*** عبد الله عاصم، المخترع الصغير، قد قرّر الارتحال عن وطنٍ حارق لأجنحة الطيور، ومدمر للأحلام وقاتل للأمل، واستقر في الولايات المتحدة، ناجياً بعلمه ونبوغه وعبقريته، من أوغادٍ حرّضوا عليه، ومجرمين اتهموه بخطف مدرعات وحرق مجنزرات، وهو ابن السادسة عشرة.
بحثت عن عبد الله، والتقيته مع الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، في نيويورك، وجلست أتأمل في لحظة عناقٍ بين عالم مرموق ينتمي للأمس واليوم ومشروع عالم عبقري ينتمي للمستقبل، كلاهما لم تتحمله دولةٌ تمجد القبح وتعظم البلادة وتكره محبيها الحقيقيين وتطردهم، بمباركة الكهنة والدجالين ومشايخ العنصرية الملتفين حول السلطات.(أمثال علي جمعة، مفتياً عسكرياً محرّضاً على القتل، وتواضروس، واعظاً وناصحاً بالفاشية والعنصرية)
*** لقاء الرئيس الفرنسي بسياسيين ومثقفين مصريين، بعد ساعات من مكافأته نظام عبد الفتاح السيسي على إرهابه وإجرامه وفاشيته.
أراد هولاند أن يتجمّل، أو يغتسل من مباحثات وصفقات دعم الفاشية، بلقاء مع نخبٍ تبدو من بعيد معارضةً ومستنيرة، لكن أكثرها أكثر ظلامية وانتهازية من السيسي نفسه.
مضحك جداً أن تصعد رغاوى "اللائكية" إلى السطح في مصر، استباقاً لزيارة المسؤول الفرنسي الرفيع، واللائكية هي العلمانية على الطريقة الفرنسية، حيث تقطع شوطاً أبعد في مسألة الفصل بين الدولة والمجال الديني، بحيث يبقى الأخير متحرّراً من النظام العام.
لعبد الفتاح السيسي وانقلابه مجموعة من اللائكيين واللائكيات، يظهرون على السطح كلما أراد الجنرال مغازلة فرنسا، ومداعبتها، فينتشرون في أوركسترا موحدة، يعزفون ألحانا باريسية، بطريقة بائسة ومضحكة، بالتزامن مع زيارة رسمية إلى باريس أو العكس.
بدأت ظاهرة صعود اللائكيين المصريين مع فرقة "الشوباشية" في العام الماضي، مع ذهاب السيسي إلى باريس، للمشاركة في كونشيرتو الحزن العالمي على "شارلي إيبدو"، ورأينا الفرقة تعزف لحن ضرورة خلع الحجاب وحرقه في مصر، حيث انتشرت مجموعاتٌ من باعة التديُّن الفاسد الجائلين على الشاشات الانقلابية، وأولئك الذين حشدوا لمليونية الخلع والقلع، رافعين شعار "احرقي حجابك في حب مصر"، أو أصحاب هولوكوست الكتب الإسلامية في المدارس، ممّن اعترفوا بأنهم فعلوا ما فعلوه بإيعازٍ من جهات سيادية.
بدت زوبعة شريف الشوباشي، الكاتب العائش في الحالة الفرنسية وكأنها كانت مطلوبة لوقت محدد، سرعان ما خمدت بعدها في فنجان الزعيم، صاحب صيحة تجديد الخطاب الديني، الإسلامي طبعاً، كوسيلة للتزلف إلى فرنسا، إذ انتهى الأمر إلى طقسٍ ساخر من المؤدين على خشبة المسرح، حتى اختفوا، ولم نسمع عنهم خبراً مدة عام كامل.
الآن، ومع زيارة رئيس فرنسا إلى قاهرة عبد الفتاح السيسي، جرت عملية استدعاء لبعض صغار الشوباشية اللائكية، وفتحت لهم نقابة الصحافيين أبوابها وقاعاتها لعقد مؤتمر عالمي، حضره حشد هائل، يقدّر بعدد أصابع اليد الواحدة، لإطلاق الحملة القومية لقلع النقاب، تحت شعار" امنعوا النقاب"، والتي طالبت بمنع ارتداء النقاب، وأعلنت عن جولاتٍ في مختلف المحافظات المصرية لتحقيق هذا الهدف "الفرنساوي" النبيل، بل والتقت رئيس جامعة القاهرة، اللائكي الفرانكفوني أحيانا، والأنجلو ساكسوني في أحيان أخرى، والذي استقبل كبيرة الشوباشية، وبعض صغار الاستنارة الانقلابية العسكرية الفاشية.
