هل كان الشابي مجرد شاعر؟

                            رمضان مصباح

                           

 

 

 

قال صاحبي: لا ينقص ثورة الياسمين إلا الشابي ؛فقلت لا أراك أنصفت,فليس فيها الا الشابي؛وأضفت:لكن من المحال أن يكون الشابي مجرد شاعر.

هل هو مجرد شاعر ؛هذا الذي غطت ترانيمه الخافتة على كل الصخب الثوري ,الملطف بالياسمين؟ هذا الذي يلف بظله النحيف كل المساحة التونسية الخضراء.

هل هو مجرد شاعر هذا الذي أطاح بهبل ومناة ,وصرح حزبي حجب علوه الشمس عن البلاد والعباد؟

هذا الذي  لا تحتاج قراءته إلى مدرسة أو جامعة؛ هل هو شعر؟

هذا الذي تصغي إليه عربة الخضر ,المتهالكة, فتنتفض,وتلقي بما عليها ,قبل انتفاض صاحبها؛هل هو شعر؟

هذا الذي أضاف إلى الأبجدية الصارخة حرف النار ؛وأنطق البوعزيزي كلاما ونارا ؛هل هو

مجرد شعر؟

قررت وصاحبي أن نغافل الشابي ,فهو اليوم منشغل بتلاحق الأحداث في مرابع الصبا؛ومأخوذ بالاحتفاء بالبوعزيزي ,وحاشيته من الشهداء.

نغافله لنلج إلى عوالمه ؛سمها ياصاحبي ماشئت الاأن تسمها شعرا  :

يقول في "هكذا غنى بروميثيوس":

                   اني أنا الناي الذي لاتنتهي      أنغامه ما دام في    الأحياء

                  ...

                   وأقول للجمع الذين تجشموا      هدمي وودوا لو  يخر بنائي

                   وغدوا يشبون اللهيب بكل ما     وجدو ليشووا فوقه أشلائي

                  ...

                  إني أقول لهم ووجهي مشرق     وعلى شفاهي بسمة استهزاء

                  إن المعاول لا تهد مناكبي         والنار لا تأتي على أعضائي

                 ...

              أما أنا فأجيبكم من فوقكم               والشمس والشفق الجميل ازائي:

             من جاش بالوحي المقدس قلبه         لم   يحتفل    بفداحة     الأعباء

ترى ,صاحبي,كيف يتماهى الشابي بالبوعزيزي – رغم فارق الزمن بينهما-؛فتراهما جسدا واحدا ؛أضرمت فيه النيران؛من طرف زبانية لا أعرف من الشابي بهم:رآهم حتى قبل أن يولدوا.

إياك أن تعتقد –كما يعتقد القرضاوي والناس-أن البوعزيزي هو من أضرم النار في نفسه ؛ولم يبق لنا إلا أن ندعوا له بالرحمة والمغفرة.

قضي الأمر باحتراق البوعزيزي ؛وقد انكشف الغيب للشابي؛سمها ماشئت :نبوءة,ولاية ؛ولا تقل هي شيطان الشعر؛أو كلام يتبعه الغاوون.

لم ينهد بناء البوعزيزي ؛فحتى عربته المتهالكة استعصت على الطغاة ,بما فيهم طغاة المال.

إنها موضع نبوءة ,وأمر الهي سبق؛فكيف نتبارى في تثمينها.

إنها العربة التي نظر إليها والى صاحبها أبو القاسم الشابي.

وهل أتت النار على أعضاء البوعزيزي؟

متى حصل ذلك؟في زمنه,أم في زمن الشابي؟

لا تتعب نفسك ياصاح ؛لو كانت لتأتي على أعضائه لأتت قبله على الشابي ؛وما كان لينكشف له شيء.

أتت النار على أعضاء من سمي باسم لا يستحقه ؛لأنه ما عبد غير نفسه ؛وما عبد غير اللاة.

