الذكاء الانفعالي طريق للقيادة الناجحة
كان كتاب جولمان نتاج دؤوب لدراسات وأبحاث متخصصة، حيث أوضح من البداية أن التكنولوجيا الجديثة لتصوير المخ سمحت برؤية المجحموعة المعقدة من الخلايا فى الأثناء التي تشعر أو تتخيل أو تحلم فيها، مما يجعلنا نفهم أكثر من أى وقت مضى كيف تحركنا مراكز المخ الخاصة بالعاطفة، فتشعر بالغضب أو تبكي أو .....
وهو يرى أن الوقت قد تأخر كثيراً لوضع العواطف فى مكانها الملائم فى العلم السيكولوجي.
الذكاء أنواع
وقد كرر جولمان - ما فعله بالعاطفة- فى دراسته لمفهوم الذكاء؛ فحرره من نطاقه الضيق كمعطى وراثي ثابت لا يتغير مع الخبرات الحياتية، وكان السؤال "لماذا أحياناً يتعثر فى الحياة من يتمتعون بمعامل ذكاء مرتفع ؛ بينما ينجح آخرون من اصحاب الذكاء المتواضع.
نجاحاً غير متوقع
فى حالات كثيرة نلمس الإجابة بأنفسنا؛ فتكون تلك القدرات التى أطلق عليها جولمان "الذكاء العاطفي" والتى قد تتمثل فى ضبط النفس ، الحماس ، المثابرة ، القدرة على تحفيز النفس ، ويرى فيها أموراً يمكن تعليمها لأطفالنا؛ حتى نضمن لهم فرصاً أفضل من إمكاناهم النفسية بالمعنى الجينيى (الوراثي).
تحية اليوم "دعني وشأني"
لقد حاول جولمان فى كتابه أن يتمثل دور سائق الشاحنة الذى وصفه فى مقدمته بأنه أطلق فيروس المشاعر الطيبة بتعليقاته المبهجة ومداومة الابتسام وسط الركاب، المتجهمين فى مساء شديد الرطوبة ، وتلك كانت بداية ليؤكد لنا أن المشاعر والعواطف تلعب دوراً شديد الواقعية فى حياتنا.
أراد جولمان أن يجعل من كتابه تميمة ضد العنف ، أو ما فضل تسميته "بالانحراف العاطفي" والذى لمسه من خلال التقارير المنذرة بالخطر، والتى تتوالي فيها موجات العنف المتفجرة فى المجتمع الغربي على وجه الخصوص ؛ استخدام المراهقين الأسلحة النارية فى المدارس ، حوادث "الطرق الحرة" التى تنتهي بتبادل إطلاق الأعيرة النارية ، الموظفون المفصولين الذين يقتلون زملاءهم السابقين ، وربما تراه مبالغاً حينما أكد أن الاعتداء بالعواطف والمشاعر فى التنظير والتطبيق يمثل طوق النجاة الذي يواجه به تحلل البنى الاجتماعية ، وانتشار العنف الذى حول التحية من "نهارك سعيد" إلى "دعني وشأني".
القلب يفكر
"جاري وماري تشونسي هما زوجان كرسا حياتهما لابنتهما المقعدة ، كانت الأسرة تركب قطاراً سط فى النهر بعد أن هوى على جسر مهترئ ، وأول ما فكر فيه الزوجان : هو كيف يمكن أن ينقذا ابنتهما ؟؛ ومن ثم بذل كل منهما أقصى جهده بينما تندفع المياه داخل القطار الغارق، ونجحا فى النهاية فى دفعها من أحدى النوافذ ليتلقاها رجال الإنقاذ وبعدها يختفي الوالدان تحت المياه مع عربة القطار الغارقة؟؛.
هكذا يدخل بك الكاتب إلى التفاصيل العلمية فى عالم العواطف عبر سرد العديد من القصص الإنسنية التى تشرح فكرته عن "المخ الانفعالي" وليبرز مايريده من أن العواطف ترشدنا أحياناً فى مواجهة الأخطار والمآزق ، وأن كل عاطفة تكون على استعداد للقيام بعمل ما . وقد يسوق لذلك قصصاً أو مشاهد اعتدنا السماع عنها ؛ لكنها يعرضها فى إطار التعديل من إدراكنا لدور العاطفة.