*** هذا النظام الذي وُصف، منذ البداية، بأنه بلا أي أساس أخلاقي أو سياسي، قام على مغامرة قادها شخص وحيد، ووجدت ميلاً انتقامياً ثنائياً: من قبل نخب قررت الانتقام من أول رئيس مصري منتخب بعد الثورة، لاعتبارات حزبية وأيديولوجية ونفسية وعنصرية.. ومن جانب دولة عميقة عسكرية عرفت كيف تمتطي وجوهاً محسوبةً على الثورة، فاستطاعت تحريك كتلة جماهيرية في إطار ثورة مضادة، نفذت من خلالها انقلاباً عسكرياً مكتمل الأركان وواضح المعالم من المخاض إلى الميلاد.
ومنذ ذلك الوقت، والنظام يمنح نفسه حق الانتفاع بوضعية النظام المبتسر الذي لا يتحمل العيش خارج "حضانة"، ويتهم كل من يزعجه في أثناء ممارسته القتل والتصفية للمعارضين والمناهضين له بأنه عدو له ولمصر، مستفيداً من حالةٍ من صناعة الكذب القومي، اضطلع بها فريق من عجائز الزمن الناصري، تخيلوا أنه بالإمكان استنساخ شخصية جمال عبد الناصر.
*** جريمة سكرتير عام الأمم المتحدة، بنظر الخارجية المصرية، أنه أصدر بياناً عبّر فيه من خشيته من أن المتهمين أمام القضاء المصري ربما لا يمنحون حقهم في الاستفادة من إجراءات التقاضي العادلة ومعاييره.في كل مرة تصدر فيها عن منظمة دولية تصريحات أو بيانات تدعو إلى احترام قيم العدالة وحقوق الإنسان في مصر، تنتفض السلطات المصرية، وترتعد غضباً، ولسان حالها يقول"دعونا نقتل في هدوء"، انطلاقا من تلك الحالة من الانفصال النفسي والمعرفي عن العالم، والتي تجعل حكام مصر يتوهمون أن من حقهم ممارسة أبشع أنواع إجرام السلطة، ماداموا يجلسون تحت مظلة محاربة الإرهاب، وكما عبر عن ذلك، صراحة، جنرال السلطة في لقاءاتٍ ثنائية عديدة، آخرها مع الرئيس الفرنسي، حيث ردّد مقولات مبارك وعمر سليمان المحفوظة، مدّعياً أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تصلح لدولة "وليدة" مثل مصر.
***
يذهب هيثم محمدين إلى المعتقل، فيصعد حمدين وفرقة الإنقاذ إلى خشبة المسرح، أو الملهى، في استقبال جنرال جديد، يطل برأسه، يتذكّرون المعارضة بعد ثلاث سنوات من المؤانسة والموالسة في غرف السلطة، يمارسون نشاطهم القديم في التسلق والتزلج، والقفز.
عندما كان الصامدون في الزنازين والمنافي يقولون لا للانقلاب العسكري، ولا للعدوان على تجربة ديمقراطية وليدة، تتلمس طريقها، كانت نخب الإقطاع الثوري المزيفة تناضل من أجل الاحتفاظ باستمرار "العلاقة" مع جنرالات الثورة المضادة.
تعبت سيارات الترحيلات من مشاوير نقل البنات والشباب والأطفال إلى الزنازين، فيما كان "ماكييرات وباديكيرات الثورة" يلفون حول أسوار سلطة الرئيس العسكري الضرورة، لإنقاذ العلاقة من الفشل، مردّدين "فلنعط أنفسنا فرصة لاختبار المشاعر"، ويمنون النفس بأن تطل عليهم السلطة من شرفتها، وتلقي نظرة أو ابتسامة عابرة.
كانت نوازع الكراهية والإقصاء والاستحواذ على مزايا المقتلة أكبر من أن يمنحوا أنفسهم فرصة يتيمةً لاستعادة احترام مفقود، وكأنهم أدمنوا دور "الماشطين والماشطات" لسياسات الحكم العكر، وكلما نبتت سنبلة للرفض والمقاومة، التفوا حولها مثل "هالوك الحقول" يمتصونها ويخنقونها، حتى الموت.
