هناك علاقة ثابتة بين القصص والتنمية الفكرية البشرية، وعلاقة بين الأسلوب القصصي والتربية، لذلك كان الأمر والتوجيه الإلهي للحبيب صلى الله عليه وسلم ومن تبعه: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) (الأعراف).
ولهذا عندما نتفكر ونتدبر كيف كان القرآن الكريم في مرحلته المكية، وهو يقوم بالعملية التربوية الجهيدة، من أجل إعادة الصياغة الربانية لعقلية جيل التأسيس العظيم، وطلائع هذه الأمة، خاصة في أشد فتراتها حرجاً، وأخطرها؛ وهي الفترة الحرجة من عمر الدعوة؛ تلك الفترة التي تعرضت الدعوة فيها لعملية رهيبة من التجهيل والتعتيم والحصار، وتجفيف كل المنابع، وتعرض فيها الداعية الرائد، والمربي العظيم صلى الله عليه وسلم، للأذى.
ونجد أن من السور القرآنية المباركة التي كانت تشارك في هذه العملية التربوية، خلال تلك الفترة (سورة يوسف)، والتي جاء في مطلعها: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3) (يوسف).
فعندما نتدبر تلك السورة، نجد أنها تحتوي على قصة عظيمة وردت كاملة، لتعطي نموذجاً للخروج والابتلاء قبل التمكين، فكانت طريقة تربوية للتسرية والتثبيت والتطمين.
وهذا ما يوحي بأهمية القصة، وخطورة دورها في العملية التربوية الربانية.
القصة والمتوالية التغييرية:
والقصة كفرع من فروع الأدب، تعتبر من الوسائل البارزة في تشكيل ثقافة الأفراد والأمم، وترتيب عقليتها، وصياغة هويتها.
فهي تقوم بهذا الدور التربوي بطريق غير مباشر؛ من خلال أسلوب فريد؛ وهو مخاطبة العقل الباطن، وبناء اللاوعي.
حيث يتم من خلال هذا الأسلوب غير المباشر تكوين وإبراز المنطلقات الفكرية للفرد أو الأمة.
فالفكرة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
وذلك لأن سلسلة التحولات الحضارية، إنما تنبع أو تنشأ من فكرة أو مبدأ، وهذا المبدأ بدوره يُنشئُ تحولاً نفسياً في نفوس البشر، وهذا بدوره يُنشئُ دافعاً داخلياً، فيؤدي إلى سلوك اجتماعي، وهذا التغير السلوكي الاجتماعي، يفرز تحولاً اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً.
وحتى تكون دراستنا منهجية؛ فسنذكر بعض القواعد الذهبية الثابتة؛ حول خطورة دور الأدب في عملية التغيير الفردي والحضاري:
القاعدة الذهبية الأولى:
(تعتبر الأدبيات مرآة للحقبة أو علامة للمرحلة التي تمر بها أي مؤسسة أو أمة).
أي تعتبر الأدبيات لسان حال واقع الأمة.
والأمثلة كثيرة وبارزة؛ ففي الستينيات من القرن العشرين، وأثناء الحقبة الناصرية كانت الأدبيات المصرية خاصة والعربية عموماً، تتركز حول ترسيخ دور الزعيم، ونشر ثقافة الاشتراكية.
وفي التسعينيات من نفس القرن، كانت ثقافة السلام هي السائدة.
والآن الأدبيات يسودها ثقافة تغيير وتمييع هوية الأمة، بهدم الثوابت العقدية، وذلك من أثر الهجمة الهائجة المائجة لثقافة العولمة والكوكبة.
القاعدة الثانية:
(تعتبر الأدبيات مرآة للمرحلة العمرية والفكرية التي يمر بها صاحبها).
القاعدة الثالثة:
(أخبرني عما تحمل من أفكار وقيم ومبادئ؛ أقل لك من أنت!).
القاعدة الرابعة:
(ارتق بالأفكار يرتقِ السلوك).
فإذا أردنا أن ننشئ سلوكاً متميزاً، أو سامياً أو راقياً عند فرد أو مؤسسة أو أمة؛ يجب أولاً أن ننشئ منطلقاً قيمياً أو فكرياً متميزاً.
وإذا كانت القصة والأدب عموماً كما أسلفنا من أبرز الروافد المكونة لأفكار أو قيم أو مبادئ أي فرد أو أمة، فكذلك كلما ارتقى المخزون القصصي أو الأدبي عند فرد أو أمة؛ ارتقت بالتالي الأفكار والقيم، وبناءً عليه ارتقت السلوكيات.
وإذا كانت أرقى الأفكار، وأسمى المبادئ، وأرفع القيم، هي الأفكار الربانية، فمن هنا ندرك الدور العظيم للأفكار الربانية السامية الراقية، التي تبرزها القصة القرآنية، والنبوية.
فما أحوجنا لفقه دور القصة القرآنية، بما تحمله من رصيد فكري، في عملية التغيير النهضوي الحضاري لأمتنا.
أهمية المخزون المعرفي:
ولكل فرد أو مؤسسة أو أمة، أدبياتها، التي تساعد في عملية تمييز أفكارها وقيمها، وبالتالي تميز سلوكياتها.
وهذه الأدبيات أو الثقافات الخاصة بكل فرد أو أمة، تسمى المخزون المعرفي الخاص بها.
والمخزون المعرفي هو الذي يحمي الفرد أو الأمة من عمليات التآكل الداخلي، أمام تيارات الثقافات الواردة.
وهو الذي يحميها ضد الغزوات الفكرية الخارجية.
