*** لم تعرف مصر حاكماً يطارد برامج التوك شو طالباً الكلام على هذا النحو الذي يهبط برئاسة الدولة إلى مستوى رئاسة مجلس بلدي أو مركز شباب، مقدم على انتخابات، أو يشهد حملة توقيعات لسحب الثقة من إدارته الفاشلة، الأمر الذي يدفعها إلى ضخ حزمةٍ من الوعود والإنجازات الوهمية الجديدة.
يدرك السيسي جيداً أن الذين يعتبرهم "أهله وناسه" تشبعوا، حتى الامتلاء، من تلك النوعية من الأكاذيب المتعلقة بالغد، خصوصاً أن اليوم، وكل يوم، لا يشهد إلا غوصاً جديداً في رمال الفشل، مع تسارعٍ في وتيرة القفز من السفينة التي يمضي بها قبطانٌ أعمى، استهلك كل مخزونه من "السهوكة" العاطفية البليدة، وادعاء القوة الباطشة، بينما الواقع ينطق كل يوم، بل كل ساعة، بأن هذه البارانويا باتت تشكل خطراً على ما تبقى من ملامح أمةٍ ومقومات وطن.
وأكرّر أن قصص التاريخ تنبئنا بأن الطغاة يبيدون كل من يستشعرون من وجودهم خطراً، يتخلّصون منهم، واحداً تلو الآخر، حتى تضيق الدائرة، فلا يبقى للطاغية إلا ظله، فيقوده جنونه إلى إطلاق الرصاص عليه.

*** ذهب إلى الفضائية المحسوبة على السعودية.
تحدث السيسي طوال عشرين دقيقة، وكأنه مرشح لانتخاباتٍ بلديةٍ ينتهز فرصة ذهبية للتواصل مع المصوّتين، فراح يتحدث عن مشروعاتٍ في سيناء، يمكن للمحافظ أو رئيس مجلس المدينة أن يتولى مهمتها، لكن كون القناة مشفرة، لا يشاهدها إلا نسبة ضئيلة من الجمهور، يجعل الاحتمال الأكبر هنا أنه يستهدف بالرسالة الممولين والمانحين، مقدماً كشف حساب بإنجازاتٍ وهمية، لاستدرار المزيد، أو لطلب فرصةٍ بالاستمرار، في ظل حديث متصاعد عن ضرورات الرحيل.
نبرة الاستجداء كانت طاغيةً في صوته، وهو يُسكت المذيع، كلما بادره بسؤال، قائلا "وأنا بكلمك كده" أحقق الإنجازات، تماماً كما قال كثيرا من قبل، لعل أشهرها بعد الحفل الصاخب لافتتاح تفريعة قناة السويس، حين أعلن، بيقينٍ جازم، أنها غطت تكلفتها "وأنا بكلمك كده". وكان المفترض أن بعد مرحلة تغطية التكلفة، ستبدأ مرحلة انهمار الأرباح، غير أن الأرقام الرسمية وغير الرسمية تنطق كل يوم بتراجع الإيرادات.

