ثمّة ما يشبه الإجماع على أن كارثية لحظة يونيو/ حزيران 2013 أشدّ وأقسى من لحظة يونيو/ حزيران 1967، ذلك أن الثانية، على الرغم من الهزيمة العسكرية المذلة، لم تقدّم للكيان الصهيوني، ربع ما حصلت عليه، بعد نكبة صيف 2013 في مصر، ويكفي أنه، عقب النكسة، قبل نحو نصف قرن، لم تقهر إرادة المصريين والعرب في النهوض واستئناف المقاومة، والتهيؤ للحرب، فيما بعد ثلاث سنوات من نكبة السيسي، وصلنا إلى مرحلةٍ يعلن فيها معلقٌ صهيوني (آري شافيت) أن زعيم الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، "يعشق" رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، "بكل ما للكلمة من معنى"، وهو المعلق نفسه الذي كتب بعد الانقلاب مباشرة "كلنا مع السيسي، كلنا مع الانقلاب العسكري، كلنا مع الجنرالات حليقي اللحى الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة، ونحن نؤيد حقهم في إنهاء حكم زعيم منتخب وملتح".نكسة 1967 لم تحوّل مصر إلى عالة على المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي، ولم تخرجها من المعادلات الإقليمية والدولية، ولم تقسم المصريين إلى بشر أسوياء ووحوش مسعورة لا تشبع من القبح والرداءة.بعد نكسة 1967، وصلت إسرائيل إلى السويس والجولان، وبعد نكبة 2013 صارت إسرائيل في الدقهلية والمنوفية والقاهرة الجديدة، وقصر الاتحادية.
*** يولد الطفل في البيت الناصري، فيحفّظه والداه أن أمن مصر يبدأ من أفريقيا وينتهي عندها، وأن "الزعيم" عبد الناصر قطع الطريق على الصهاينة، كي لا يعبثوا بالقارة السمراء.. هنا، من المهم أن يوضع السؤال أمام أشاوس الناصرية، الذين تحوّلوا إلى مهرجين في سيرك عبد الفتاح السيسي: ما رأيكم، دام انبطاحكم، في عربدة رئيس وزراء العدو في عمق مصر الحضاري، برعاية جنرالكم البائس؟
يحلو للناصريين والقوميين أن يقولوا إن أنور السادات أضاع أفريقيا من مصر، حين قفز في قطار كامب ديفيد، فماذا يقولون، الآن، مع راسب معهد فنون مسرحية، يرتدي زي الجنرالات، ويمارس سطواً مسلحاً على السلطة في مصر، وقد سلم مفاتيح أفريقيا لإسرائيل، بل وسبقها إلى هناك، لتنظيفها وتهويتها وتغيير فرشها، في استخذاء مذل؟
*** هي "أحلى الأوقات" بين السيسي وإسرائيل، أو بتعبير السفير الصهيوني في القاهرة لوكالة أسوشييتد برس الأميركية: "هذا من أفضل أوقات التعاون بين مصر وإسرائيل.. هناك تعاون جيد بين الجيشين، ولدينا تفاهمات حول سيناء".
ليس بالنسبة لإسرائيل فقط، وإنما لكل من له غرض من مصر، إذ يدرك الجميع أنهم بصدد لحظةٍ يستطيعون الحصول فيها على ما يشاؤون من نظامٍ على رأسه ألف بطحة وبطحة، مهيأ، طوال الوقت، للتنازل والتخلي والتفريط عن أي شيء، لقاء اعترافٍ بشرعيته، والتغاضي عن جرائمه ضد الإنسانية.. نظام يبيع الجزر ويقتل البشر ويجفّف النيل ويدمر سيناء ويعادي النوبة ويعيش خارج القانون الدولي، من السهل جداً استخدامه بأقل سعر.
منذ البداية، تأسّس مشروع "السيسي 30 يونية" على عقيدة الابتزاز، ومبدأ تحويل مجرى العداء من الكيان المحتل إلى من يقاومونه أو يدعمون مقاومته.
في الشق الأول، جاء المستثمرون من كل مكان، للتربّح من أكبر سوق للابتزاز عرفها التاريخ، حكومات وأحزاب ورجال أعمال وأفراد فهموا من أين تؤكل الكتف، فلكل شيء ثمن، حتى التخارج من هذه "المؤسسة" بداعي الاستفاقة والندم، بات مدفوعاً.
