بسم الله الرحمن الرحيم
دور مؤسسات الدولة في محاربة الإرهاب
إعداد:
الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
وعضو اتحاد كتاب مصر
لكي نتناول هذا الموضوع تناولاً منهجيًّا لابد من أن نتدرج مع القارئ الكريم من المسلمات لننتقل إلى المتطلبات والاستنتاجات، فنضع الأسئلة المثيرة الآتية:
<!--ما الإرهاب؟
<!--ما أنواع الإرهاب؟
<!--ما أسباب الوقوع في الإرهاب؟
<!--ما أضرار الإرهاب؟
<!--كيف نواجه الإرهاب؟
وإجابة هذه الأسئلة ستكون في المطالب الفكرية الآتية:
أولاً: تعريف الإرهاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعد (الإرهاب) من المصطلحات المُلبسة والغامضة؛ بسبب التعقيدات السياسية والدينية، الماضية والحالية، إذ أصبح ذا مفهوم غامض أحيانًا، ومختلف عليه في أحيان أخرى. ونحاول هنا عرض أكثر من تعريف واستنباط تعريف محدد.
الإرهاب لغة:
(الإرهاب) مصدر قياسي للفعل(أرهب)، يقال: أرهب فلانًا: خوَّفه وفزَّعه، وجاء في التاج: الإرهاب: الإزعاج والإخافة(<!--)، وهو مشتق من الجذر اللغوي(ر/هـ/ب)، والرهْب والرهبة: مخافة مع تحرز واضطراب، وكل ما يشتق من هذا الجذر اللغوي يدور حول دلالتين كليتين، هما (الخوف، والخِفَّة)، قال ابن فارس: "الراء والهاء والباء أصلان: أحدهما يدلُّ على خوفٍ، والآخَر على دِقّة وخِفَّة؛ فالأوَّل الرَّهْبة: تقول رهِبْت الشيءَ رُهْباً ورَهَباً ورَهْبَة. والترهُّب: التعبُّد. ومن الباب الإِرهاب، وهو قَدْع الإِبل من الحوض وذِيادُها. والأصل الآخر: الرَّهْب: الناقة المهزولة. والرِّهاب: الرِّقاق من النِّصال؛ واحدها رَهْبٌ. والرَّهاب: عظمٌ في الصَّدر مشرفٌ على البَطن مثلُ اللِّسان(<!--)"..
وهاتان الدلالتان (الخوف، والخِفَّة) لهما صلة بالمفهوم الحديث لمصطلح (الإرهاب)، فهو عمل إجرامي يقصد في المقام الأول نشر(الخوف) في قلوب البشر المستهدفين ونفوسهم، كما أنه لا يصدر إلا من نفوس فيها(خفة) قلبية وعقلية وشخصية، نفوس ضعيفة، مستلبة مخدوعة ومغرر بها، ومن ثم نرى الدلالتين(الخوف والخفة) موجودتين في هذا المصطلح والمتصفين به.
ولقد أقر المجمع اللغوي القاهري في معجمه الوسيط مصطلح (الإرهاب) باعتبارها كلمة حديثة في اللغة العربية أساسها “رهب” بمعنى خاف، و(الإرهابيون) وصف يطلق على الذين يسلكون سبل العنف لتحقيق أهدافهم السياسية(<!--). ويتفق ما تقدم مع اصطلاح (الإرهاب Terreur )في اللغات الأجنبية القديمة كاليونانية واللاتينية؛ إذ يعبر عن حركة من الجسد تفزع الغير ( Manifestation du corps)، وانتقل هذا المعنى إلى اللغات الأجنبية الحديثة، وعلى سبيل المثال نجد أن معنى كلمة (إرهاب) في اللغة الإنجليزية: Terrorism المشتقة من كلمة Terror أي الرعب. وفي المنجد كلمة الإرهابي تدل على كل (من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطة) ، والحكم الإرهابي هو نوع من الحكم يقوم على الإرهاب والعنف تعمد إليه حكومات أو جماعات ثورية(<!--)..