*** تصلح واقعة إهانة الرسول، صلى الله عليه وسلم، مبرّراً كافيا لإطاحة وزير العدل المصري، أحمد الزند، من منصبه، لكنها ليست السبب الرئيس في التخلص منه.
تماماً، كما لم يكن لقاء توفيق عكاشة بالسفير الصهيوني السبب الأساس في إلقائه من نافذة قطار الانقلاب، وإن كان يصلح مسوغاً مقبولاً لطي صفحته.
لم نعرف أن لدى نظام عبد الفتاح السيسي، أو السيسي شخصياً، أدنى مشكلة أو حساسية، فيما يخص قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، فبهذا المعيار السيسي تطبيعي أكثر من عكاشة، بنص تصريحاته، ومدلول سياساته، وشهادة الإسرائيليين أنفسهم.
كما لم نعرف أن لدى السيسي ونظامه تلك الحساسية المفرطة فيما يتعلق بالرموز الدينية والمقدسات الإسلامية، ويمكنك الرجوع إلى محاولة السيسي ترويج نفسه، غربيا، في سوق الحرب على الإرهاب، من خلال ربطه التعسفي بين الفكر الإسلامي والإرهاب، والتحريض على مليار وستمائة مليون مسلم، وصفهم السيسي بأنهم يحملون أفكاراً تشكل خطراً على الدنيا كلها، بل إن منبع حفاوة الأحزاب النازية واليمين المتطرف على مستوى العالم كله، بالسيسي أنه ذلك الذي يحارب الفكر الإسلامي "المتطرف".
تشير خيوط القصة إلى أن السيسي، مستشعراً الخطر على مشروعه، قرّر أن يذبح مجموعة من الكباش التي يرى فيها رجاله خطراً عليه، فداء لسلطة تتقاذفها أمواج عاتية، ولأنهم يجيدون لعبة "الشعبوية"، فليس أفضل من موضوعي "الدين" و"الوطنية" مجالاً خصباً لنثر بذور "الشعبية الجديدة"، ليظهر السيسي بعدها في هيئة "الرئيس المؤمن" 
عاد السيسي من زيارته الحلم إلى السعودية، وجلس بجوار ملكها، وابتهج حد الانتشاء بالصور التذكارية، ونجح في تمرير مرشحه لأمانة جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، وعاد ليجد سقطة أحمد الزند فرصة ذهبية لنزع مخلب كبير، بل كبير مخالب دولة حسني مبارك، من ناحية، وتقديم بادرة حسن سير وسلوك لمن يحكمون أرض الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين من كل بقاع الأرض.
*** طار الزند، كما طار عكاشة، كلاهما يعرف عن السيسي ونظامه أكثر مما يجب، وكلاهما طامح وحالم بأكثر مما يحتمل السيسي، وكلاهما تضخّم وانتفخ إلى درجة الخطر على ما تبقى من شعبيةٍ أخذت في التآكل. وعلى ذلك، كان محتماً أن تتخلص حافلة النظام من الأوزان الثقيلة، لتدرأ خطراً، وتجتذب هتافاً شعبياً للزعيم الذي يطرد الأرواح الشريرة التي تصادق إسرائيل، وتتطاول على رسول الإسلام، عليه الصلاة والسلام.

*** هل بقي لديك أدنى شك في أن عبد الفتاح السيسي قادك إلى أكبر عملية احتيال سياسي في التاريخ، واستخدمك أداة في تنفيذ جريمة؟
بمعيار الأداء السياسي والاقتصادي الذي نصبوا عليك به، وأشهروا في وجهك سلاح الجريمة "استمارة تمرد"، مردّدين أن الشرعية ليست صندوقاً انتخابياً، وإنما إنجاز وأداء، أدعوك للحكم على حصيلة ما يقرب من عامين من حكم السيسي، على كل الأصعدة. كل ما أريده منك أن تغلق الباب على نفسك، وتعيد قراءة "استمارة تمرّد" التي وضعت في مطابخ الحكم العسكري، وتتوقف عند كل بندٍ من بنودها، وتستدعي عقلك وضميرك، لتحكم بنفسك، وأنت ترى الدولار يتقافز فوق جثة الجنيه المصري، وتستقبل الذكرى الأولى لمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، الذي وعدك السيسي فيه بأنهارٍ من السمن والعسل، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والجنة إذ تتحقق على أرض العاصمة الجديدة.قبل أن ينفضّ المؤتمر، قلت إن ما جرى في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي يندرج تحت هذا النوع من المخدرات الواعدة، إذ انهمرت أرقام المليارات بغزارةٍ تجعل أحدث طراز من الآلات الحاسبة يصاب بالشلل، عجزا عن الإحصاء والحصر، تماماً كما كان الوضع مع المؤتمر العالمي للإعلان عن ذلك الاختراع "العبد العاطي" المذهل الذي سيعالج جميع الأمراض المستعصية، ويحول الفيروسات التي تفتك بأكباد المصريين إلى ثروة غذائية ضخمة.