وفي الثاني، حظيت إسرائيل بمكانة الحليف والصديق والشريك، ووضع الإخوان وحماس وقطر وتركيا في قائمة الأعداء، غير أن كل شيء عند نظام السيسي يتغيّر ويتبدّل ويتحول، باستثناء الارتباط الاستراتيجي مع "إسرائيل" الذي يبقى الثابت الوحيد، لنظامٍ عابث، يلهو بحدودها المائية والبرية، كلما لاحت أمامه فرصةٌ لتثبيت دعائمه فوق أنقاض التاريخ والهوية.
السؤال الآن لجمهور "بقالة 30 يونية" في الداخل: صفّقتم للقتل والظلم والهمجية، بحجة الحفاظ على الدولة وهويتها، ما قولكم الآن في من استلمها مستقرّة الحدود، فغير خرائطها البرية والجغرافية في غضون ثلاثة أعوام؟!
*** طالع صحف السيسي تعليقا على الزيارة المشؤومة، فتجد نفسك وقد عدت إلى مقعدك أمام التلفاز في فترة تسعينيات حسني مبارك، متابعا صياح ديوك النظام ضد وزير خارجية، مثلا، غضباً من ذهابه أشواطا بعيدة في طريق التطبيع، أو صراخاً ضد وزير مالية، مثلاً، استياء من فساده، وذلك عملاً بنظرية "انشب مخالبك في الجميع وأنت آمن، شريطة عدة الاقتراب من لحم الزعيم"، وهي النظرية التي تطورت لاحقاً إلى "النظام فاسد لكن الرئيس جميل"، وهي اختراعات من إبداع دولة حسني مبارك، تقوم على تكنولوجيا "المسؤول الإسفنجة"، أو "الوزير الصدّادة" الذي يمارس الرئيس من خلاله كل الخطايا والجرائم المثيرة للغضب والقرف، فتنصب اللعنات واللكمات والركلات على الوزير، فيما ينعم الزعيم بوضعية المشتكى إليه، أو طوق الإنقاذ، والملجأ والملاذ.
*** علم عمال ماكينة السيسي الإعلامية، قبل غيرهم، أن وزير خارجيته ذهب إلى الكيان الصهيوني، بناءً على استدعاء من بنيامين نتنياهو، أملاه على السيسي مباشرة، ويعلمون أيضاً أن قائدهم الهصور لم يترك مناسبةً تمر من دون أن يغازل إسرائيل، ويتسوّل رضاها عن أدائه، ولعلهم شاهدوه يلف خطبته في محافظة أسيوط بألوان العلم الصهيوني، ويخاطب جمهور الاحتلال بكلّ التزلف والانبطاح. ولعلهم يتذكرون أنّ "الغضنفر" بالنسبة لهم هو الدجاجة التي تبيض ذهبًا لإسرائيل، وأنّ سامح شكري ذهب إلى هناك مرسال غرام مقيم، وعامل "ديليفري" يقوم بتوصيل طلبات التطبيع إلى المنازل، حتى وإن صادف أنّ المرسل إليه قدّم له وجبة عشاء، واستبقاه لمشاهدة مباراةٍ مهمةٍ في كرة القدم، على قنوات تلفزيونية مشفرة.
*** لا يزال عبد الفتاح السيسي على إصراره على احتكار لقب "مطرب الأغنية اليتيمة". ليس ثمة شيء عنده سوى الغناء المزعج، عند إشارة مرور يتقاطع فيها موضوعان وحيدان: الحرب على الإرهاب، وعملية السلام (الإسرائيلي)، حيث يفترش هذه المساحة، كلما تعقدت معه الأمور. وقد علمتنا الأيام أن عقيرة السيسي لا ترتفع بغناء الألحان الإسرائيلية الأميركية، إلا إذا كان مأزوماً في الداخل والخارج، إذ يتحدّث بينما الدولار يواصل انتهاك الجنيه المصري، معلنا ملامسة سقف الاثني عشر جنيهاً للمرة الأولى. وفي الخارج، يبدو عارياً من أي غطاء، بعد أن ضبط نظامه متلبسا في الدعم المطلق لمحاولة الانقلاب التركية، فضلاً عن أن أياماً تفصله عن الذكرى الأولى لأكبر عملية "نصب قومي" تمت على المصريين في العصر الحديث، وهي تفريعة قناة السويس التي جرفت مدّخرات المصريين، تحت وابلٍ من وعود الثراء، ليستيقظوا على كارثة اقتصادية.
