عوامل تكوين الفقيه المجاهد الشيخ عبدالمجيد سليم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أ.د/صبري فوزي أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

الشيخ عبدالمجيد سليم علم من أعلام الأمة وقطب من أقطاب الأزهر الشريف، والشخصية الدينية الأبرز على مستوى محافظة المنوفية، ابن قرية ميت شهالة، في مركز الشهداء، الذي عاش أربعة وسبعين عامًا[13/10/1882-7/10/1954م] كلها كفاح وجهاد في سبيل الله والحق ثم الوطن، وقد مر على وفاته الآن خمس وستون سنة، وما زلنا بتوفيق الله نتذكره ونتدارس سيرته العطرة، ونحييها فيما بيننا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حسن السريرة، وإخلاص وصدق مع الله ومع النفس، ومع الناس في عصره، فما زال علمه الذي ينتفع به حاضرًا، وما زال أهله الصالحون الذين يدعون له موجودين، لكأني بشيخي وسيدي أمامي الآن سعيد فرح؛ لعرض معالم حياته العلمية الصلبة الصامدة الفذة، وهذا يحقق بيننا طلبة العلم الشرعي الأصيل قيمة الوفاء منا تجاه هذا الإنسان المتجرد المخلص، رحمه الله تعالى. 

ومقالتي هذه قراءة في المسطور طباعيٍّا وإلكترونيًّا عن الشيخ، قراءة باحث متعلم، يفيد ويستنير من مفاتشة هذه السيرة العطرة والآثار الطيبة، على النهج التالي:

مكانة سامقة

أحسب الشيخ عبدالمجيد سليم -رحمه الله تعالى، والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدًا- من الطائفة التي نفرت لتتفقه في الدين ولتنذر قومها لعلهم يحذرون، ومن الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقضوا نحبهم في سبيل الحق، وممن ورث العلم عن الأنبياء، وسمع مقالة النبي الخاتم فوعاها وبلغها كما سمعها خير تبليغ وأصدق إيصال. رجل من بقية السلف الصالح الذين جاهدوا بالرأي دفعًا للباطل. وقد عاصر أحداث وطنه وشارك فيها، وشغل الكثير من المناصب الدينية في الأزهر الشريف والقضاء الشرعي والإفتاء، وكان لآرائه الدينية صدى بعيد في العالم الإسلامي . وكان - رحمة الله - طويل الباع في طلب العلم، واسع الاطلاع في تخصصه، راسخ القدم في منطقه وتفكيره، عميق التفكير، دقيق التصوير، قوى الحجة، ناصع البرهان...إنه رجل مسلم عربي مصري خالص صاف، لقبه من عاشروه وعاصروه وأرخوا لحياته بعدة ألقاب، منها: (ابن سينا)، و(الفقيه الأكبر)، و(إمام الفقه الحنفي)؛ فقد كان مرجعية أولى للحنفيين في عصره، و(الإمام الثالث والثلاثون للأزهر الشريف). ويعد من أكثر من تولى دار الإفتاء تأثيرًا إذ عمل نحو عشرين عامًا، وأخرج من خلالها ما يزيد خمس عشرة ألف فتوى في شتى شؤون الدنيا والآخرة. ما زال يرجع إليها الفقهاء والقانونيون إلى الآن. وأشهرها فتوى الوصية الواجبة... إنه حقًّا إمام جليل، وفقيه كبير، ومشرع عظيم.

 وقد أفاض الكُتَّاب والمؤرِّخون في الحديث عن هذا الإمام وذِكر مَآثره ومَفاخره. قال عنه فضيلة الإمام الشيخ شلتوت وهومن أبر ز تلاميذ الشيخ عبدالمجيد: "كنت أودُّ لو أستطيع أنْ أبرز صورة كصورة الرجل السمح الزكي القلب العف اللسان، رجل العلم، المؤمن القوي، الضَّليع في مختلف علوم الإسلام ومذاهب الفقهاء".

وصدق حفيده الدكتور عبدالمجيد سليم حين لخص حياته بقوله: "عاش لله ومات لله فكان من أهل الآخرة"، وفعلاً: مات يوم خميس، وصليت عليه الجنازة يوم جمعة، رضي الله عنه وأرضاه، ورحمه الله رحمة واسعة، ورزقنا سريرته وختامه الحسن".

تأسيس تربوي سديد:

شخصية بهذه المكانة، وهذه الآثار الطيبة، لابد أن تثير على كل عاقل سؤالا، نصه: كيف تأسست هذه الشخصية علميًّا، وكيف تكونت شخصيتها؟ لن أجيب إجابة التربويين المتخصصين، ولكن سأجيب من خلال ما كتبه مؤرخو حياة الشيخ؛ فقد رزق الشيخ عبدالمجيد سليم بتكوين تربوي وعلمي سديد، تمثل في الطفولة الفذة المبهرة  حيث تجلى نبوغه في حفظه القرآن الكريم في سن مبكرة جدٍّا، وفي إلمامه المتفوق بالعلوم الدينية كالتجويد والفقه والأصول. كان متوقِّد الذكاء، شغوفًا بفنون العلوم، متطلعًا إلى استيعاب جميع المعاني، ولم يكتفِ بدراسة العلوم المعروفة بالأزهر؛ فدرس إلى جانبها الفلسفة.  كما رزقه الله موهبة خاصة في التلقي للمعارف والعلوم، ومن شدَّة ذكائه ما روي: أنه يلتهمُ المعارف والعلوم التهامًا، فعرف طيلة فترة دراسته بالأزهر بالنبوغ والتفوق، حتى أنه كان يسمى «ابن سينا»-الفيلسوف العربي المشهور- لقدرته على التفلسف والتعمق في العلم، ويقال: إن الشيخ محمد عبده هو الذي أطلق عليه هذا الاسم.
وكان يختار أعلام الأساتذة من ذوي الخلُق الكريم، والعلم الغزير، والأفق الواسع؛ ليرشفَ من علومهم وينهل منها، ثم تولى إلى القاهرة ودخل الأزهر فدرس علومه على مشاهير شيوخه، وفي الوقت نفسه درس العلوم المعروفة في عصره، ومنها علوم الفلسفة، ومن هذا أنَّ دراسته لهذه العلوم لم تكن دراسةَ أستاذٍ فحسب، وإنما كانت دراسة مَن بلغوا فيها الغاية،  كما أتيح له أن يدرس العلوم الأزهرية العتيقة على يد ثلاثة من علماء الأزهر الأفذاذ وشيوخه البناءين، هم:

<!--عالم أزهري أصيل مثقف ثقافة تراثية عميقة، وهو الشيخ أحمد أبو خطوة(ت 1906ممن مواليد قرية كفر ربيع مركز تلا، من العلماء الذين شُهد لهم بالتعمق الفقهي، ومن كبار المتضلعين بالفقه الحنفي، والحافظين لمتونه وشروحه، واعيًا بمسائل الخلاف ووسائل الاستنباط فيه، وبرع في المعقولات؛ فكان – رحمه الله – بحرًا زاخرًا في معرفة التفصيلات الفقهيَّة والفتاوى الدينيَّة، واستنباط الأدلَّة الشرعيَّة من النصوص. وقد أعجب به الشيخ عبدالمجيد حتى قال مرَّةً: إنَّ الشيخ أبو خطوة يفهم شرح “فتح القدير على الهدايةللكمال بن الهمام(ت861هـ)” أكثر ممَّا يفهمه صاحبه نفسه…وقد جعل الشيخ أبو خطوة مفتيًا لديوان الأوقاف وانتدب للمحكمة العليا. وجمع مكتبة حافلة.

<!--عالم أزهري مثقف ثقافة فكرية حديثة، هو الشيخ حسن الطويل (ت1899م)، صوفي الطريقة، سني المذهب، والفيلسوف الزاهد، المتعمق في المنطق والفلسفة ومؤلفات ابن سينا، تلقى علوم الهندسة والجبر وسائر العلوم الرياضية في عصره، وكان لا يسمع أحدًا يعرف علمًا إلا سعى إليه، وتلقى عنه كائنا من كان! ولما قام (المهدي) بالسودان وعظم أمره واستولى على البلاد السودانية، جاهر الشيخ حسن الطويل بنصرته وساء الإنكليز ذلك، فراقبوه وكاد يصيبه أذاهم. وكان شديد الإنكار على المبتدعة. ووصفه تلميذه أحمد تيمور باشا بالورع. وعُرف بالشجاعة في القول بما يعتقد دون رياء أو مواربة. وهو من القرية نفسها التي أنجبت شيخنا"ميت شهالة"، وهو من تنبأ بتولي الشيخ عبدالمجيد مشيخة الأزهر منذ طفولته! وقد عرف الشيخ عبدالمجيد سليم عن شيخه أساليب عديدة في فنون الجدل والقياس لم تكن معروفة عند أقرانه من الطلاب، وكان الشيخ يرعاه ويوجِّهه ويُرشده، وقد تنبَّأ له بمشيخة الأزهر.

<!--عالم أزهري ومفكر إصلاحي هو الشيخ والزعيم والإمام محمد عبده(ت1905م) أحد دعاة النهضة في العالم العربي والإسلامي، وأسهم بقلمه ولسانه وحركته في القضاء على الجمود الفكري، ومواجهة التخلف الحضاري، عن طريق إعادة إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر، وتكاد تكون النزعة الإصلاحية والصحوة اٍلاسلامية والتجديد في عرض الإسلام أهم الدروس التي تلقاها الشيخ عبدالمجيد عن شيخه محمد عبده في الرواق العباسي بالأزهر الشريف، حيث أتيح له أن يتتلمذ على يد الإمام محمد عبده، وأن يستمع إلى دروسه في التفسير والبلاغة. وظلَّ مواظبًا على حضورها خمس سنوات، وقد أعجب بالإمام واعتبره مثله الأعلى في حسن الفهم وسعة الاطلاع وبلاغة التعبير.

 وقد أفاد شيخنا الشيخ عبدالمجيد سليم-رحمه الله- من هذه القمم العلمية، فصار نسخة متطورة منهم خلقيًّا وعقليًّا، فليس هو بالمقلد المتوقف على ما قاله شيوخه، بل كان المجتهد المستنير بآراء السابقين والمعاصرين إياه، فأخذ من الشيخ أبي خطوة الفقه الحنفي أخذا وافرًا، وزاد عليه اطلاعه على الفقه في المذاهب الأخرى، وأخذ من الشيخ حسن الطويل علمي المنطق والفلسفة والقدرة على الجدال والقياس، وزاد عليه في الجانب الفقهي، وكانت فتاواه مميزة عن فتاوى الشيخ محمد عبده بأنها كانت موثقة أصيلة، معتمدة على أدلة من المنقول والمعقول معًا، ومن كتب الفقه المعتمدة، ومن آراء المذاهب الفقهية المعتبرة، فكانت مقنعة كل الإقناع، لا سبيل فيها إلى الشك أو الارتياب!

تـلـك الشـيــوخ منـابـر ومـــــآذن

 

أقلامهـم ذات الضيا لا تقصف

حفظوا الثوابت كلها وسط الدجى

 

بمروءة وفصاحة لا تضعف

المصدر: أعد لتقديمه إلى مجلة الأزهر في شهر جمادى الثانية إن شاء الله تعالى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 150 مشاهدة
نشرت فى 4 يناير 2020 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,717