 *** إسأل نفسك، واحكم بضميرك: ماذا لديك من حصيلة وعود المؤتمر الاقتصادي، بعد مرور عام سوى لقطة "selfie" مع شابات وشباب جمعية مستقبل جمال وسوزان مبارك، تجمع وجوها صناعية مع "الرئيس اللذيذ"، كما عبرت واحدة من اللاتي تحلقن حول الزعامة الوهمية؟.
وها هي الأيام تثبت أن الرجل الذي دمر وطناً، لكي يبيع "ماكيت وطن" افتراضي، يعيش على تداول الأوهام وتسويقها، قد صدّق نفسه، وانتقل من هشيم الواقع إلى خيال الرسوم المتحركة، إذ يبدو أنه يعاني مشكلةً مع ماضٍ قريبٍ ملوث بالدماء وانعدام القيمة وضآلة القامة، في وطنٍ هيمن عليه، بأساليب إجرامية، فقرّر أن ينسف الماضي بكل ما فيه، ويفتتح وطناً جديداً، بعاصمةٍ جديدةٍ، يحمل اسمه، ويحرق تاريخه، ويبدأ العالم من اللحظة التي حكم فيها.ألم تشبع من الأكاذيب بعد؟ هل لا تزال عندك مساحة في الرأس، لحشوها بمزيد من الأوهام والخرافات؟

*** المهرجان الوطني للكذب، كان الأسف مضاعفاً على رموزٍ كنا نحترمها، قرّرت المشاركة فى رقصة انتحار مهني وأخلاقي، جعلتها تعتنق عقيدةً فاسدةً جديدةً، تقوم على إباحة الكذب واستحلال التزييف، باعتبارهما سلاحين فى حربٍ لإسقاط النظام، وإبادة فصيل سياسي واجتثاثه من التربة المصرية. 
كما استخدم "قانون استحلال الكذب" أيضاً في ما تعلق ببيع قناة السويس والأهرامات الثلاثة ونهر النيل لقطر، وسيناء للفلسطينيين. أسوأ من ذلك أن فريقاً من المحسوبين على الإعلام كان يعمل وفق نظريةٍ ساقطةٍ مضمونها أنه في الحرب كل شيء مباح وحلال ومشروع. وعليه، فإن إنتاج الأكاذيب واستخدامها والبناء عليها عمل لا غضاضة فيه، ما دام سيسّهل عملية إزاحة الرئيس المنتخب.
يتبع عبد الفتاح السيسي المنطق نفسه، في أقواله وأفعاله، إذ يتحرّى الكذب في وعوده للمستقبل، وهو يعلم أنها أوهام، وكلما سقط منها وهم، وتبخّر وعد، لا يقول إلا "أحب أن أساعد بلدي"

*** عندما تفقد الأوطان القدرة على الفرز بين الشهداء والقتلى، فهذا يعني مباشرةً أنها باتت من البلادة بحيث لم تعد تفرق بين معاركها الحقيقية ومعاركها المزيفة.. وفي هذه الحالة، أعلم أنها انتقلت من مرحلة الصراع على من يحكم إلى الصراع على من يعيش، وهي حالة، إن استطالت، تنتهي بالهزيمة الحضارية الشاملة. يسقط شهداء للقمع والفساد والإرهاب النظامي، في الداخل، فيتحوّلون، حسب التصنيف الرسمي، إلى قتلى، وربما مجرمين مدانين، لتشتغل آلة عملاقة بوقود القبح والسفالة، تطلب من المواطن الاحتفال بموت الجار أو زميل الدراسة أو القريب، لتكون المحصلة حسّاً سقيماً ووجداناً معطوباً، ليصبح الحزن والفرح محكوماً باللوائح والتعليمات الرسمية.
 لم يكن هذا الانشطار الإنساني والأخلاقي قائماً في مصر قبل ذلك، حتى في أعتى مراحل الاحتدام السياسي، حتى جاء عبد الفتاح السيسي، ليصل إلى الحكم بعقلية وأدوات قرصان محترم، ومن حوله فرق من مزيفي الوعي ومشوهي القيم، يقودون الجماهير المطحونة إلى اعتناق عقيدة التصفيق للأقوى، وإنْ كان قاتلاً، والهتاف للفائز، وإن كان مجرماً، لتنمحي الفواصل بين البطولة والجريمة المتقنة. وبالتالي، تضيع مسطرة القياس الأخلاقي، فيكافأ الجاني، ويُدان المجني عليه.