*** قال السيسي، في خطابه، إن أحداً ليس كبيرا على المحاسبة، إذا أخطأ، حتى لو كان هو شخصياً.. حسنا، في مثل هذا الوقت من العام الماضي، أخطأ السيسي، بل أجرم، حين مارس، هو ورجاله، كذباً وخداعاً، بالإعلان عن أن القناة الجديدة (التفريعة) ستضيف إلى موارد مصر أكثر من مائة مليار دولار سنويا، وأنها، قبل أن تدخل الخدمة، غطت كل تكاليفها، وأنهم سيشرعون في حفر "قناة ثالثة"، قبل أن تنتهي احتفالية افتتاح قناتهم الجديدة.
من يحاسب السيسي على هذا السيل من الأكاذيب المتدفقة منه شخصياً، ومن أركان نظامه، منذ اعتلى الحكم، مستفيداً من جريمته المسلحة قبل ثلاث سنوات؟ من يحاسبه على جرائم أخرى، من التفريط في الأرض، إلى قتل البشر والزرع، وإضرام النار في نسيج المجتمع، ليتخاصم مع نفسه، طائفياً، وطبقياً، وإنسانياً؟
*** زيارة وزير خارجية السيسي، العائلية الدافئة، إلى بيت نتنياهو، ثم الوصول إلى لحظة "صهينة الأعياد الوطنية المصرية"، ليتبادل نتنياهو، وحرمه، مع سفير السيسي، وحرمه، أنخاب الاحتفال بذكرى ثورة يوليو/ تموز 1952، في مشهدٍ ينبغي أن يضعه كل ناصري، وكل جعجاع قومي عربي وحدوي، أمامه، كالمرآة، ويتفحّص ملامحه جيداً، ويسترجع حماسه للتبشير بالنسخة الرخيصة من جمال عبد الناصر التي يجسدها عبد الفتاح السيسي.
*** لا يعرف الإسلام التمثيل بجثث الأعداء، ولا الرقص فوقها، كما فعلت قوات السيسي في "رابعة العدوية"، وقوات الأسد في الأراضي السورية، وقوات الحشد الطائفي في الفلوجة وغيرها، فآداب الحرب في الإسلام معروفة، وحديث الرسول صلى الله وعليه سلم عن الحرب شديد الوضوح والجزم، حين يقول"اغزوا ولا تغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا".
وأحسب أن الاحتفاء بمشاهد من هذا النوع إنما يعبّر عن هزيمةٍ حضاريةٍ وإنسانية، يسعى أعداء الحياة في بلادنا إلى تكريسها، ويخدش بها أيّ انتصارٍ للربيع العربي على أنظمة القتل والاستبداد.
*** يعرف عبد الفتاح السيسي ونظامه، منذ البداية، أن عدوه الاستراتيجي هو الوعي، وأن معركته الكبرى ضد كل من يحاول الاقتراب من مملكة الخرافة التي أقام عليها حكمه. غير أن المفارقة، هنا، أن أكثر جنوده وأحسنهم أداءً وبلاءً، في المعركة هم علماء حقيقيون، ارتضوا أن يبيعوا علمهم في سوق الوهم والخرافة، فالأرباح هنا أكبر، ومعدلات الأمان والنجاة أعلى، داخل دائرة السلطان، فيوظف صاحب "نوبل" في الكيمياء، أحمد زويل، كل خبراته العلمية في خدمة نظامٍ جاهل، جهول. ويرهن شيخ الأزهر وعلماؤه كل ما لديهم في بورصة الدجل. ويبيع عبد الرحمن الأبنودي قصائده على عتبات القصر، قبل أن يرحل. وغيرهم كثيرون من موتى، اختاروا أن ينسفوا كل ما بنوه من مجدٍ عند الناس، قبل أن يرحلوا، وأحياء قرّروا أن يصنعوا نهاياتٍ مخزية، بأيديهم.
