كنت أعلم ـ واقعاً ـ أن الإنسان بتقدم العمر، يهن العظم منه . وتلك سنن كونية لا تتبدل ولا تتغير . يصل الإنسان إلي حالة الوهن مبكراً قليلاً ، أو متأخراً قليلاً . ولكنه حتماً مدفوعاً إلي النهاية . ولولا الأمل في البقاء ، ومجهولية الموعد والمكان ، لكان للبشرية شأن آخر .
تعبت قليلاً ، تعباً ـ مع تقدم العمرـ أقعدني . انتاب القلق الجميع ، العيال وأم العيال . ويبدو أن القلق من المرض مع الشيخوخة ، يكون أشد ، للعلاقة الجدلية بين الشيخوخة والمرض والموت . لقد قرأت القلق علي وجوههم ، واستنتجته من تصرفاتهم ، التي لا تخلو من التوتر ، والحيرة ، والإرتباك . اجتمع الرأي ـ فيما بينهم ـ علي طلب الإسعاف ، وإدخالي إلي المستشفي ، أشرت إلي أم العيال ، ففهمت أني استدعيها ، فأمسكت بعكازها ، وجعلت تدفع بجسدها بهمة ناحيتي ، حتي اقتربت مني ، فأشرت إليها بالإقتراب أكثر ، فوضعت أذنها بالقرب من شفتي ، فهمست لها :
ـ فيما اجتماعكم ؟.
قالت :
ـ العيال قرروا الذهاب بك إلي المستشفي .
قلت :
ـ ألهذه الدرجة ؟
قالت بصوت مطمئن واثق :
ـ من باب الإطمئنان .
قلت ضاحكاً :
ـ آلباقي من عمري يستحق ما ينفق عليه ؟ .
أشاحت بوجهها غاضبة :
ـ حسك في الدنيا ، يا ابو العيال .
فزادت ضحكتني ، وهي تضربني في صدري مستطردة :
ـ يجعل يومي قبل يومك .
فأمسكت عن الضحك ، قائلاً بجدية :
ـ بعد الشر عنك يا أم العيال .
فقالت معاتبة :
ـ أتتركني في الدنيا وحدي ؟ .
هجم العيال وزوجاتهم وأبناءهم علي . وأحاطوا بالسرير إحاطة السوار بالمعصم ، فقلت مرحباً :
ــ أهلاً . أهلاً . أهلاً .
تداخلت الأصوات ، وهم يرددون :
ـ سلامتك يا بابا . سلامتك يا جدي .
ما قطع الحديث سوي صوت سيارة الإسعاف ، وهو يقترب سريعاً ، ثم يتوقف بالقرب من باب الفيلا علي نحو مفاجيء . ويتم إخلاء المكان من حولي ، ويدخل المسعفون . يرفعونني بهدوء وروية من سريري إلي سرير طبي متحرك . وأم العيال ممسكة بيدي . وفي الممر المؤدي إلي الباب الخارجي ، طلبت التوقف ، وملت بجذعي ، وألقيت نظرة خاطفة علي الفيلا ، والأحفاد ، وزوجات الأولاد ، والأشجار ، وحمام السباحة . ثم أشرت بيدي ، لا أدري إن كنت محيياً أم مودعاً . ركبت أم العيال معي في سيارة الإسعاف ، وركب العيال سياراتهم . وانطلقت السيارات مسرعة .
لا أدري كم مر من الوقت ، وأنا أرقد داخل سيارة الإسعاف ، وهي تمخر عباب الطريق وسط الزحام ، وقد جري توصيل جسدي بالأجهزة ، ووضعوا علي أنفي وفمي كمامة جهاز التنفس الصناعي . ويدي أم العيال تمسك بيدي ، تدلكها ، وعيناها لم تغادر عيني . أشعر بدفء أصابعها ، يسري في جسدي ، فتنبعث فيه الحياة . تبتسم عيناي لعينيها الدامعتين بلا دموع .
وجدتني نائما علي سرير طبي ، بعد الفحص والتحاليل والأشعات ، وكوكبة من الأطباء يلتفون من حولي ، يتناقشون همساً ، وباللغة الإنجليزية ، فلم أفهم منهم شيئاً . ما زالت الأجهزة ملتصقة بجسدي ، وعيناي تتابعان المشهد . أشار أحدهم إلي أم العيال ، ليسرها أمراً ، فأرهفت السمع ، وصوته كان هامساً ، إلا أنه مسموع . قال لها :
ـ الحالة ضعف عام في جميع الأجهزة .
ردت بانفعال :
ـ فليعالج هذا الضعف ، علي أي نحو .
قال بهدوء :
ـ ليس مرضاً . وهناك اشتباه في وجود سرطان .
وجدتها قد سكتت ، واستطرد هو قائلاً :
ـ جسده لا يحتمل جرعات الكيماوي لو كان هناك سرطاناً .
نزعت الكمامة ، ونزعت الأجهزة الملتصقة بجسدي ، ونهضت بجزعي ، وتحدثت إليهم قائلاً :
ـ هذا ما وصل إليه علمكم .
ففزعوا ، والتفوا حولي يهدئون من انفعالي ، فصرخت فيهم :
ـ أما علمي أنا ، أن إرادة الحياة تهزم المرض ، أما الموت فهو أجل لا يحتاج حلوله إلي أمراضكم ، ولا يتعلق بمشيئتي ، ولا بمشيئتكم ، وإنما يتعلق بالمشيئة العليا التي لا يشذ عن مرادها أمراً من أمور الكون .
تفاجأوا من كلامي ، كما تفاجأت أم العيال ، وقرروا استكمال رحلة العلاج .
نشرت فى 24 سبتمبر 2016
بواسطة nsmat