جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بسم الله الرحمن الرحيم
لم أجد أروع ولا أبلغ من تلك الآيات الكريمات أخاطب بها أولئك الذين يشهدون في محاكمة القرن حيث يحاكم رئيس قتل شعبه وبالغ في آذاه طيلة ثلاثين عاما.
وتلك الكلمات في حقيقة الأمر موجهة لكل من يتحمل عبء الشهادة أو تولي النيابة في قضية من القضايا.
وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها: أن أهل بيت سرقوا في المدينة، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك، واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس، وقالوا: إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء، فنزلت تلك الآيات المباركات تعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى في سورة النساء:
{وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا . يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا . هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}
[النساء: 107 - 109].
ذكر الله سبحانه وتعالى عن هذا الصنف من الخلق أنهم
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}
[النساء: 108]،
وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم، وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم،
ولهذا توعدهم تعالى بقوله:
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}
[النساء: 108]،
أي: قد أحاط بذلك علما.
ثم قال سبحانه وتعالى:
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}
[النساء: 109]،
أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق، فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}
[النور: 25].
فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟
ثم عقب سبحانه بأن فتح باب التوبة وعرضها عليهم بعد أن حذرهم من الإصرار على ذنبهم
فقال جل في علاه:
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
[النساء: 110].
فهل يستجيبون أم ينتظرون يوما تنفض فيه هذه المحاكمة الأرضية، ويقفون فيه أمام رب الأرض والسماوات في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،
يوم قال سبحانه وتعالى عنه:
{يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}
[عبس: 34 - 37].
فعاجلوا بالتوبة قبل ألا ينفع الندم، وتذكروا أن العقاب الدنيوي لا يقارن أبدا بالعقاب الأخروي، بل إن العقاب في الدنيا قد يكون فيه تطهيرا للعبد، ولو صدق العبد التوبة لكان ذلك بابا من أبواب الصلة بالله سبحانه وتعالى في وقت هو أحوج ما يكون إليه، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغامدية: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم»؟؟
المصدر: طريق الإسلام - محمد نصر - تفسير السعدى
ساحة النقاش