*** قلنا، من البداية، إنها مرحلة حكم مصر بالخرافة، بدأت منذ ما قبل الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، حيث نشطت جرّافات الوعي وحفارات الضمير في شقّ قنوات للكذب والوهم، مرّت فيها كل أنواع الأكاذيب، بمشاركة جيشٍ هائل من مثقفين، زعموا طويلاً أنهم فرسان الاستنارة، فلما أفلت شمس 30 يونيو، تبيّن أنهم مقاتلون في جيوش الخرافة. تجدهم ناشطين في استنساخ ستينيات عبد الناصر بركاكة، يستخدمون الأغنيات الوطنية في غير مواضعها، ويتصنعون "ناصرا" صغيرا، من دون وعيٍ بأن علم الهندسة الوراثية لم يأخذ طريقه إلى عالم السياسة بعد، وبالتالي، لا يصلح ما كتب، وتحول أغنيات فيما بعد، عن "مصر القاهر والظافر"، للاستعمال في مرحلة "مصر البيضة والحجر".
غير أن العجيب في الأمر، أن رصيد نظام عبد الفتاح السيسي من الكذب والوهم والدجل قد نفد، لكن رصيد المحيطين به من القابلية للابتلاع والهضم والامتصاص لا ينفد.. وكلما انكشفت كذبةٌ وسقط وهمٌ، يُسارع من يفترض فيهم أنهم حرّاس الوعي، إلى تغطية ما تعرّى، وترميم ما انكسر، وإقامة ما سقط وتهدّم، يستوي في ذلك شيخ الأزهر مع إعلامي درجة عاشرة، أو مثقفٍ يبيع البضاعة الفاسدة ذاتها، منذ ستينيات عبد الناصر، وحتى أيام عبد الفتاح، من دون كل أو ملل.
*** في زمن عسكرة الدعوة والفقه، من الطبيعي أن يكون القول الفصل في صحيح الدين للجنرال، هو رائد التفسير، وزعيم الفتوى، والمرشد الأعلى والمرجع الأول، حتى وإن كان، كما يعلم شيخ الأزهر، عاجزاً عن قراءة جملةٍ واحدة، على نحو سليم خرج شيخ الأزهر في سرورٍ وحبور، لأن الجنرال استقبله، هو، مع اشتداد أزمة خطبة الجمعة، المعلبة، التي تضمن الهيمنة على منابر المساجد، وقتل روح الاجتهاد والتجديد في الفهم، من أجل اعتبارات الأمن القومي. ولو كان السيسي قد أمر بنقل الإشراف على خطبة الجمعة إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، لهلل شيخ الأزهر وكبّر، واعتبره قراراً حكيماً، ينتصر لصحيح الدين، ويؤسّس لعصرٍ من التنوير تحتاجه الأمة.
*** نعم، هي "الملاهي". لكن، أحيانا ما يسقط من هذه الملاهي ما يفيد، فقد سقط هشام جنينة، في حواره أخيراً مع تلفزيون "العربي"، حين جدد الولاء للسيد الرئيس راعي الفساد، وجلس على كرسي الاعتراف رهن الإشارة، كي يهرول معتذراً وشارحاً وطالباً العفو، مثل كثيرين فعلوها ويفعلونها بمنطق "من أجل أبنائي".
سقط جنينة أو انتحر، بعد أن صفع الذين تحمسوا، في وقتٍ ما، لفكرة أنه يصلح "بديلاً" يمكن الالتفاف حوله، بمواجهة سلطة الانقلاب، وتبين أنه كان يؤدي دوره في عملية "ابتذال البدائل"، غير أن تقريره لا يزال صالحاً، وثيقة تعريةٍ للفساد والاستبداد.
لا يهم هنا كثيراً التفتيش عن أسباب هذا "السقوط الحر"، وإن كان توقيت الحديث عن أفضال "الرئيس الذي حمل روحه على كفه"، مع ذكرى المجزرة التي ارتكبها ضد المصريين، يبدو لافتاً، بما يجعلك تضع كلمات جنينة مع أكاذيب "الشيخ" محمد حسان في سياق واحد، من دون أن تكون متجنياً، لكن المهم حقاً أنه يمنحك مزيداً من أسباب الاحترام للقابضين على مبادئهم ومواقفهم، في السجون، والذين سبقوا إلى القبور أولئك الذين لم يبيعوا مواقفهم، مقابل "إشارة" من الزعيم، ولم يمارسوا رذيلة "الانحناء من أجل أبنائي".