مهنتهم صارت الابتذال، وحماية كل رديء بتقمص شخصية الأردأ، يضربون السياسة، على طريقة مافيا ضرب السياحة، يتحرّشون بالسائحات، وينصبون على السائحين، فيختارون وجهات أخرى.
*** القصة، باختصار، أن الذي باع الجزيرتين، أو تنازل عنهما، قبض ثمنهما سندات استبداد ضخمة، وشيكات مفتوحة، على بياض، لممارسة القمع والبطش والتنكيل، بكل ما هو محترم ونبيل في مصر.
*** ثار المصريون، أمس، ضد سلطة إجرامية، بالمعنى الحرفي للكلمة، بالنظر إلى قطعان المسلحين الذين احتلوا الشوارع والمباني واستعمروا النقابات، وانتشروا في وسائل المواصلات، ووسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، متسترين في زي مدني، يستخدمون كل أنواع أسلحة القمع والفتك بالمتظاهرين. وعلى الرغم من ذلك كله، كانت أشجار الغضب تثمر، كلما قطعوا واحدة منها، فتضيء "المطرية"، إذا أطفأ الأوغاد نور "ناهيا"، وتتألق شوارع حي الدقي بالهتاف، إذا انقض القتلة على مسيرات بولاق، وتنتفض أطراف المدينة، إذا حاصروا وسطها بالجيش والشرطة والبلطجية النظاميين.
هي واحدةٌ من معارك الثورة الباسلة، كرّ وفرّ، غير أن الأجمل فيها أن الثوار امتلكوا ناصية المبادرة والمبادأة والفعل، فيما بقيت السلطة الغبية في دائرة رد فعل رديء، لعل أقبح ما فيه أن يوماً أتى على مصر، باتت السلطة فيه تحرّض أتباعها على الرقص الماجن بأعلام دولةٍ أخرى، حصلت على جزيرتين استراتيجيتين، تنطق وثائق عديدة بأنها مملوكة للشعب المصري.
كان الثوار يتحدّون المهانة والمذلة، بينما الحناجر الناطقة باسم عبد الفتاح السيسي تصرخ: الجزر مصرية، لكننا لا نمانع في إهدائها لمن رعوا انقلاب الجنرال، ودعموه وأطعموه أرزا وحناناً.. لم تقل تلك السيدة شيئاً مختلفاً عن منطوق سياسات عبد الفتاح السيسي وخطابه، فلا تمانع في حمل الأهرامات وتمثال أبو الهول، ونقلهما إلى من يكفلون سلطة الانقلاب.
أجمل ما في اليوم أنه أظهر أن الثورة أقوى من الانقلاب ورعاته، وأعلى من مصطفى بكري وجيش الأوغاد، ومن رفعت السعيد، ومن الماكينة الأمنية الغاشمة.
أثبت النبلاء الذين خرجوا في المدن والقرى، أمس، أن مقاومة سلطة السفاحين مسألة مبدأ، وأن سقوطهم مسألة وقت.
*** المرأة التي عضّها الفقر، ونهشها الجهل، وافترسها الخوف، فذهبت ترقص في الشارع، بحركاتٍ مفزوعة، تحت العلم السعودي، وتهتف ضد مصرية الجزيرتين.
وابنة جمال عبد الناصر، زوجة رئيس البنك، سيدة المركز الأهرامي، البروفيسور المنتفخة استعلاء أكاديميا كاذباً، فذهبت تنبش قبر والدها، وتستخرج منه روايةً ركيكةً وتافهةً، لكنها صالحة للبيع بأعلى سعر في سوق وثائق الجزيرتين.
هل تختلفان في شيء؟ هل تستويان؟ الأولى مصرية مغلوب على أمرها، صدقت ذلك "المقاول" الذي غزاها بالمال والترهيب، فخرجت ترقص وتهتفوتسب، أحياناً، علها تعود في آخر النهار بما يسد رمق جائعين ينتظرونها في منزلٍ يعافر كي لا تسقطه رطوبة تنهش في جدرانه، أو ما يسكت نداء الرأس المتعطش لجرعة "كيف"، أو اتقاء لشر أحد "البكوات"، سيعيدها إلى ظلام الزنزانة، إن عصت الأوامر.