ففي رؤسنا عقلان "العاطفي والمنطقي" وبينهما تنسيق رائع؛ إذ المشاعر ضرورية للتفكير ، والتفكير ضروري للمشاعر.
مرشح القرن الحالي
لقد طال انتظارك لأن تعرف لماذا يعني جولمان حقاً بالذكاء العاطفي؟؛ وهو بدأ يرسم ملامح لطبيعته، فيصفه بأنه يشمل القدرة على أن تتميز وتستجيب استجابة ملائمة للحالات النفسية والمزاجية والميول والرغبات الخاصة بالآخرين. إن ثقافتنا وصلت بنا إلى قصر القدرة على الذكاء الأكاديمي متجاهلة الذكاء العاطفي المرشح بقوة للتعامل فى القرن الحالي مع عالم ملئ بالاضطرابات والتقلبات، فالعجز عن امتلاك قدرات مثل التحكم فى النفس والتعاطف يلقي بنا فى غيابات العنف الاجتماعي، وتكرار النكسات بين الناس.
التعاطف بداية المناصرة
ومن أكثر ما أستوقفني فى هذا الكتاب ، هو وصف جولمان للتقمص الانفعالي كجذور للإيثار، ربما لأن للاصطلاح أصوله فى ثقافتنا ، فهو يرى أن تمتلك لمواقف الآخرين يجعلك نصيراً محتملاً لهم؛ حيث تكون على استعداد للتحرك للمساعدة ، وهو بالتالي يقف وراء الكثير من الأفعال والأحكام الأخلاقية ومن أمثلته "الغضب العاطفي" الذى أطلق عليه الكاتب الإنجليزي جون ستيورت ميل "حارس العدل" فهو ما يحول التعاطف مع الآخرين إلى فعل أخلاقي، وبودن ضمان هذا التعاطف ؛ فقد تهددنا أمراض الانحراف الاجتماعي.
الإشارات العاطفية.. سلعة اجتماعية
هناك أشخاص تشعر فى صحبتهم أنك بخير ، ربما تكون قد قابلت أحد هؤلاء ، وقد تكون واحداً منهم ، على كل حال يقول جولمان: إن مثل هؤلاء هم القادرون على مساعدة الآخرين ، فنحننرسل إشارات عاطفية للمحيطين بنا تؤثر فيهم، وبقدر ما يكون لدينا ذكاء اجتماعي ، بقدر ما تكون قدرتنا أفضل فيما نرسله ؛ فالذكاء العاطفي يمثل إدارة تبادل هذه الإشارات.
وتعبير هذا الإنسان محبوب وجذاب نستخدمه حين ،صف أشخاصاً نشعر أننا بخير فى صحبتهم ، وهؤلاء يملكون سلعة اجتماعية ذات قيمة خاصة كما عبر جولمان، وقد تتعدى تلك القدرات لديهم إلى ما يعرف بالذكاء الاجتماعي الذي يتطلب قدرة على تنظيم المجموعات، والحلول التفاوضية ، وإقامة العلاقات الشخصية بما يستدعي من تعاطف وتواصل، وكذلك التحليل الاجتماعي الذي يعني القدره على اكتشاف مشاعر واهتمامات الآخرين ببصيرة نافذة.
وإذا اجتمعت هذه المهارات معاً، فهى المكونات الضرورية للنجاح الاجتماعي؛ بلا الكاريزما، وأصحابها القادة الطبيعيون الذين يمكنهم التعبير عن أحاسيس الجماعة الصمتة بقسادة نحو هدفها.
رياضة الجودو العاطفية
إذا كان اختبار المهارة الاجتماعية هو القدرة عل تهدئة انفعالات الآخرين فى محنة أصابتهم ، فإن التعامل مع من يكون فى ذروة غضبه يعتبر أعلى مقياس لقدرة الإنسان وبراعته فى السيطرة والتحكم، ومن الاستراتيجيات الفاعلة للتعامل مع من يكون فى هذه الحالة المزاجية السعي بصرف الغضب عن موضوع غضبه، والتعاطف مع مشاعره وأحاسيسه، ثم جذبه إلى مركز اهتمام بديل بمجموعة من المشاعر الإيجابية، وهذه القدرة إنما هى ما نطلق عليها "رياضة الجودو الانفعالية".