*** حسناً، هم يمارسون لعبة إحراق البدائل الرخيصة، يأتون بواحدٍ منهم، يوحون إليك بأنه "مشروع بديل" مناوئ للسلطة الحالية، ثم يطلقون عليه عساكر الإعلام وكلاب الصيد المدربة، حتى يخال لكثيرين أن هذا الهدف إنما يتم ضربه وقنصه، لأنه يشكل تهديداً وجودياً للسلطة.. وأخيراً، يرفع الستار عن" البديل الكاذب" موضوعاً داخل الشيكارة، ينتظر الإشارة من الزعيم الملهم، كي يعتذر ويجدّد الولاء، ويطلب الصفح من "الرئيس البطل القائد الضرورة".
الآن، يضع المستشار هشام جنينة نفسه في "شيكارة الخضوع"، ويعلن أنه "رهن الإشارة" من الزعيم "الذي حمل روحه على كفه"، كي يذهب إليه صاغراً وطالباً العفو والمغفرة.
*** خذها قاعدة، عندما يعيدون فتح الأستوديوهات أمام مرتضى منصور، ويستعيدون معركة تكفير المدعو سيد القمني، وتخرج تظاهرات نحيفة وهزيلة في أشهر ميادين الثورة في الإسكندرية، ترفع صور الزعيم الذي يرفل في نعيم الفشل، ويرتدي مصطفى بكري وفرقته الفاشية دروع الحرب.. عندما ترى ذلك كله، اعلم أن الجنرال في متاهة الإحساس بالخطر، وأنه يشعر بأنه لم يعد هناك ما يكفي من أوراقٍ تكفي لتغطية عورات البلادة والفشل والانهيار.
الجنرال الذي يهاتف الفيضان، ويعبئ الأوهام في علب الأحلام، يدرك أن رصيده من القدرة على بيع الأكاذيب القومية الزاهية الألوان، قد نفد، ويستشعر عتاة الحاشية اتساعاً مضطرداً في رقعة التململ الشعبي من إجراءات اقتصاديةٍ، لا تقل في بشاعتها وجنونها عن الانتهاكات الأمنية التي تزهق الأرواح، وتنحر الحريات العامة والخاصة، فكان إعلان التعبئة العامة في جيوشه الإعلامية، لخوض الحرب الاستباقية ضد دعواتٍ لتحركاتٍ شعبية، ترفض إلهاب ظهور البسطاء بسياط القرارات الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة، في محاولةٍ بائسةٍ لإنقاذ النظام من التصدع.
*** يزمجر الجنرال محمّراً عينيه، فتتحوّل المعارضة، المستأنسة أصلاً، إلى ملاطفةٍ مرتعشة، لا تفلح في تجنب الغضب الجهول، فيكون الحل الأسرع والأسلم فتح النار مجدّداً على الرئيس الأسير محمد مرسي، وجماعة الإخوان المسلمين.
يقدّم عبد الفتاح السيسي نفسه، في حواره المعروض بكل نقاط التوزيع، باعتباره "المقاتل"، حتى يخالُ لك أن في كل نقطة من جسده طعنة أو رصاصة، حصاد مشاركته في المعارك التاريخية، من حطين وعين جالوت وحتى أكتوبر 1973، متلبسا روح "بطل الحرب والسلام". يتحدّث من الوضع واقفاً فوق تلال الخراب الاقتصادي، والانهيار السياسي، متوعداً من يرفض هذيانه بأن ما حقّقه من إنجازاتٍ يفوق الخيال، فتشتعل، على الفور، الحرب على الدكتور مرسي و"الإخوان"، داخل معسكر المعارضة اللطيفة
*** في هذا الطقس السياسي "الخريفي" العاصف، من يستمع إلى تصريحات عبد المنعم أبو الفتوح عن الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان قد يتصوّر أن الرجل أمضى عمره كله في صراعٍ حامي الوطيس مع الجماعة، أو ربما يصل بك الخيال إلى الظن بأنه عاش عمره السياسي داخل تنظيماتٍ يسارية أو ليبرالية، متشدّدة في رفضها الإسلام السياسي، خصوصاً وهو يصف، في حواره لتلفزيون "العربي"، زميل السنوات الطويلة في جماعة الإخوان، الدكتور محمد مرسي، بأنه وأحمد شفيق، مثل "الطاعون والكوليرا".
