباد، مما تكرر فيه أشطار أو أجزاء من أشطار، وفي شعر الشنفرى وتأبط شرًّا وليلى الأخيلية وبعض أبيات امرئ القيس أنواع من التكرار تحمل طابعًا قديمًا يوحي أنها من بعض مخلفات نظام الإعادة الذي سبق نضج الوزن والقافية في الشعر العربي .
ويبدو أن الأنواع البديعية التي تسمى التصدير والتوشيح، وما إليها من ضروب التكرار المبنية على ترديد كلمات في صدور الأبيات وأعجازها وقوافيها هي أيضا بقايا من ذلك الأصل القديم .
غير أن هذه الأنواع صارت أداة صالحة عند الشعراء الفحول يزيدون بها رنة الوزن، ويقوون بها جرس الألفاظ، ومن الشعراء الذين برزوا في هذا المضمار جرير والبحتري.
وقد استغل المتنبي التكرار الترنمي استغلالا كاد ينفرد به، وهو يضفي على شعره لونًا موسيقيًّا جليلاً يناسب طبيعته وطبيعة ما كان يتناوله من أغراض، وما ينظم فيه من بحور . ويغلب على الظن أن الأنواع المعيبة من تكرار المتنبي ما كانت إلا تمهيدًا وتهيئة لما كتب له التوفيق فيه بعد، من التكرار النغمي المعجز .
وفي محاضرة تالية ندرس النوعين الآخرين من التكرار، وهما:
التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية
التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية .
إن شاء الله تعالى.