أما الثانية، فما هو عذرها، كي تهين والدها في قبره، وتحتقر علم التاريخ وتبتذل الوثائق، وتعبئ صفحات"الأهرام" بسخام تأريخي، لا يرتقي إلى مستوى طالب في مبتدأ حياته الجامعية؟
أما الثانية، فما هو عذرها، كي تهين والدها في قبره، وتحتقر علم التاريخ وتبتذل الوثائق، وتعبئ صفحات"الأهرام" بسخام تأريخي، لا يرتقي إلى مستوى طالب في مبتدأ حياته الجامعية؟
*** وكما رصد متابعون سوريون من الميدان، فقد خرجت قوافل قوات داعش من ضواحي دمشق، ومن الضمير، بحماية برية من قوات النظام، فيما كانت تسير أمام قوافلهم سيارات ترفع علم الأمم المتحدة، وقطعت الطريق من دمشق إلى الرقة في 8 ساعات مكشوفة في صحراء منبسطة تحت أنظار الطائرات الأميركية والروسية وطائرات النظام، ثم يستخفون بعقولنا ويدّعون أنهم يحاربون داعش
ينسف هذا المشهد كل الأكاذيب، ويسقط كل الادعاءات والأساطير التي يسوقونها لتبرير عربدتهم في الأراضي السورية بالحرب على "داعش"، ويؤكد أنهم جميعاً كاذبون في قولهم إنهم مع الشعب السوري ضد بشار الأسد وداعش، فالصحيح أنهم، مع داعش وبشار، ضد الثورة السورية، وربيعنا العربي. وها هي الأيام تنطق بأنهم "أكلة لحوم الثورات العربية"، فكل صيحات الحرب، العربية والغربية، ضد بشار، انتهت إلى تثبيت أركان حكمه
*** الثورة السورية تدفع من لحمها الحي ثمن ما يجري في اليمن، وفي مصر، وفي ليبيا. يسقط الحوثي وصالح، ليعيش بشار والسيسي، ينخفض سعر برميل النفط، لترتفع فرص بشار الأسد في البقاء. يعصرون عنب اليمن، كي يثمر بلح الشام، ويتساقط رطباً جنياً في حجر بوتين، ليتغذّى بشار، ويسمن إجرامه.
كلهم يتناوبون افتراس الثورة السورية، في فراشٍ داعشي وثير، ليصبح جل أصدقاء سورية أصدقاء روسيا البوتينية، في اللحظة نفسها، والوضع نفسه، ولا يبقى سوى أن تتحوّل المأساة السورية إلى صندوق تبرعات أمام مساجد، تدعو منابرها على بشار، وبوتين، وفي الوقت نفسه، تدعو بطول البقاء لأصدقاء الدب الروسي الألداء.
كلهم دواعش، وكلهم بوتين، وكلنا حلب وسيناء، يقطعون من لحمنا الحي، ويصنعون أطباقهم المفضّلة في مطابخ الحرب على الإرهاب.
*** يزوّدون شاحنة الاستبداد بالوقود في القاهرة، فتنطلق مثيلتها بالسرعة الإجرامية القصوى في دمشق.
كل دعم يحصل عليه نظام عبد الفتاح السيسي في مصر ينعش نظام بشار الأسد في سورية.. تلك هي المعادلة التي أثبتت صحتها وقائع الأيام.
لم يرد بشار أن يفوِّت فرصة ازدحام مطار القاهرة بطائرات داعمي الانقلابات، فالتقط الرسالة سريعاً، وقرر ذبح حلب مرة أخرى، وإقامة حفل شواء، "باربيكيو"، للحوم الأطفال والعجائز في المستشفيات وفي المدارس والملاجئ، تزامناً مع حفل الطرب الملكي في قصر عابدين في القاهرة.
يعلم بشار أن الرعاة يعلمون، في قرارة أنفسهم، أنه والسيسي في سلة واحدة، وما يُلقى للثاني من مساعدات يفيد منها جزار الشام، وكما انتفخت أوداج السيسي بعد الزيارات السخية، فأطلق العنان لفرق الاستبداد والوحشية، فقد انتعش بشار وانتشى، بالقدر نفسه، وقرّر أن يمارس عمليات الإبادة ضد الشعب الثائر، بالطاقة القصوى، فافترس حلب، ثم استدار إلى الرقة مدعوماً بغطاء جوي من الطيران الروسي، وعملية إعادة انتشار برية لمقاتلي داعش الذين رصدتهم العدسات يتنقلون، منسحبين، من مناطقهم على الرحب والسعة، بينما يواصل طيران النظام غاراته المجنونة على المدنيين وقوات المعارضة الثورية.