*** اخترع عبد الفتاح السيسي "الحرب على الإرهاب المحتمل" تبريراً وتسويغاً لإرهابه المتحقق ومجازره المعاشة ضد معارضي قرصنته على الحكم، وطلب تفويضاً بأن يقتل أكثر، في العمق وعلى الحدود، وتحدّث بيقين أنه قادر على أن يستأصل الإرهاب الذي استدعاه من جذوره، فرحّب به المعلمون الكبار. وهنا، استمرأ اللعبة، منطلقاً من هذا الارتباط العضوي بين بقائه في الحكم واستمرار "الحرب على الإرهاب" في سيناء، حتى خرجت اللعبة الخطرة عن السيطرة، وباتت تمثل وضعاً كارثياً يهدّد وجود الدولة نفسها، وليس أركان النظام.

*** نهضت كل عناصر الصدام بين المؤسسات والأجهزة، ليُزاح الستار عن حقيقةٍ مفجعة: مصر لم تعد لاعباً رئيسياً في تقرير مصيرها، لتتحول إلى رجل الإقليم المريض الذي تتنازعه قوى قديمة، وأخرى طامحة، وطامعة في ميراث الدور، فتتطاير المبادرات، وتنشط التحركات، ويسمع، بوضوح، ضجيح تكسير الفخار بعضه بعضاً، لتصل إلى ما يشبه اليقين بأن عبد الفتاح السيسي صار الحاكم الذي لا يحكم، مجرد "فاترينة رئاسية" تورّطوا فيها، ثم اكتشفوا أنها ملغومة بالخطر على الجميع.

*** حرق اسم الدكتور البرادعي في كتاب التاريخ، لا يختلف عن حرق منازل المعتقلين المعارضين للانقلاب في قرية البصارطة في محافظة دمياط، هذا سلوك يليق بنظام يحكم بعقلية مليشيا، تتصرّف مثل عصابات الاحتلال التي لا تترك وسيلةً لحرق حقائق التاريخ والجغرافيا، إلا وتستعملها، في محاولة لتثبيت واقعٍ جديد، جاء عن طريق الجريمة المنظمة، ويسعى بكل الجهد إلى إلغاء ما سبقه، خصوصا لو كان هذا الـ"ما سبق" يشكل تهديدا لفرص بقائه وتمدده.
هو سلوك "داعشي" بامتياز، لا يختلف عما تتناقله الألسنة عن ممارسات أمراء التنظيم في العراق، من تحطيم التماثيل وهدم الآثار وحرق التاريخ المنقوش على جدران المعابد، وتدمير الجغرافيا والبيئة، انطلاقاً من استحلال كل شيء، ما دام يساعد في فرض وجودهم، وتثبيت الواقع الذي يريدون.

