رواية " مجلس القمري"
بكائية عن الاغتراب فى الوطن
بقلم : مصطفى كامل سعد .
وسط فيض من الروايات المتوائمة والكتابات المستأنسة الحافلة بتجارب شخصية باهتة والزاعقة بحداثة فارغة. تبزغ موهبة روائية أصيلة تحمل فى ثناياها البشارة والنبوءة بالآتى والمرتقب. هذه الموهبة الجديدة هى رواية (مجلس القمري) للأديب محمد عبدالحكم حسن.
هذه الرواية فكرتها تدور حول رحلة الإنسان المصرى عموما والصعيدى على نحو خاص: كدحه واغترابه من أجل الرزق وانتهاكه على الصعيدين الداخلى والخارجي، وقد سُدت فى وجهه سبل الكسب الشريف. وتنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
طرح النهر، حديث الصوامع الفارغة، الهروب شرقا.
حيث يقدم (محمد عبدالحكم حسن) مرثية حزينة وغاضبة النبرة من خلال وضعية الإنسان المصرى ذى التاريخ المجيد، ومتتبعا مسيرته وجذوره منذ عصر إخناتون وحتى الوقت الراهن فى بحثه عن الرزق والأمل. موضحا ومسلطا الضوء على مراكز التحكم والقوى الغالبة الشريرة (أتراك، مماليك، إقطاعيين، ولاة ظالمين) من جانب، والأغلبية الكادحة البائسة المهانة، والمستلبة من جانب آخر.
وتحوى الرواية مجموعة من اللوحات المتتالية المتعاقبة والموصوفة بدقة وزخم شديدين للحياة فى صعيد مصر، قلّما رسمها كاتب من قبل فى لغتها وحكاياتها المتراصة وأحداثها، وفى تشخيصها للداء: الجوع/ الفقر/ القهر/ الإحباط. ومكان أحداث الرواية هو منطقة المنيا، وما يحيط بها من امتدادات مثل: منية بنى خصيب، طهنا، تونة الجبل، الجبل الشرقي، بحر يوسف.. الخ. وروايات الكاتب سواء "بستان أبى الهوي" أو روايتنا هذى هى من نوع روايات الشخصية وفيها يكون التركيز على الشخصية الرئيسية التى يتم عرض كل شيء من خلالها أو عبرها، والراوى يختار شخصياته من ذوى الفقر المدقع وهم فى أغلبهم يعيشون فى صراع دائم مع محيطهم الاجتماعي، وكاتبنا يبرز مظاهر الظلم الاجتماعي، وأشكال الفقر والجهل والعنف والتخلف.
زمن الرواية:
يمتد من العصر الفرعونى حتى الوقت الحاضر زمن الراوى أما زمن الشخصيات فهو الزمن النفسي.
تبدأ الرواية من المشهد الختامى حين عاد "القمري" الشخصية الرئيسية من رحلته الخارجية من ليبيا مهزوما صامتا، يلوذ بوحدته بعد أن مُنى بالخيبة.
ورغم أن الخطاب الروائى موجه للقمرى من قبل صديقه فى كثير من الأحداث إلا أن الحديث لا يكون بشكل مباشر، وإنما عبر التذكر والتداعى والاسترجاع، وتجسيد الأحداث فى الحاضر رغم حدوثها فى الماضي، والمنولوجات الطويلة وحديث النفس.. الخ.
والقمرى هو سليل الجد المتمرد الذى رفض الانصياع للجبار "الجابري" ومثلما رفض جده انتهاك المقابر الفرعونية، وبقى ينتظر اللعنة، فالقمرى مثله يترقب الغضب ويلوذ بالدين والعزلة بعد أن سُلبت أرضه وسُدت منافذ رزقه.
السرد الروائي:
والسرد فى هذه الرواية يتصف ببعض الخصائص منها:
طول الجمل وهذا من شأنه أن يكون مرهقا فى القراءة بعض الشيء، وكثافة السرد وقوة زخمه، وهذا يضعنا فى قلب تلك الرحلة الحزينة فنشعر بأننا مغمورون داخل أحداثها، ومع أشخاصها نتعاطف معهم، ونقاسمهم أحزانهم ومصائرهم.
وعبدالحكم حسن يمتلك المقدرة التصويرية على السرد الروائى والوصف الجميل والدقيق والممتع للطبيعة فى صعيد مصر بناسها وأشجارها وطقسها وقسوتها وجهامتها وما تحويه وتضمره من جمال.. سرده ثرى يتحلى بالوفرة والكثافة والعمق والإحاطة والانسيابية وفى مقاطع قليلة لا يخلو من شاعرية السرد والغنائية فى أحيان أخري. إننا أمام رسام بارع ومقتدر يفيض فنه بالحيوية والصدق والجمال.
الكاتب وأدواته:
ولأن الكاتب روائى فعلا وقولا، فالخيال الفنى عنده يتمم الواقع ويصبح كلاهما متناسبا مع الآخر ومؤتلفا معه. يفيض بالحياة والإقناع الجمالى والفني، وهو يطعم أسلوبه وسرده بالأمثال العامية والشعر الصوفى والمواويل الشعبية والتعبيرات الدينية ويتخلل عالمه الخرافات والعالم الشبه سحري.
ورواية (مجلس القمري) فى عبارة واحدة هى انتهاك الإنسان المصرى سواء بنهب مقابر الأسلاف الفراعنة أو اغتصاب أبناء العمومة لأرض الجابرى الكبير ثم تجبّر حفيده على القمرى وصحبه ومقتل صديق "القمري" بالصحراء الليبية إثر احتيال رجل العمل الليبى عليهم ثم عودة القمرى مخيبا محبطا مفلسا إثر تعرضه للخديعة. وتمتلئ الرواية بحكايات الثأر والأرض والهجرة والاغتراب والقتل والغدر. إنها بيئة طاردة يصنعها ويرفدها النيل بالحياة وفى هذا الجو نجد الحضور القوى للنهر.. للموت.. للحكايات المتأثرة بأشكال الحكى الشعبي. ومحمد عبدالحكم حسن يولى الأجواء والمواقف ونوعا ما الشخصيات أهمية على حساب الحبكة ورغم ذلك استطاع أن يضفر الماضى والحاضر فى جديلة واحدة وأن يقدم رؤية قوية ومتماسكة فنيا لرحلة الإنسان المصرى فى إبائه وتمرده وسعيه لتحقيق العيش الحر الكريم. إننا أمام روائى متمكن ومتبصر قادر على تشكيل رؤاه فى نسيج فنى جميل ومحكم.
* مصدر : جريدة " العربي " ..
<!-- / message -->http://www.asmarna.net/al_moltqa/showthread.php?t=20265