الإرهاب اصطلاحًا
للإرهاب تعريفات عدة، فقد عرف قاموس ” إكسفورد” كلمة الإرهاب بأنها “استخدام العنف والتخويف بصفة خاصة لتحقيق أغراض سياسية”. وفي اللغة الفرنسية نجد أن قاموس “روبير” عرف الإرهاب بأنه “الاستعمال المنظم لوسائل استثنائية للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي مثل الاستيلاء أو المحافظة أو ممارسة السلطة، و(الإرهاب) بصفة خاصة هو مجموعة من أعمال العنف (اعتداءات فردية أو جماعية أو تدمير) تنفذها منظمة سياسية للتأثير على السكان وخلق مناخ بانعدام الأمن(<!--)". كما يعني (الإرهاب) أيضًا: "محاولة الجماعات والأفراد فرض أفكار أو مواقف أو مذاهب بالقوة؛ لأنها تعد نفسها على صواب والأغلبية مهما كانت نسبتها على ضلال، وتعطي نفسها وضع الوصاية عليها تحت أي مبرر… ومن هنا يأتي أسلوب الفرض والإرغام(<!--)، وفي معجم المنجد كلمة (الإرهابي) تدل على كل "من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطة)، و(الحكم الإرهابي) هو نوع من الحكم يقوم على الإرهاب والعنف تعمد إليه حكومات أو جماعات ثورية (<!--). ويعرف الإرهاب في القانون الجنائي بأنه:" تلك الأفعال العنيفة التي تهدف إلى خلق أجواء من الخوف، ويكون موجهًا ضد أتباع طائفة دينية أو أخرى سياسية معينة، أو لتحقيق هدف أيديولوجي، وفيه استهداف متعمد أو تجاهل سلامة غير المدنيين. إنها أعمال العنف غير المشروعة والحرب. يتم عادة استخدام تكتيكات مماثلة من قبل المنظمات الإجرامية لفرض قوانينها. فهو وسيلة من وسائل الإكراه في المجتمع الدولي. وإنه العنف المتعمد الذي تقوم به جماعات غير حكومية أو عملاء سريون بدافع سياسي ضد أهداف غير مقاتلة، ويهدف عادة للتأثير على الجمهور(<!--)....
والذي تركز عليه هذه التعاريف وغيرها هو: أن الإرهاب قرين العنف والاعتداء والإكراه، وأنه عمل عدواني منظم ومخطط، وأنه في الغالب موجه ضد المدنيين البرآء، وأنه لبث الرعب والخوف في النفوس، وأنه لتحقيق هدف أو أهداف سياسية أو دينية...
و هذا المفهوم الاصطلاحي المعاصر- في نظر كل باحث منصف- بعيد كل البعد عن إسلامنا الحنيف الحميل السمح الخاتم.
و(الإرهاب) قد يكون (فكرًا) يزين العنف ضد الآخرين ويبرره، وقد يكون (قولاً) يدعو إليه ويعلن عنه ويحث عليه. والغالب أنه (فعل) عنيف غير مشروع، يمارس بلا إعمال للعقل أو الضمير، بل بكل وحشية وهمجية وجاهلية وغطرسة وبلطجة! والهدف من ذلك بث الرعب والخوف والهلع والفرقة والفتنة بين أفراد المجتمع! لتحقيق مآرب سياسية أو عقائد دينية أو مصالح اقتصادية أو غير ذلك، على حساب أمن العامة وأمانهم، وراحتهم ورخائهم، واستقرارهم وهدوئهم...
ثانيًا: الإرهاب فى القرآن الكريم :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتدبر الكلمات المشتقة من الجذر (ر/هـ/ب) في القرآن الكريم نجد أنها وردت في دلالتين كلييتين، هما [الرهبة والخوف، والتعبد والتجرد].
وقد وردت الدلالة الأولى(الرهبة والخوف) سبع مرات في قرآننا الكريم، هي: [يَرْهَبُون(الأعراف، الآية:154)، فارْهبُون(مرتان: (البقرة، الآية:40، (النحل، الآية:51)، تُرهِبُونَ(الأنفال، الآية:60)، اسَتْرهَبُوهُم(الأعراف، الآية:116)، رَهْبَةً(الحشر، الآية:13)، رَهَبًا(الأنبياء، الآية:90)].
وورد الدلالة الثانية(التعبد والتجرد) خمس مرات، هي[ الرهبان(التوبة، الآية:34)، رهبانا(المائدة، الآية:82)، رهبانهم (التوبة، الآية: 31)، رهبانية(الحديد، الآية:27)] (<!--)..