*** مصر يلفها التصحر في كل شيء، حتى الخيال بات فقيراً ومعدماً وبائساً، عند السلطة، وعند مثقفيها وكذابيها، لتكون النتيجة كما ترى: فضيحة عالمية جديدة، بعد مسخرة "العصابة المتخصصة في قتل وخطف الأجانب" التي اخترعها جهاز أمن السيسي، للهروب من جريمة خطف الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، وتعذيبه وقتله
حيث الهروب من جريمة، بارتكاب جريمة أكبر، لتصبح الحقيقة الوحيدة المؤكدة الآن أن خمس أرواح مصرية أزهقت غدراً، أو ذبحت غيلةً، من أجل تقديم دماء أصحابها وجبة شهية على مائدة ترضية السلطات الإيطالية، أو هكذا توهّم الذين ارتكبوا المذبحة. ويأتي الرد ساخناً من إيطاليا، رسمياً وشعبياً: شكراً: نحن لا نأكل رواياتٍ مسمومة، ولا نبتلع أكاذيب بليدة
*** منذ بواكير الانقلاب، كان واضحاً أننا دخلنا عصر الجريمة السياسية المركّبة، متصلة الحلقات، بلا توقف، وهذا معروفٌ في علم الجريمة، حين تبدأ المسألة بسرقة (منزل أو ديمقراطية أو سيارة أو ثورة، لا فرق) وحين يشعر السارق بمن يراه، ويحاول الإمساك به، يشعل النيران في المكان، لكي يختبئ في سحب الدخان المتصاعد، وحين يضيق عليه الخناق، يقتل كل من يلاحقه، أو يحول دون هروبه.فعلتها السلطة الحالية حرفياً، منذ ارتكبت الجريمة الأولى، السطو المسلح على الحكم، فلما ظهر من يحاول توقيفها وردّ المسروقات، أشعلت حريقاً مجتمعياً وإنسانياً، استدعت من خلاله أحط نوازع الشر في البشر ثم حين تلمح إصراراً لدى من يقاومون جريمتها، تقتل ببشاعةٍ ووحشية، كما فعلت في مذبحة الحرس الجمهوري، ثم مع ارتفاع وتيرة المقاومة، تقتل على نطاقٍ أوسع، كما حدث عند النصب التذكاري للجندي المجهول، ومع تزايد رقعة الصمود في وجه جريمتها، تذهب إلى الجريمة الكبرى: مذبحتان هما الأفظع في تاريخ الإجرام السلطوي، رابعة العدوية والنهضة، وبعدهما يتحول القتل إلى عقيدةٍ، وأسلوب حياة، لدى النظام وفاشييه من المثقفين والإعلاميين والسياسيين، منهم من يحرّض على القتل والفرم، ومنهم من لا يجد غضاضةً في إعلان رغبته بأن يفعلها بيده، ويملأ جوفه من دماء معارضيه.

*** حاول النظام استثمار واقعتي التخلص من توفيق عكاشة وأحمد الزند، في إيهام الناس بأنه ليس سليل التطبيع والفساد، فبدت عملية "شلح" الأول برلمانيا، والثاني وزاريا، وكأن عبد الفتاح السيسي يقود الحرب ضد رجال إسرائيل، ورجال الاستبداد القضائي، غير أنك لو دقّقت جيداً ستكتشف أن المحصلة أنه أطاح مطبعاً ضئيلاً لكي يحافظ على حرارة التطبيع في معدلاتها التي يريدها، كما ضحّى بالزند، لكي يحتفظ بنظام الزند القضائي.
ليس عليك إلا أن تنظر في الثمن الفادح الذي دفعه القضاء المحترم، مقابل إنزال الزند من حافلة السلطة، مذبحة أطاحت عشرات القضاة، وعزلت رئيس الجهاز المعني بمكافحة الفساد، المستشار جنينة، كي تستمر منظومة الزند القضائية فاعلة وحاكمة.

*** لعلك تتذكّر تلك الأيام من الشهر الأخير من العام 2012: أقال الرئيس المنتخب، محمد مرسي، نائب عام حسني مبارك، المستشار عبد المجيد محمود، بموجب إعلانٍ دستوري، فرضته ظروف عدم وجود مجاس نيابي، فانتفض نجوم ثورة يناير وأيقوناتها، وقالوا إن "شرعية الرئيس سقطت" بإصداره إعلاناً دستورياً يحقق مطلباً ثورياً، ظل مرفوعاً في ميادين التحرير أكثر من ثلاثين شهراً، ونادوا في الجماهير، لكي تبدأ الزحف المقدس إلى قصر الاتحادية، ومحاصرة الرئيس والمطالبة بإسقاطه عن الحكم.
الآن: أقال قائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، بموجب فرمانٍ، هو للبلطجة وممارسات التشكيلات العصابية أقرب منه إلى الأعراف الدستورية، فلم تصدر عن "بقايا ثوار يناير" سوى همهماتٍ خجولةٍ وتغريدات مرتعشةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن يجرؤ أحد على الإقدام على "فعلٍ" محترم، أو يدعو إلى تظاهرةٍ أو وقفةٍ، تضامناً مع الرجل الذي قرّروا نحره بسكين الفساد.

