أميرات الخط العربي

رحاب وشيماء عبدالله

.. البداية

في حي القلعة الشهير بالقاهرة ولد سيد إبراهيم في (ربيع الأول 1315هـ=أغسطس 1897م)، وتفتحت عينه على الآثار الإسلامية التي يمتلئ بها الحي العريق، وتزخر بآيات الخط العربي جمالا وروعة، وتلقى تعليمه الأولي في أحد الكتاتيب التي كانت منتشرة آنذاك بأحياء القاهرة، وكانت عادة هذه الكتاتيب أن تعلم الصغار مبادئ القراءة والكتابة حتى يتمكنوا من قراءة القرآن وكتابته على ما كان يعرف بـ"الألواح"، وكانت من الأردواز أو الصفيح، وشاء الله أن يكون شيخ الكتاب الذي يتعلم فيه الطفل الصغير صاحب خط جميل ويشجع تلاميذه على الكتابة الجميلة. وقد لاحظ الشيخ جمال خط تلميذه الصغير فتعهده بالرعاية والتشجيع.

بعد الكتاب التحق سيد إبراهيم بالقسم النظامي بالأزهر الشريف الذي كان يرأسه الشيخ محمد شاكر والد المحدث الكبير أحمد شاكر والأديب العلامة محمود شاكر، وكان هذا القسم يعنى بتعليم الخط إلى جانب دراسة العلوم الشرعية واللغوية، فتقدم كثيرا في تعلم الخط، هذا إلى جانب أنه كان يمارس الكتابة حفرا على الرخام في محل لأخيه.

وشاءت الأقدار أن يمر الخطاط الشيخ مصطفى الغر الذي كان مدرسا بالأزهر، فرأى ما كان يكتبه سيد إبراهيم على الرخام، فأعجب به وتوقع له مستقبلا كبيرا في عالم الخط، وطلب منه أن يكف عن الحفر على الرخام، وأهداه مَشْق (نماذج) الخطاط التركي محمود جلال الدين، وتعهده بالنصيحة والتدريب.

.. الرحلة

بدأت رحلة سيد إبراهيم مع الخط من خلال البيئة الغنية بالآثار الإسلامية التي كان يعيش فيها، وكانت الخطوط التي تزين المساجد والمباني الأثرية في حي القلعة أول درس يتلقاه في فن الخط، وتأثر أيضا بصفة خاصة في بداية حياته الفنية بخط الثلث المكتوب على "سبيل أم عباس"، الذي أبدعه الخطاط التركي عبد الله بك زهدي، وكان الخديوي إسماعيل قد استقدمه إلى القاهرة، وعهد إليه بكتابة الخط على سبيل أم عباس بحي الصليبية بالقاهرة، وجامع الرفاعي بحي القلعة.

وكان خط عبد الله بك زهدي في غاية الروعة وحسن الذوق، واعتاد سيد إبراهيم أن يقف أمام خط زهدي بالساعات الطويلة مبهورا بجمال فنه، محاولا تقليده. كما تأثر بالخط الفارسي المكتوب على جدران مسجد محمد علي، وبخط محمد مؤنس الذي يعد مؤسس النهضة الكبيرة في فن الخط العربي بمصر.

.. مبدعا

طارت شهرة سيد إبراهيم مبكرا، وعرف الناس فنه المبهر، وقدروا موهبته حق قدرها، ونظر إليه على أنه واحد من أعظم المواهب التي ظهرت في فن الخط، وتسابقت إليه المعاهد العلمية والفنية ليقوم بتدريس فن الخط، فمارسه نحو 50 عاما في مدرسة تحسين الخطوط العربية بالقاهرة، وتخرجت على يديه أجيال متعاقبة من الطلاب المصريين والعرب والمسلمين والأجانب، كما درس الخط في كلية دار العلوم، وفي قسم الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية، وفي معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية.

إلا شهرته الكبرى جاءت عن طريق كتابته عناوين المجلات والصحف المصرية والعربية، مثل: الهلال والمصور والبلاغ والإخوان المسلمين، وكان يكتب لوحات ملونة لآيات القرآن الكريم توزع مع مجلة الإسلام، وكانت يومئذ أوسع المجلات الإسلامية انتشارا.

وكانت خطوطه الجميلة تزين صدور الكتب العربية. وسيد إبراهيم من أكثر الخطاطين الذين كتبوا عناوين الكتب لأقطاب رجال الأدب والفكر في مصر والعالم العربي، وقد نوه بخطه العلامة الكبير محمود شاكر في مقدمة تحقيقه لكتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام بقوله: "وأما خطاط أخي الأستاذ الشاعر سيد إبراهيم فقد وهب كتاب ابن سلام وفصوله ديباجة يترقرق فيها الجمال"، ووصفه الكاتب الكبير خالد محمد خالد في كتابه حياتي بأنه ملك الخط العربي غير منازع.