وما يهمنا هنا السبع الأولى لاتصال دلالتها بمصطلح الإرهاب في مفهومه الحديث، و يمكن تنصيفها في الدلالات الثلاثة الآتية:
<!--الرهبة من الله تعالى وحده:
وذلك في أربعة مواضع من كتاب ربنا عز وجل، هي:
<!--قوله تعالى:(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (<!--))
<!--قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(<!--))
<!--قوله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(<!--) ).
<!--قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (<!--))
فالله –عز وجل- هو وحده المختص بالرهبة والخوف والخشية والخشوع والخضوع والتقوى دائمًا وأبدًا في كل زمان ومكان وحال ومآل؛ لأنه الجبار القهار المنتقم المعز المذل، مالك كل شيء وهو على كل شيء قدير.
<!--الإرهاب لأعداء الأمة المحاربين البارزين والمستترين
وذلك في موضعين، هما:
<!--قوله تعالى: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (<!--)}، يقول الله -تعالى ذكره- للمؤمنين به من أصحاب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: لأنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدور اليهود من بني النضير من الله، خافوا منكم أعظم مما يخافون الله، وقدموا مخافة المخلوق الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، على مخافة الخالق، الذي بيده الضر والنفع، والعطاء والمنع. والسبب أنهم قوم لا يفقهون، قدر عظمة الله، فهم لذلك يستخفُّون بمعاصيه، ولا يرهبون عقابه قدر رهبته منكم، ولايفقهون مراتب الأمور، ولا يعرفون حقائق الأشياء، ولا يتصورون العواقب، وإنما الفقه كل الفقه، أن يكون خوف الخالق ورجاؤه ومحبته مقدمة على غيرها، وغيرها تبعًا لها. كما قال مفسرو قرآننا قديمًا وحديثًا(<!--).
<!-- قول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ. وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(<!--). فالإرهاب لا يكون إلا للمحاربين المعتدين، فقد ذكر في الآية التي سبقتها، الخوف من خيانة المعاهدين بسبب نقضهم العهود ، قال تعالى: {َوإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(<!--)}، كما يزداد المعنى وضوحًا أيضًا وتأكيدًا، عند مواصلة القراءة إلى تمام الآية التي تليها ، وهي قوله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (<!--)}؛ فالإرهاب هنا "من أجل منع العدوان والظلم، ولحماية أمة الإسلام التي أُمرت بالتزام الحق والعدل، وأمرت بتحصل القوة لتثبيتهما إزاء الناس كافة، ولأن الاستعداد المستمر والجاهزية للجهاد عند الاقتضاء يدفع الحرب ويمنع وقوعها بسبب خوف من يعتزم نقض العهود، ويبيت الاعتداء، ويضمر الخيانة والغدر، وإرهابه إرهابٌ مشروع، ولا يتحقق له ذلك، ويحصل له الخوف والرهبة الزاجرة إلا متى علم بشدة قوة المسلمين؛ فالآية التي تأمر المسلمين بوجوب تحصيل القوة، وتوفير أسبابها ومقوماتها، بما يتناسب مع كل عصر، إنما لتكون رادعًا وزاجرًا يرهب كل من تسول له نفسه مباغتتهم بالحرب، فيتضرر المسلمون، وتتعطل رسالة الإسلام الذي يسعى إلى تحقيق السلام ، ويأمر بالجنوح له ؛ لأنه -أي: الإسلام- من بين مقاصده وغاياته ، وفي تحصيل القوة سدٌّ لأبواب المفاسد والحروب، وحفظ للأمن، وجلب مصالح ومنافع العباد، فيهنأ الجميع باتقاء الفتن، ويسعد الجميع بانفتاح أبواب التعاون وتنمو روابط المودة ويزدهر العمران في الأرض(<!--).
فالدولة مطالبة بأن تتسلح دائمًا بكل عدة عسكرية قادرة على الردع، وعلى الإرهاب لكل الأعداء المتربصين بنا: المعروفين وغير المعروفين، فلن يتحقق لنا الاستقرار والعيش في سلام إلا من خلال القوة الحامية، والقوة المدافعة، والقوة البناء المعمرة. وصدق شعارنا: يد تبني، ويد تحمل السلاح.