عبد المنعم أبو الفتوح، مثل هشام جنينة، يحاولان تجنب بطش نظام الجنرال ذي الخيال الفقير، عن طريق توجيه أكبر عدد من اللكمات العنيفة في وجه المقيّدين بالسلاسل، ممن لا يملكون إمكانية الرد أو الدفاع عن النفس، فالسيد هشام جنينة الذي مازال ينتظر إشارة الرضا من الجنرال، كي يهرول إليه، يتحدّث عن مرحلة الرئيس مرسي، وكأنه كان معتصماً داخل خيمة في ميدان التحرير، مطالبا برحيل النظام، وليس رئيساً للجهاز المركزي للمحاسبات فيه.
*** وصلت حالة الهذيان القومي العام في مصر إلى مرحلةٍ شديدة الخطورة، تنذر بكوارث على الطريق، إذ كلما يغوص عبد الفتاح السيسي في فشله، يقفز منحنى الفاشية إلى أعلى مستوياته.
يمرّ النظام كله بحالةٍ من عدم الاتزان العقلي، ناهيك عن اضطرابه نفسيا، ومن ثم إقدامه على إجراءاتٍ بالغة العبثية والعشوائية، تشبه مستصغر الشرر المؤدّي إلى الحرائق الكبرى، ويتجلى فلتان أعصاب السلطة في مزيدٍ من السياسات التي تفتك بالسواد الأعظم من الشعب، من دون احتمالات اندلاع الغضب مجدّداً، وكأنهم على يقينٍ من أن الجماهير لن تقوم لها قائمة مرة أخرى، وأن النخب السياسية ارتضت المساحة الصغيرة التي تركتها لها السلطة، كي تلعب فيها، "تيران" و"صنافير" مثلا.
قبل عام مضى، كتبت إن "عبد الفتاح السيسي يشبه مطرباً بائساً يردّد أغنية وحيدة، بالإكراه، ومع سبق الإصرار والترصد، على جمهور أكثر بؤساً، لا يملك حق الاعتراض، أو المطالبة بالتجديد في الكلمات واللحن والأداء، فالمطرب الذي يعتمد على عضلاته أكثر مما يستخدم صوته يرى في نفسه فناناً، وفي الجمهور قطيعاً من الرعاع، ينبغي أن يصفقوا لكل هذا السخام المتدفق من حنجرة أتى عليها الصدأ".
الآن، تجاوزنا مرحلة احتقار الجمهور إلى الرغبة في استبدال الجمهور وإبادته، إذ مع اتساع مساحة الغضب والاحتجاج على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والخارجية بدرجة أقل، تتحول كتل من الجماهير، بنظر النظام، إلى مجموعةٍ من الأعداء والأوغاد والمتآمرين على موهبته العالية وقدراته الغنائية الرهيبة، في ظل ذلك الوهم المعشّش في رأسه، أنه ناجح، بل وعبقري، يحقق، في أيام، ما عجز عن تحقيقه السابقون في عقود، ولن ينجح فيه اللاحقون.
تنتقل حالة الهذيان من رأس السلطة إلى أطرافها، البرلمان مثلاً، وأذرعها، الإعلام نموذجاً، فتسمع هراءً لا يمكن أن يصدر إلا من داخل عنابر الحالات الخطرة في مستشفيات الأمراض العقلية، فتندلع حمى الاستطلاعات المزيفة، والهاشتاغات، بحثاً عن شعبية كاذبة، مع اقتراب نهاية فترة أولى لتسلط عسكري، فاقد الشرعية السياسية والأخلاقية.
*****************************************************
*** 30 مليون علبة لبن، بسعر 30 جنيهاً للعلبة، و30 مليون متظاهر في 30 يونيو.. سيتوقف التاريخ وعلم النفس طويلاً أمام ولع السلطة الحاكمة في مصر بالرقم 30 الذي صاروا يستخدمونه، وكأنه تميمة أو تعويذة للسيطرة على الجماهير، كلما لاحت منها بادرة تململ أو غضب أو سخط على فساد عام، يزكم الأنوف ويطحن عظام الفقراء والناس العاديين.