فكلما ارتقى المخزون المعرفي؛ ارتقت الأفكار والقيم المحركة، وبالتالي ارتقت السلوكيات.
وهذا بناءً على القاعدة الذهبية الخامسة:
(ارتق بالمخزون المعرفي ترتق الأفكار، ومن ثم يرتقي السلوك).
وهذا المخزون المعرفي هو الذي يحدد هوية الفرد أو الأمة.
والأمة الخاتمة؛ أمة الرسالة والدعوة، لها مخزونها المعرفي الخاص؛ والرباني المصدر، والذي مصادره مميزة وخاصة؛ وهي:
1 القرآن الكريم.
2 السنة النبوية المطهرة.
3 السيرة النبوية الشريفة.
وهذه الثلاثية المعرفية الربانية يكملها، مصدران آخران دائمان ومتجددان؛ وهما:
4 دراسة التاريخ.
5 دراسة الواقع.
إذن فقراءة الورد القرآني اليومي تعتبر عملية مستمرة لاستدعاء المخزون المعرفي، وتنشيطه في الذاكرة.
ومن يُقَصِّر في ورده اليومي، ثم يهمل خاصية الاطلاع على التاريخ، يعرض نفسه إلى نوع من فقد الذاكرة.
لهذا كان الخطاب القرآني المتكرر: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين 137. (آل عمران).
نحو ترتيب العقلية المسلمة:
وتدبر كيف أن الحبيب صلى الله عليه وسلم، كان يوصي بقراءة (سورة الكهف)، كل يوم جمعة.
وإذا علمنا أنها تحتوي على كم من القصص القرآني العظيم، لأدركنا كيف أن للقصص القرآني الكثير من التأثير والدور الخطير في اكتساب ما ننشده من الفقه الحضاري والاجتماعي؛ والذي يكتسب من فقه السنن الإلهية الاجتماعية، وكيف أنها تحتوي من المعطيات خاصة من خلال تدبر القصص ما تقوم بعملية ترتيب وإعادة صياغة دائمة لعقل الأمة.
وكما قلنا فإن القصص هو العنصر الغالب في (سورة الكهف).
ومن خلاله يعرض القرآن الكريم خلاصة لسننه سبحانه الاجتماعية، التي تنظم بعض أحوال وصور الصراع الدائم والخالد بين الحق وأهله، وبين الباطل وأهله، في عدة جولات حضارية؛ تصور الحق وأهله في مراحل مختلفة؛ مرحلة الرفض والاستئصال، ومرحلة التعايش في مناخ يسمح بهامش الحرية، ومرحلة التربية والتكوين، ثم في مرحلة التمكين.
(أ) ففي قصة أصحاب الكهف؛ صورة الحق عندما يكون مطارداً، مرفوضاً من التعايش والوجود مع الباطل، أي مرحلة المطاردة والإقصاء والاستئصال، وكيف أن أهل الباطل دوماً تحركهم الأفكار الاستئصالية لرأي الآخر.
لهذا فإن أهل الحق لا يسعهم إلا أن يعلنوا اعتزالهم، فراراً بدينهم، وحفظاً لفكرتهم، وحمايةً لأنفسهم.
(ب) وفي قصة صاحب الجنتين؛ صورة الحق عندما يوجد في مرحلة اجتماعية، تتيح قدراً من حرية التنفس الفكري؛ فتسمح بمساحة لكل التيارات للتعبير عن توجهاتهم، أي مرحلة التعايش مع الآخر، وهي مرحلة يجد فيها أصحاب الحق فرصة الحوار وتقديم الحجج، أمام أهل الباطل، لفضح أفكارهم، ولكشف الستار عن سلوكياتهم وتوجهاتهم، وتحذيرهم من المصير المحتوم.
(ج) وفي قصة ذي القرنين؛ توضح صورة الحق، في أخطر مراحله، وأشدها مسؤولية، وأكثرها حرجاً، وأعظمها تحدياً؛ وهي مرحلة التمكين، أي مرحلة العولمة الإسلامية.
(د) أما قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح؛ فهي تبرز صورة الحق في مرحلة، أو صورة أخرى مهمة جداً، وهي مرحلة التربية أو التكوين، وهي تمثل إحدى التجارب الدعوية في مرحلة التربية والتكوين والبناء.
وتبرز لنا من خلال القراءة المبصرة والمنهجية؛ الضوابط أو الركائز أو المعالم المنهجية للعملية التربوية.
القصة والفقه الحضاري:
وعندما نتناول قراءة القصة، يجب أن نتناولها برؤية منهجية، وبنظرة ازدواجية، ذات بعدين:
الأول: يبرز الدروس القريبة الظاهرة والمباشرة للقصة.
والثاني: يبرز الدروس البعيدة، التي تغوص في المغزى التربوي للحدث.
وهي نظرة تستظل بفقه السنن الإلهية.
وهذه السنن الإلهية قسمان:
أولاً: سنن إلهية كونية؛ تنظم عالم المادة في الآفاق.
ثانياً: سنن إلهية اجتماعية؛ تنظم عالم الأحياء أو الأنفس خاصة البشر.
لهذا فإن السنن الإلهية الاجتماعية؛ تعتبر المرتكز لباب عظيم من الفقه؛ وهو (الفقه الاجتماعي الحضاري)، الذي يبحث في عوامل السقوط والنهوض عند الأفراد والأمم والجماعات.
وهذا الفقه يستمد مادته من خلال:
1 قراءة التاريخ.
2 التدبر في القصص القرآني.
وما أحوجنا لدور الأدب الإسلامي الملتزم؛ وفقه دوره الخطير في عملية التغيير الحضاري.
ساحة النقاش