العمى الثوري واللدد في الخصومة، آنذاك، وصل ببعضهم إلى أن يدهس كل قيم الثورة الراسخة في الوجدان، وينسف شعاراته وهتافاته القديمة، إذ كانت مرحلة تشنجاتٍ ثوريةٍ تجعل أصحابها لا يتورّعون عن الانقلاب على كل ما نادوا وحلموا به سابقاً.

هل يجرؤ أحد من صقور الغضب ضد عزل نائب عام حسني مبارك، أن يدعو الناس إلى الاحتشاد ضد البلطجة التي يمارسها ورثة مبارك على رجلٍ كل جريمته أن يده امتدت إلى إغلاق صنابير فساد زمن مبارك العائد بشراسة؟

*** ذهاب بعض السياسيين إلى افتراض أن هذا النظام، بعد كل هذا الكم من الجرائم والكوارث التي صنعها، يمكن أن يستقرّ في ورش الإصلاح السياسي، هو نوع من العبث، يقترب من مرحلة الدجل السياسي والانسلاخ من المنطق ومن العدل بالكليّة.
وقائع السنوات الثلاث في مسيرة الانقلاب العسكري تقول إن هذا نظام يستعصي على الإصلاح، فضلاً عن أن التعاطي مع جرائمه، باعتبارها أخطاءً، لو تم إصلاحها، فلا غبار عليه، هو، بحد ذاته، إقرارٌ واعتراف وإذعان للجريمة، وتسليمٌ بنتائجها، ومكافأة للقاتل والمعذِّب على فظائعه، إنْ أقدم على بناء دار عبادة أو افتتح داراً خيرية، أو منح أطفال ضحاياه ألعاباً ووروداً.

*** وصل الحال بمصر أن أصبح نظام الحكم فيها جسراً أو قنطرة للعبور إلى كسب ود إسرائيل، ومن ثم الحصول على تأييد اليمين واللوبي الصهيوني، المؤثر للغاية في حسم نتيجة انتخابات الرئاسة. نعم، بات الطريق إلى إرضاء اليمين داعم إسرائيل يمر عبر عبد الفتاح السيسي، نور عين إسرائيل، وطفل الحاخامات والجنرالات المدلل، والأوْلى بالرعاية والعناية المركزة، في هذا الظرف الدقيق الذي يبدو فيه في مهب ريح الرأي العام الأوروبي. زيارتان يمينيتان في توقيت واحد، لانتشال طفل الاستبداد من ورطته، يأتي وفد الكونغرس، أولاً، ثم يتبعه العاهل السعودي، بوفدٍ موسع، الأمر الذي جعل قرود الانقلاب ترقص فرحاً فوق أشجار الفاشية، فيطلب مصطفى بكري تخصيص جلسةٍ برلمانيةٍ لتكريم ملك السعودية، على خدماته الجليلة لنظام عبد الفتاح السيسي.

*** "سيف اليزل"، الذي كان حاضراً ومشاركاً بقوة وحماس شديدين في تغذية وإدارة الهولوكوست الذي يشوي مصر، تاريخاً وجغرافيا ومجتمعاً إنسانياً، منذ قرّر عبد الفتاح السيسي الانقضاض على السلطة، بالقوة المسلحة، والدعم الصهيوني، والتمويل السخي من أنظمةٍ عربيةٍ كارهة للثورات والتغيير.
سامح سيف اليزل، لا تجد أكثر من الحضّ على الفاشية، والتحريض على المقتلة والتكريس لوطنيةٍ فاسدةٍ ومبتذلة، تجسّدت في وقائع لقاء بين سيف اليزل وجنرالات صهاينة سابقين ( منهم عاموس جلعاد، وهو أهم شخصية أمنية لدى (إسرائيل) كما حضر نائب وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، أفرايم سنيه ونائب مدير دائرة الشؤون الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، إلياهو سيخاروف) ومانحي أرز مضاد للثورات، انعقد في العاصمة البريطانية بعد أسابيع من انقلاب السيس وكان الموضوع هو إجهاض عمليات التحول الديمقراطي في أكثر من بلد عربي