مع اندلاع فضيحة التلاعب في لبن الأطفال، سارعت الحكومة إلى الإعلان أن الجيش سوف يتدخل، أو أنه تدخّل بالفعل، لاستيراد ثلاثين مليون علبة حليب أطفال. ثم حين تفجرت ينابيع السخرية من السيناريو التجاري الركيك، عاد المتحدث العسكري، متقمصاً شخصية مدير تسويق، أو مسؤول دعاية وإعلان في وكالة تجارية صغيرة، ليتحدّث عن اضطرار الجيش لخوض معترك لبن الأطفال، حمايةً لمصر من جشع الأوغاد المحتكرين
*** **************
*** الذي يهين العسكرية المصرية حقاً هو الذي يجرّدها من ملابس المحاربين، ويلبسها أثواب التجار والباعة الجائلين، ولا تصدّق أن الذين يغضبهم هتاف "يسقط حكم العسكر" يحبون مصر وجيشها، بل هم طامعون في عطايا جنرالاته، خائفون من غضبهم، بينما لو أبحرت في وجدان الذين يردّدون هذا الهتاف، منذ سالت دماء الشعب بفعل مجازر الجنرالات كارهي الثورة، ستجدهم الأشد احتراماً وفهماً لمفهوم الجيش في الدول المحترمة، والأكثر حرصاً على حماية الجندية من عبث جنرالات السلطة الذين ورّطوا الجيش في معارك مع الشعب. ويا ويل مصر من استمرار واقعٍ ينتج أجيالاً متعدّدة، كل خبرتها بالجيش أنه القوة الباطشة التي تطارد المتظاهرين (أعداء الوطن) في الشوارع، أو توزع لحوم السيسي وبقولياته وزيوته على الناس، أمام كاميرات التلفزيون، أو تنافس القطاعين الخاص والعام في الصفقات والمقاولات.
*** اللوثة، هذه المرة، مع رحلة نيويورك 2016، ليست قادمة من إعلامٍ ينتمي لمدرسة "الاستحمار"، فيروّج حكاياتٍ مجنونةً عن وقوف زعماء العالم في طوابير، أطول من ناطحات السحاب، لمصافحة عبد الفتاح السيسي في نيويورك، والتقاط صورة "سيلفي" معه.
نحن بصدد حالة جنون رسمي، تتدحرج من الأدوار العلوية في الدبلوماسية المصرية، هبوطاً إلى مستنقعات البرامج التلفزيونية، لتعلن أن "الزعيم" رفض طلباتٍ متعدّدة من دول كثيرة، من بينها تركيا وقطر، لكي يفوز قادتها بدقائق وصورة مع السيسي.
لم يحدث في تاريخ الدبلوماسية المصرية أن وصل الأمر بجهات رسمية إلى الإيعاز لوسائل إعلام بترويج أخبار كوميدية عن أن الإقبال تاريخي على مقابلة الزعيم، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، حتى إنه رفض طلبات عديدة لازدحام الجدول.
كان من الممكن اعتبارها "شطحةً"، أو اجتهاداً مما أسميته قبل ذلك "إعلام مصر في طورها "العكاشي" الذي اندلع قبل أكثر من ثلاثة أعوام، غير أن الأمر يتطوّر ويستفحل، حتى تجاوز مرحلة الكوميديا التجارية الرخيصة، وبلغ حد الخلل العقلي، والجنون الرسمي، وبعد أن كانت المسألة محصورةً في شخصٍ مولعٍ بتقمص شخصياتٍ هاربةٍ من فصول الفانتازيا، في كتب التاريخ الصفراء، تحولت إلى سياق عام من الهزل، تذوب فيه الفوارق بين ما يصدر عن الدبلوماسية وما "ينشع" من ملاهي الـ "توك شو" الليلية.
تتحول مصر تدريجياً إلى "دولة فوتوشوب"، مجرد تكوينٍ فوق رمال ناعمة على شاطئ بحرٍ صاخب، مع أول موجةٍ تنهار الأكاذيب والأوهام، ليرفع الستار عن زعامةٍ كرتونيةٍ مصنوعة في ورش إعلام بلغ من العبط عتياً، يحاول أن يعتصر من حكايات السابقيْن، عبد الناصر والسادات، ما يكفي لرسم صورة "جنرال معاصر كبير".