<!--الاسترهاب:
وذلك في قوله تعالى عن سحرة فرعون: " قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(<!--) ويفهم من الآية أنه يوجد نوع من التخطيط لإيقاع الناس في الخوف والهلع والفزع، واستعانة بكل وسيلة تحمل على ذلك وتدفع إليه، وتتسبب فبه، فــ(استرهبوهم) أي حملوهم على أن يرهبوا. جاء في تفسير الإمام الطبري: "قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة: (ألقوا ما أنتم ملقون) فألقت السحرة ما معهم، فلما ألقوا ذلك "سحروا أعين الناس :" خيلوا إلى أعين الناس بما أحدثوا من التخييل والخُدَع أنها تسعى، " واسترهبوهم، يقول: واسترهبوا الناس بما سحروا في أعينهم, حتى خافوا من العصيّ والحبال, ظنًّا منهم أنها حيات" وجاءوا " كما قال الله: "بسحر عظيم": بتخييل عظيم كبير(<!--): أي أرهبوهم إرهابًا شديدًا كأنهم استدعوا رهبتهم، أو أرهبوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس. وفي المعجم الوسيط: استرهبه: رهَّبه(<!--). أما الدلالة الحديثة الدولية للإرهاب فغير موجودة في آيات القرآن الكريم الخاصة بلفظ الإرهاب، وفي القرآن الكريم ألفاظ أخرى متصلة بدلالة الإرهاب الحديثة والحالية، يمكن حصرها في المصادر الآتية: الظلم، والبغي، والاعتداء، والحرابة، والفساد، والإجرام، والطغيان، الرعب، الخوف...
عقوبة الإرهاب المذموم:
عقوبة الإرهاب المذموم هي عقوبة الحرابة وحدها في الإسلام؛ فقد قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ*إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (<!--). وقد اختلفَ العلماء في عقوبة المحارب، فذهب الجمهور إلى أنّها على التوزيع، واختلفوا في الكيفية، فرأى الحنفيةُ أنّ المحارب إذا أخذ ولم يسرق مالاً أو يقتل أحداً من الناس نفي من الأرض أي حبس حتى يتوب أو يموت، وإن بدر منه القتل فقتل مسلمًا أو ذميًّا كان حده القتل، وإن كانت محاربته سرقة المال دون القتل قُطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وأما إن صدر من المحارب قتلٌ وسرقة مالٍ فإنَّ عقوبته تكون على التخيير، فإما أن يقتله ولي الأمر ويصلبه ويقطع يديه ورجله من خلاف، أو يقتله ويصلبه، وإلى ذلك ذهب الحنابلة والشافعية مع قولهم: إنّه بعد أن يُصلب يُدفع إلى أهله ليغسل ويصلى عليه ثمَّ يُدفن، وقد ذهب الإمام مالك إلى الجمع بين توزيع العقوبة حسب نوعها وبين التخيير فإذا قَتل المحارب كان جزاؤه القتل أو الصلب، ولا يخيَّر الإمام في نفيه أو قطعه، وإن سرق المحارب المال دون القتل خُيّر الإمام فيه إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطعه، ولا ينفيه من الأرض، وكذلك يفعل فيمن أخاف السبيل ولم يقتل أو يسرق(<!--).
هذا، وقد نصت آيات القرآن الكريم في أكثر من موطن على تحريم الاعتداء على غير المحاربين ، وأمرالله -سبحانه- فقط بقتال الذين يقاتلون المسلمين، ونهى عن العدوان ، قال الله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (<!--)}، وقال عز وجل: { وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (<!--)}، وقد أخطأ خطأ كبيرًا من نسب إلى الإسلام إباحة الإرهاب بالمعنى المعاصر من حيث هو اعتداء صريح على الآمنين ، وزعم أن مجرد المخالف هو عدو في نظر المسلمين، ضاربًا بالواقع عرض الحائط، متماديًّا في حقده الشديد على الإسلام الذي يأمر { بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ(<!--) } ويرسم منهج الحوار مع المخالف بالتي هي أحسن: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ(<!--) }(<!--) . فالإسلام دين السماحة مع الآخر، ودين الأخوة الإنسانية، ودين الحرية العقدية، ودين التعارف، والتعاون على الخير، دين السلام، ودين للحفاظ على الحياة والأحياء، ودين لعمارة الكون وتنميته وتأمينه.