.. آثاره

اشترك سيد إبراهيم في كتابة خطوط قصر الأمير محمد علي المطل على النيل بحي المنيل بالقاهرة، وكان هذا الأمير صاحب ذوق جميل ومن محبي الفنون العربية، وبنى قصره الجميل على الطراز العربي، وحلاه بأجمل النقوش والزخارف الإسلامية. ولما أراد أن يزينه بالخطوط العربية استدعى الحاج أحمد الكامل بك رئيس الخطاطين بمدينة إستانبول للقيام بهذا الغرض، واختار معه سيد إبراهيم لإنجاز هذه المهمة، فاشترك مع الخطاط التركي في كتابة قاعدة السلاطين وبوابة القصر وبعض اللوحات الخطية، وكان سيد إبراهيم يعد اختياره مع الحاج أحمد الكامل للكتابة في القصر أعظم تكريم له في حياته.

وقد تعدت شهرته حدود مصر إلى غيرها من البلدان العربية والإسلامية، ففي إحدى زيارات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الهند زار مسجد جاما، وأعلن تبرعه بالسجاد للمسجد، لكن المسلمين هناك طلبوا أن تكون هدية مصر لهم هي خط سيد إبراهيم بدلا من سجاد المسجد، ويعد ما خطه في المسجد هو أعظم آثار هذا الفنان الكبير، وخاصة سورة الجمعة التي كتبها كاملة في صحن المسجد.

.. شاعرا

تمتع سيد إبراهيم بثقافة واسعة وحب للتراث العربي، فقد نشأ في رحاب الأزهر واحتضنه أستاذه الشيخ كمال الدين القاوقجي حين وقف على ميوله الأدبية فشجعه على دراسة اللغة وحفظ عيون الشعر، ودله على أمهات كتب التراث العربي، ونمى موهبته الشعرية.

وبالإضافة إلى ذلك حضر سيد إبراهيم دروس الأدب للشيخ المرصفي بالجامع الأزهر، وندوات شيخ العروبة أحمد زكي باشا، صاحب الأيادي البيضاء في حفظ التراث العربي ونشره، وهو يعد رائد فن التحقيق في العالم العربي، وأول من أدخل علامات الترقيم إلى اللغة العربية.

وأغرم سيد إبراهيم بشعر المتنبي وأبي العلاء المعري، وكاد يحفظ شعرهما كله، وقد أشار إلى ذلك خالد محمد خالد فوصفه بأنه "الوصي على التراث الشعري لأبي العلاء المعري؛ فهو يحفظ شعره كله، ويجيد الاستشهاد به في لمحات مشرقة".

شارك سيد إبراهيم في الحياة الثقافية بتأسيس رابطة الأدب الحديث وجماعة أبوللو، وتحتفظ مجلة أبوللو بقصائد شعرية رقيقة لسيد إبراهيم، ومنها قصيدة عن هيكل عظمي وجده عند الدكتور أحمد زكي أبو شادي فناجاه بقوله:

أخي أبصرت بالأمس ** صديقا لأبي شادي

فهيج كامن النفس **  وذكّرني بأجدادي

وذكرني بما ألقاه  ** بعد الموت من تلف

وزهّدني بما في العيش  **  من مجد ومن ترف

صديقا كان قبل اليوم  **  معدودا من الإنس

وآض لهيكل يحفظ ** للأبحاث والدرس

تساوت عنده الساعا  ** ت والأيام والحقب

أللأعراب أم للهند  **  أم للفرس ينتسب

.. آراء

وقد أورثته هذه الثقافة نظرات دقيقة في الخط العربي، فكان شديد الحرص على القواعد التقليدية له، ولم يجوز في التركيبات الخطية خاصة في كتابة آيات القرآن الكريم أن يطغي عامل الجمال على ترتيب قراءة الآية، وكان يرى أن الخطاط العظيم لا بد أن يكون مثقفا ملما بقواعد اللغة العربية وتراث الأمة الإسلامية عالما بأئمة هذا الفن، ودعا الخطاطين إلى كثرة التأمل والاطلاع على النماذج الخطية الجميلة؛ لأن الخط لا يكتسب بمداومة الكتابة فقط بل بالتأمل في إنتاج الآخرين.

وكان يرى أن اللوحات التي تتخذ من الحروف العربية أساسا لتشكيلها ليست من فن الخط في شيء، وأنها بعيدة الصلة عنه، وهي لا تتعدى كونها إبداعات لا تتخطى نطاق فن الرسم، واعتبر أن الخط المستحدث لا علاقة بفن الخط، وإنما يلجأ إليه العاجزون عن كتابه الخط العربي وفق قواعده الصحيحة.

.. النهاية

عاش سيد إبراهيم حياته موضع تقدير الناس والدولة، فكان عضوا في لجنة تيسير الكتابة العربية في الأربعينيات، وعضوا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وفي المجلس الأعلى للفنون والثقافة.

وظل موضع تقدير من محبيه وتلاميذه حتى توفي عن عمر يناهز السادسة والتسعين في (28 من رجب 1414هـ=21 من يناير 1994م) وبعد وفاته قام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بتسمية المسابقة العالمية الخامسة للخط العربي بإستانبول باسمه، وهي التي تقام لتخليد أسماء عظماء فن الخط في التاريخ. 

المصدر: منتدي الإبداع
princesslines

shaymaandrehababdallah

  • Currently 410/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
98 تصويتات / 1348 مشاهدة
نشرت فى 14 مارس 2010 بواسطة princesslines

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,423,473