 

" فلسفة الثعبان المقدس"

 

في هذه الترنيمة,الكشفية ,مرة أخرى, يختزل الشابي وداعة الكون كلها ,وكل البراءة الطاهرة,

في شحرور ,كائن ضعيف لطيف ,يسعى في ربيع سرمدي ,مبتهجا بالحياة ,وربيعها ,بالأزهار وشذاها :

كانَ الربيعُ الحُيُّ روحاً، حالماً

غضَّ الشَّبابِ، مُعَطَّرَ الجلبابِ

يمشي على الدنيا، بفكرة شاعرٍ

ويطوفها، في موكبٍ خلاَّبِ

والأُفقُ يملأه الحنانُ، كأنه

قلبُ الوجود المنتِجِ الوهابِ

والكون من طهرِ الحياة كأنما

هُوَ معبدٌ، والغابُ كالمحرابِ

والشّاعرُ الشَّحْرورُ يَرْقُصُ، مُنشداً

للشمس، فوقَ الوردِ والأعشابِ

شعْرَ السَّعادة والسَّلامِ، ونفسهُ

سَكْرَى بسِحْر العالَم الخلاّبِ

 

لا شيء يمكن أن يقع ,غير فيض السعادة والهناء– يقول صاحبي- شحرور سعيد ,في ملكوت الهي تتساوى فيه حقوق الجميع ,في الهواء والماء والشمس والحلم.

ما أحسن نيتك ؛وهل تغذى الجبابرة من غير هذه الوداعة ؛بمسميات شتى؟

من سلط على الآخر البوعزيزي أم " الزين" كما قال " الزين " الآخر؟ لم تكن سوى عربة ,فوقها قوت لفقير يبيع للفقراء. رآه الشابي شحرورا يسعى لرزقه كسائر الطير.

لكن العطشى للدم هنا ؛ لا حياة لهم بدون دم غيرهم يسري في أوصالهم :

ورآه ثعبانُ الجبالِ، فغمَّه

ما فيه من مَرَحٍ، وفيْضِ شبابِ

وانقضّ، مضْطَغِناً عليه، كأنَّه

سَوْطُ القضاءِ، ولعنة ُ الأربابِ

بُغتَ الشقيُّ، فصاح من هول القضا

متلفِّتاً للصائل المُنتابِ

وتَدَفَّق المسكين يصرخُ ثائراً:

«ماذا جنيتُ أنا فَحُقَّ عِقابي؟»

لاشيءِ، إلا أنني متغزلٌ

بالكائنات، مغرِّدٌ في غابي

«أَلْقَى من الدّنيا حناناً طاهراً

وأَبُثُّها نَجْوَى المحبِّ الصّابي»

«أَيُعَدُّ هذا في الوجود جريمة ً؟!

أينَ العدالة ُ يا رفاقَ شبابي؟»

«لا أين؟، فالشَّرْعُ المقدّسُ ههنا

رأيُ القويِّ، وفكرة ُ الغَلاّبِ!»

«وَسَعَادة ُ الضَّعفاءِ جُرْمُ..، ما لَهُ

عند القويِّ سوى أشدِّ عِقَاب!»

ولتشهد- الدنيا التي غَنَّيْتَها

حُلْمَ الشَّبابِ، وَرَوعة َ الإعجابِ

«أنَّ السَّلاَمَ حَقِيقة ٌ، مَكْذُوبة ٌ

والعَدْلَ فَلْسَفَة ُ اللّهيبِ الخابي»

«لا عَدْلَ، إلا إنْ تعَادَلَتِ القوَى

وتَصَادَمَ الإرهابُ بالإرهاب»

 

وتر الاستغراب أسئلة الشحرور ؛وأجاب الصوت الذي كان عذبا ,ورخيما ,بزمجرة كالرعد

وبتوهج كالبرق:

        لا عدل إلا أن تعادلت القوى                 وتصادم الإرهاب بالإرهاب

      أراك تستغرب ,كيف عرف الشابي بالإرهاب الذي يولد الإرهاب ؛وقد عاش في زمن

     لم تغادر فيه هذه الكلمة دفتي لسان العرب. أما زلت تصر على أنه شاعر؟

لا علينا ؛فكر معي من أين للبوعزيزي أن يزمجر كالرعد ؛ويتوهج كالبرق ؟ من أين له كل هذه القوة؟