ثالثًا: الإرهاب في السنة النبوية الشريفة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لفظة (الإرهاب) بالمفهوم الدولي الحديث والمعاصر لم ترد في السنة النبوية الشريفة،
وما ورد هو لفظ (رهبة) (<!--) في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - الذي يرويه في الدعاء: "وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك"(<!--)، أي رغبة في رفدك وثوابك، (ورهبة) أي خوفًا وفزعًا من غضبك وعقابك.كما قال شراح الحديث النبوي الشريف. فهي رهبة عقدية من الله عز وجل، ولا صلة لها بالحياة والأحياء. وجاء اللفظ(الرعب للأعداء) فيما روي في الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنهما - أن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر..." الحديث(<!--)، فالرعب هنا موجه إلى الكفار المعتدين، والذين يحولون بين الناس ودعوة الإسلام، فيواجهونها ويعوقونها بالحرب وصنوف الاعتداء والإيذاء.
وفي السنة النبوية الشريفة استهجان للعنف والشدة، ونبذ للقسوة والجفوة، ودعوة إلى اليسر والرفق واللين والسماحة والاعتدال وتهجين للغلو والتطرف والتشدد. إن المسلم مطالب بأن يقدم السلامة لكل الناس، وألا يصدر عنه رعب أو عنف أو ترويع لأحد سواء أكان مسلمًا أو غير مسلم؛ ففي الحديث :"المسلم من سلم الناس من لسانه ويده"، وروي في خطبة حجة الوداع: " قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- : في حجة الوداع: ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده (<!--)"، وروى عبد الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا (<!--)، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه(<!--)؛ فترويع المسلم عند الله عظيم، وهو أمر ملعون من الملائكة، وهو كذلك ظلم وتعد ظاهر، وهو حرام بكل حال، بل إن حرمته شديدة تصل إلى أن تكون كبيرة، حتى ولو كان مازحًا، وفي السنة النبوية الشريفة حماية للنفس البشرية من مجرد الإشارة إليها بحديدة، ونهي عن حمل السلاح والخروج به على الجماعة.
رابعًا: دور مؤسسات الدولة في مواجهة الإرهاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مما لا ريب فيه أن الإرهاب، بأنواعه المختلفة داخليًّا وخارجيًّا، يتطور أسرع مما تتطور أدوات مواجهته؛ فهو ينمو وينتشر ويرواغ كفيروس يتمحور أسرع من سرعة جهاز المناعة على إنتاج أجساد مضادة؛ ومن ثم لا يمكن لمؤسسة وحدها أن تواجه خطر الإرهاب الدولي بجماعاته وأنظمته الحديثة، وأدواته المتطورة، وتحديثاته اليومية، فالجماعات الإرهابية تستخدم الإعلام التكنولوجي بشكل قوي للترويج لأفكارها المتطرفة، وإشاعة الخوف والرعب داخل المجتمع، والطرق الحكومية الروتينية والتقليدية فى مواجهة الإرهاب لا تصلح الآن للمواجهة، ولا تسعف في علاجه أو الخلاص منه؛ لذلك لابد من تطوير استراتيجيات مواجهة الإرهاب والتطرف بمزيد من الأفكار خارج الصندوق، وبمساندة كل القوى الإبداعية فى المجتمع، ويأتى على رأسها مؤسسات المجتمع المدنى بجميع تنويعاته، من خلال العمل على تحقيق مصالحالأفراد أو تقديم خدمات للمواطنين أو ممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، تملأ فراغ الناس القاتل، وذلك في أماكن التجمع التطوعية والرسمية كالجمعيات الأهلية، والنوادى الرياضية، والاجتماعية، ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، وجمعيات رجال الأعمال والنقابات المهنية والنقابات العمالية , والكيانات الدينية المعتدلة الشبيهة بالطرق الصوفية .. إن الأعمال والأساليب والممارسات الإرهابية بجميع أشكالها ومظاهرها أنشطة تهدف إلى تقويض حقوق الإنسان والحريات الأساسية والديمقراطية، وتهدد السلامة الإقليمية للدول وأمنها، وتزعزع استقرار الحكومات المشكلة بصورة مشروعة...