***  بقي أن يفهم الشعب السيساوي المغيّب، أن الوقوف ضد الممارسات الإجرامية لمن يحكمون مصر بقيم العصابات المنظمة وعقليتها، لا يعني الوقوف ضد مصر، ولا شماتةً أو تشفياً في الوطن المنكوب بهؤلاء، بل إن من يحب مصر حقاً لا يتمنى لها أن تبقى رهينةً للقبح والفشل والظلم، ويسعى إلى تحريرها من قبضة الذين أهانوها وقيّدوها بالسلاسل والأغلال، وجعلوها تبدو على هذه الصورة البائسة أمام العالم.
وأكرّر أننا نحبها فنقف ضد نظام يبتز الذين أصابهم الهم والغم على وصوله بها إلى مصاف الدول الأكثر فشلاً، باتهامهم بالشماتة، وتنتفي فيه الفوارق بين "البيان الرسمي" و"الجنون الرسمي"، ويردّد، طوال الوقت، أن كل سكان الكرة الأرضية يتآمرون عليه.
في نظام بهذه المواصفات البائسة، يصبح الصمت على الإهانة الدولية التي يعرّض لها مصر نوعاً من الخيانة، فارحمونا من وطنيتكم المبتذلة، وحديثكم التافه عن الشماتة والتشفي .

*** في ظل سلطةٍ تحمل جوالاً على ظهرها، وتدور في أزقة السياسة الدولية. تمد يدها، فإن عادت فارغة، مدت ألسنتها وأذرعها، تنهش من لا يستجيب لطرقاتها الطائشة على الأبواب والنوافذ.
قبل أن تحط طائرة العاهل السعودي في مطار القاهرة، كان عبد الفتاح السيسي يطلب من معاونيه إخراج صور وماكيتات "العاصمة الإدارية الجديدة"، أو أكبر أوهامه منذ اعتلى السلطة، ويستدعي المصورين لصناعة لقطاتٍ مخصصة لاستقبال المانح الأكبر، يظهر فيها الجنرال وهو يتابع "عن كثب طبعاً" مراحل تنفيذ الحلم الكاذب.
لاحظ دلالة التوقيت، وقل لي: هل هناك أكثر من ذلك رخصاً؟

*** تتساءل عن هذه السلاسة في التخلي عن جزيرتين، دفعت فيهما مصر آلافاً من شهداء الجيش في صيف العام 1967، واعتبرت المؤسسة العسكرية، في زمن حسني مبارك، الاقتراب منهما خطاً أحمر، لما لهما من أهمية استراتيجية وعسكرية، تجعل المساس بهما جريمة. يدهشك أكثر هذا الصمت الإسرائيلي الذي يشبه الرضا على انتزاع الجزيرتين من حضن العسكرية المصرية، بقرارٍ مباغت من ذلك الشخص الذي تعتبره تل أبيب بمثابة "تحويشة العمر"، أو الهدية التي نزلت لها من السماء، وأن تخرج "معاريف" الصهيونية، في اليوم التالي، لتوقيع صك منح الجزيرتين، لتقول "لا للتخلي عن عبد الفتاح السيسي". غير أن أكثر ما يصيبك بالغم والنكد أن الستار يرفع عن حقيقةٍ موجعةٍ تقول إن مصر صارت يتحكّم بها "قرصان واحد"، يبيع ويتنازل ويمنح، ويؤدي فقرة "عجين الفلاحة" أمام كل من يساعده على الاحتفاظ بكرسي حكمٍ مصنوع من جماجم شعبه.