يجيبك الشابي بمنطق  الثعبان – أو حتى بمنطق الزين وهو يقول :لقد ظللت – وهو منطق الظلم حينما يصبح ظلمات حتى في الدنيا:

 

«يا أيُّها الغِرُّ المثرثِرُ، إنَّني

أرثِي لثورة ِ جَهْلكَ الثلاّبِ»

والغِرُّ بعذره الحكيمُ إذا طغى

جهلُ الصَّبا في قلبه الوثّابِ

فاكبح عواطفكَ الجوامحَ، إنها

شَرَدَتْ بلُبِّكَ، واستمعْ لخطابي»

أنِّي إلهٌ، طاَلَما عَبَدَ الورى

ظلِّي، وخافوا لعنَتي وعقابي»

وتقدَّوموا لِي بالضحايا منهمُ

فَرحينَ، شأنَ العَابدِ الأوّابِ»

«وَسَعَادة ُ النَّفسِ التَّقيَّة أنّها

يوماً تكونُ ضحيَّة َ الأَربابِ»

«فتصيرُ في رُوح الألوهة بضعة ً،

قُدُسية ٌ، خلصت من الأَوشابِ

أفلا يسرُّكَ أن تكون ضحيَّتي

فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي»

وتكون عزماً في دمي، وتوهَّجاً

في ناظريَّ، وحدَّة ً في نابي

«وتذوبَ في رُوحِي التي لا تنتهي

وتصيرَ بَعََض ألوهتي وشبابي..؟

إني أردتُ لك الخلودَ، مؤلَّهاً

في روحي الباقي على الأحقابِ..

فَكِّرْ، لتدركَ ما أريدُ، وإنّه

أسمى من العيش القَصيرِ النَّابي»

 

أنا الجبار يابائع الخضر التافه ؛هل ترى لك حياة أفضل من جبروتي تذوب فيه ,وتسري فيه دما تمتصه منك أنيابي ؛ وحينما أشبع تقبل عليك " اللاة" بشفاه مكتنزة ,تخفي نابين أجوفين نهمين وحادين؟ هل لك من حياة أفضل من هذا المآل؟

أترى أيها الشحرور كيف أن منطقك فاسد.

يجيب البوعزيزي:

لا يا جميل الاسم والمظهر؛فاسد  الفعل والمخبر:

فأجابه الشحرورُ ، في غُصَ الرَّدى

والموتُ يخنقه: «إليكَ جوابي»:

لا رأي للحقِّ الضعيف، ولا صدّى ،

الرَّأيُ، رأيُ القاهر الغلاّبِ

«فافعلْ مشيئَتكَ التي قد شئتَها

وارحم جلالَكَ من سماع خطابي"

وكذاك تتَّخَذُ المَظَالمُ منطقاً

عذباً لتخفي سَوءَة َ الآرابِ


   " يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي ,وجعلته بينكم حراما ,فلا تظالموا"

حديث قدسي.

ها مصدر الرعد ؛ووهج البرق,ولظى النار .  

بدا على صاحبي أنه اقتنع بأن الشابي ,الذي يقود الجموع اليوم في شارع بورقيبة, وفي نفس الوقت يسهر على حسن وفادة واقامة البوعزيزي ,وحاشيته, لم يكن شاعرا .

طيب ؛وهل صاحبك تنبأ لتونس فقط؟

أجبت :

هب أنك حاكم عربي ,وتواجدت بتونس ,سائحا, يوم الياسمين ؛هل كانت  نفسك  ستتوق الى الوقوف في صف القابض على الزناد, أم في صف البوعزيزي؟

كل واحد يختار أين يضع نفسه ؛ ولا أرى من يرغب في أن يقف موقف الزين وهو يقول: لقد ظللت .

المصدر: شخصي
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 315 مشاهدة
نشرت فى 13 مارس 2011 بواسطة ramdane3

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

21,884