مركز صيانة العلاقات
أراد جولمان أن تلعب نظريته فى الذكاء العاطفي دوراً على مسرح العلاقات الزوجية فى عرضه لصيانة العلاقات الأكثر أهمية ، وقد استعان أولاً بتحديد فكرة اختلاف البيئة الشعورية للرجل والمرأة منذ سن الطفولة الأولى، وتعامل بتكتيك هادئ مع ذلك الاختلاف بوصفه حالة كل طرف أثناء الخلاف وردود أفعاله المختلفة، وكان من أهم نصائحه هو عدم انتقاد الطرف الآخر فى شخصه؛ بل تحديد الفعل الذي أنشأ الخلاف وانتقاده وكذلك تمثل موقف الآخر فيما يعرف بالـ Mirroring أو الانعكاس، وهو أن يحاول كل طرف تكرار ما يقوله الطرف الآخر، حتى يعي حقيقة موقفه.
ثم كان انتقال جولمان من الزواج إلى العمل داخل المؤسسات ، ودور الذكاء الجمعي لها، وتداول النقد بين أفرادها الذي ينصح من يقوم به أن يكون: محدداً، يقدم حلاً، حاضراً، حساساً.
تسمم خبرة الطفولة
حدث أن وقف "باتريك بيردي" التلميذ بإحدى المدارس فى كالبفورنيا عند طرف الملعب فى أثناء فسحة العصر، وأطلق موجة من النيران برصاصات مدفع عيار 7.22مم على مئات الاطفال، وظل يطلق رصاصاته لمدة سبع دقائق، ثم صوب مسدسه إلى رأسه وقتل نفسه.
طوال رحلتنا عبر فصول الكتاب كان جولمان دائم الاستشهاد بحوادث العنف إلا إنه رسم فى القسم الأخير من كتابه صورة شديدة القتامة للواقع الاجتماعي الحالي، فى المجتمع الغربي على وجه الخصوص وكان أقسى ما فيه أن تطول شراسة علام الكبار وصراعاته عالم الأطفال ، وأن تتلون السنوات الأولى من عمر الإنسان التي تصفو فيها رؤيته ، وتتخلق فيها مشاعره وملكاته عالم تحكمه مقاييس مختلفة ، وربما كانت ظاهرة إطلاق النار فى المدارس الأمريكية هى جرس الإنذار الحقيقي الذي دفعه لكتابة هذا الجزء؛ بل وليتبنى تلك النظرية "الذكاء العاطفي" لضبط الانحراف الاجتماعي، ورغم أنه ركز فى أغلب الإحصائيات والوقائع التي ذكرها على الولايات المتحدة والدول الأوربية واليابان فى أحسن الأحوال ، فإنه عاد لينبه بأن الظاهرة كونية.
مجرد سؤال
ظل جولمان حريصاً على أن تقديم العاطفة كمنهج ، يمكن تعليمه للصغار فى مواجهة العنف والتفكك، وكان عرضه لنماذج واقعية تعرف بمدارس "محو الأمية العاطفية" مدعماً لهذا الحرص ، كما كان سؤاله حول أسباب اكتئاب الأطفال التى أشارت الإحصائيات أنها أصبحت ظاهرة تعم أغلب أنحاء العالم موحياً بحقيقة الأزمة المجتمعية التي نحياها، وكذلك الإجابات تدور حول :
تآكل نواة الأسرة- تضاعف معدلات الطلاق- انخفاض الأوقات التي يقضيها الأطفال مع آبائهم.
وربما شغلت إجابة مارتن سليجمان- العالم السيكولوجي بجامعة بنسلفانيا- مساحة أشمل عن الأزمة بصفة عامة حين قال: "إن الفردية تصاعدت فى الثلاثين سنة أو الأربعين سنة الماضية، وقل الاهتمام بالعقائد الدينية، وبتضامن المجتمع والأسر الكبيرة، ومعن ذلك كله فقدان مصادر الوقاية من النكسات والفشل، وذلك يجعلك إذا فشلت فى أي شئ ، تضخم فشلك دائما؛ فتفسد عليك حياتك؛ فإذا بالإحباط اللحظي يتحول إلى مصدر دائم لفقدان الأمل، أما إذا كنت تتمتع بمنظور أكبر مثل: الإيمان بالله، والحياة الآخرة، وقد فقدت وظيفتك، فسوف تشعر بأن الإحباط ماهو إلى إحباط مؤقت".
هل ترى الآن أهمية الذكاء العاطفي فى مواجهة الواقع الاجتماعي المختلف........
ساحة النقاش