*** هم يريدون أن يهزموا الجماهير معنوياً، بالإيحاء بأن من المواطنين "الشرفاء" من يترك بيته وعمله، ويتطوع للجهاد ضد الأعداء، الصحافيين الأشرار، فيما يعلم القاصي والداني أنهم مليشيات الحشد الشعبي السيسية التي تم دمجها في الجهاز الإداري لدولة السيسي، بالقرار الشهير بإنشاء "الشرطة المجتمعية" قبل نحو عامين. ولذلك، لم يكن غريباً أن يهجم هؤلاء على النقابة، في معية الشرطة، تلك الشرطة التي أخضعها السيسي لسلطانه، منذ واقعة استدراج الثورة إلى اقتحام مقرّات أمن الدولة، في زمن المجلس العسكري. في تلك الليلة التي صار معها جهاز أمن الدولة تابعاً مطيعاً لمدير المخابرات الحربية في ذلك الوقت، عبد الفتاح السيسي.
المقصود، هنا، إعطاب أية محاولة لمصالحة بين الصحافة والمجتمع، بالإصرار على تصدير صورة أن "بعض المجتمع" يدافع عن النظام ضد "كل الصحافة"
*** لعلها من المرّات النادرة التي يصدُق فيها عبد الفتاح السيسي، حين وصف مصر بأنها "أشباه دولة". بالفعل، شاهت معالم مصر، منذ أن استولى على السلطة فيها، فلم تعد تعرف نفسها، ولا أهلها، ولم يعد مواطنوها يعلمون لها كياناً يمكن تعريفه بسهولة.
هي لا دولة، ولا حتى معسكر، كما وصفتها قبل أكثر من عام، إذ تكاد تتلاشى معالم الدولة، وتشيب ملامح المعسكر في الوقت نفسه.
مصر تغيب عنها مقومات الدولة على نحو فادح. فالدولة، في التعريف السياسي البسيط، تبدأ بالعقد الاجتماعي الذي تنبثق منه دولة القانون. ولو قارنت بين ما هو معرّف نظرياً وما يدور على أرض مصر الآن، ستجد أن القوانين غائبة أو مُغيّبة، وأن المعيار الحاكم لإدارة الحياة داخل حدودها هو القوة وليس الحق، وأن القيمة السائدة هي البطش وليس العدل. وبذلك، تبتعد مصر تماماً عن مفهوم الدولة، وترتد إلى حالة ما قبل اختراع القوانين.
ولو حاولت أن تقيّم مصر بمعايير "المعسكر"، ستكتشف أنها في حالة من الرخاوة والبلادة الأمنية التي تجعلها عرضةً لضربات موجعة هنا وهناك، على الرغم من كل هذا البطش الذي تمارسه سلطاتها قضائياً وشرطياً وعسكرياً، حتى إنها تضرب في المكان نفسه مرتين وثلاثاً، ولا تتعلم أبداً.
تلك هي الحالة التي وصلت إليها مصر على يد عبد الفتاح السيسي، المسكون بالدجل والخرافة، والذي يستبدّ به العداء لكل ما يحول دون هيمنته على أدمغة المطحونين، بسلاحي الخوف والجوع. ومن هنا، يمكن تفسير ما يجري ضد نقابة الصحافيين الآن.
*** قفزت المحكمة على الأسماء الأربعة الأولى في القضية، وحكمت بأقصى العقوبة على الإعلاميين، في اللحظة التي تحاصر فيها جحافل السلطة مقر نقابة الصحافيين، وتعلن أن السيسي لن يعتذر ووزير داخليته لن يُقال.
صدور الحكم بهذه الطريقة، وبهذه الأحكام المغلظة، يهدف إلى إظهار العين الحمراء للجماعة الصحافية، وللمجتمع المدني بأسره: نحن ماضون في الإجرام، هكذا تكلم النظام من فوق منصة القضاء، ومن يقاوم لن يكون مصيره أفضل حالاً ممن قاوموا في "رابعة العدوية" قبل ألف يوم.
جن جنون السلطة، وهي ترى ما اعتبرتها "أذرعها" الممدودة لإخصاء الوعي، وترويج الكذب، وتسييد الرداءة والقبح، تخرج عن طوعها وتتمرّد، وتعلن العصيان والاحتجاج، فلجأت إلى الأسلحة نفسها التي استخدمتها في تنفيذ جريمة القرن في "رابعة العدوية"، من تشويه وتخوين وإطلاق مجموعات البلطجة، وصولاً إلى الذروة، باستعمال آلية "الصدمة والرعب".