<!--لابد من العمل في منظومة حكومية متنوعة متكاملة متطورة. وهذه المنطومة تشمل الأزهر الشريف جامعًا وجامعة ومجمعًا، بكل هيئاته، ووزارة الأوقاف بكل إمكانياتها، ووزارة الثقافة بكل هيئاتها، ووزارة التربية والتعليم بكل إداراتها، ووزارة التعليم العالي بكل جامعاته ومعاهده، ووزارة الشباب بكل نواديه ومتدياته ومراكزه، والهيئات الوطنية الخاصة بالإشراف على الإعلام الرسمي والخاص، والمسموع، والمشاهد، والمقروء...كل القائمين على هذه الجهات الحكومية لابد أن تتكاتف معًا ضد هذا الخطر الوافد الغازي المحدق بنا ليل نهار، والذي نرى له أضرارًا في داخل وطننا وعلى حدود وطننا، وفي الدول المجاورة لنا...حتى نقوم بمواجهة الجماعات الإرهابية بشكل مهني، كما أننا بحاجة إلي ميثاق شرف نوعي للتعامل مع الأوضاع الراهنة لتحديد الأطر والقواعد العملية للتعامل مع تلك الأخطار، بمعالجة الظروف المؤدية إلى الإرهاب، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وسيادة القانون، و العمل على تحقيق المساوة والكرامة البشرية للجميع بلا تمييز أو عنصرية أو إقصاء ...ثم العمل على منع وقوع الإرهاب بكل الوسائل الممكنة أمنيًّا وقانونيًّا...
<!--تطوير الخطابات الدينية و السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية والفنية، من خلال النخبة والقوى الناعمة فى أي دولة، حيث تقوم بقيادة عملية التنوير، وبناء الوعي، لاسيما في مرحلة ما بعد الاهتزازات السياسية الكبرى أو فى أوقات التحديات الكبرى؛دفاعًا عن مصلحتها الوطنية، في إطار بناء أمنها القومي .
<!--تعزيز وترسيخ قیم واستحقاقات المواطنة والدیمقراطیة والتعایش، والترويج لثقافة السلام والعدالة والتنمية البشرية، وللتسامح العرقي والوطني والديني، ولاحترام جميع الأديان أو القيم الدينية أو المعتقدات أو الثقافات، عن طريق القيام، حسب الاقتضاء، بوضع وتشجيع برامج للتثقيف والتوعية العامة تشمل جميع قطاعات المجتمع...
<!--نشر ثقافة إنماء الحس الوطني والوحدة الوطنیة لدى المواطن ، ونشر ثقافة التسامح والاستنارة؛ لتحصين المواطنين ضد التطرف، والعمل على عدم استجابتهم لمحاولات تجنيدهم من قبل اللمنظمات الإرهابية العالمية.
· رصد وتشخیص مؤشرات الإنذار المبكر فى المجتمع، ورصد التغييرات التى تعطى مؤاشرات إنذارًا لتنامى الأفكار المتطرفة، وتوفير أجواء مناسبة وآمنة للنقاش والحوار المجتمعى لحل كافة المشكلات .
· تشجیع برامج وأنشطة نشر ثقافة الحوار واحترام الرأي والرأي الآخر، ونبذ ممارسات الإقصاء والتھمیش ضد أي مجموعة عرقیة أو اجتماعیة، ، وتخفيف الصراعات الموجودة فى المجتمع بين طوائفه كافة، وحصار التوتر الطائفى أو القبلى أو الدينى.
· العمل على النهوض بمستوى معيشة الفئات المهمشة وسكان الأحياء العشوائية ومساعدتهم فى إيجاد المسكن الآدمى والعمل المنتظم وإدماجهم فى المجتمع وتمكينهم من التعرف على القيم الإنسانية الرفيعة من خلال العروض الفنية المتنوعة، مع توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين جميعًا .
<!--تقویة الأطر القانونیة الدولیة والقُطْریة للأنشطة المتعلقة بمواجهة الإرهاب، وبخاصة عندما یتم تنفیذ هذه القوانین ویرتبط الأمر بحمایة حقوق الإنسان (<!--)....
وهكذا نرى الإرهاب مشكلة كبيرة وخطرًا داهمًا وجاثمًا وعظيمًا، يحتاج إلى تعاون مجتمعي شامل، بدءًا من مؤسسة التنشئة الأولى: البيت والعائلة، ومرورًا بمؤسسات التعليم: المدرسة والجامعة ودور العبادة، وانتهاء بكل مؤسسات الدولة، كل مؤسسة فيما أهِّلت له، حتى يكون المجتمع كله يدًا واحدة وقلبًا واحدًا ضد الإرهابيين والمتطرف