*** سأفترض أن مصر السيسية تابت عن الحرام السياسي والتاريخي والجغرافي الذي تتمرّغ فيه منذ جاءت على أنقاض ثورة يناير/ كانون ثاني 2011. وسأغمض عيني عن عشرات الوثائق والشهادات التي تثبت أنهم اقتطعوا من لحم مصر الحي جزيرتين، وتنازلوا عنهما ثمناً لزيارة ملكية، أرادها نظام السيسي سفينة إنقاذٍ له من الغرق. سأصدقكم، وأخاطب فيكم ضميركم المستيقظ، واندفاعكم نحو التوبة عن الإيمان بوحدة تراب مصر، وقدسية حدودها الثابتة منذ قرون عديدة.
بمناسبة هوجة رد الحقوق، من حقنا أن نتساءل عن حقوق المغتصبات في السجون، وحقوق الأطفال الذين شابوا في المعتقلات، وحقوق الشهداء الذين تساقطوا في الميادين والزنازين. وعن حق رابعة العدوية التي أحرقتم اسمها في كتاب التاريخ، كما حرقتم جثث الذين صلوا في مسجدها واعتصموا حوله.وأموال المصريين التي استولت عليها سلطات الجنرال وصادرتها، لا لشيءٍ إلا لكون أصحابها يعارضون الانقلاب.

*** الآن، وبعد أن انتصر محمد مرسي، من محبسه، على كل الكذّابين المتخرصين المرجفين، وثبت أن كل ما لفقوا له من جرائم، لم يرتكبها، عادوا ونفذوها هم، مع سبق الإصرار والترصد.. أليس من واجبك أن تمتثل لنداء المرايا، وتقف أمام ضميرك، تراجع كل ما ردّدته، ولكته وهتفت به، كأنك واقع تحت تأثير مخدر فتاك؟ هل تمنح نفسك فرصة أن تتعامل معها باعتبارها نفساً بشرية، لا رأس فأر تجارب، وتسألها: من باع أرض سيناء للفلسطينيين، ومن باع النيل والأهرامات لقطر، ومن مدّ يديه صاغراً ذليلا، فلم يعد مؤهلاً لأن يمد قدميه في المكان الذي يريد، والوقت الذي يريد، وتحول إلى دمية، أو لعبة أطفال ناطقة، بما يريده اللاعبون؟

*** مازلت أذكر ذلك المشهد في القاعة الكبرى، المخصّصة للجلسة الافتتاحية للقمة العربية في الدوحة، الوحيدة التي شارك فيه رئيس جمهورية مصر العربية، المنتخب بعد ثورة شعبية، الدكتور محمد مرسي، حين ألقى كلمة اهتزت لها جنبات القاعة، إذ دوّى صوته غاضباً، محذراً من الأصابع الصغيرة، الممدودة للعبث بمصر.


كان ذلك في مارس/ آذار 2013، في ذروة اشتعال الثورة المضادة، المدعومة من القوى الإقليمية الكارهة للتغيير، تخطيطاً وتمويلاً وإدارة، ورأيت القرار، قرار التعجيل بالانقلاب عليه، مطبوعاً على الوجوه الصفراء، داخل القاعة، فامتعض وجه بعضهم، وغادر آخرون.


قرّروا الإسراع بالتخلص من هذا الذي يريد أن يحرّر مصر من "سجن شرم الشيخ"، مصر الفندق والشاليه والكباريه، مصر التي أعادوها "قريبة ورخيصة" فيما بعد، تبيع الأرض، وتؤجر السيادة بالساعة، وكان التنفيذ في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وتكالب اللاعبون بأصابع اليدين والقدمين على الفريسة، بكل نوازع الانتقام ورغبات الإهانة والإيذاء، فهيمنوا على القرار، وسيطروا على الرأس بالتحكم في المعدة المسعورة، الشرهة لكل أنواع الطعام الحرام.


أعادوها مكسورة العين، خربة الوجدان والبنيان، حتى بلغت روحها حلقوم الانهيار الشامل، تلك اللحظة النموذجية لتفعيل المثل الشعبي البليغ "إن خرب بيت أبيك خذ لك منه قالب"، ليسرع الشطار إلى الفوز بما علت قيمته ورخص ثمنه، كل يقضم قطعة، قبل السقوط التام.


ليس بعيداً عن الحقيقة القول إن قرار التخلص من محمد مرسي تم اتخاذه قبل أن يفكّر محمد مرسي نفسه في الترشح للرئاسة، إذ بدأ التفكير في إحراق الإسلام السياسي غير المتناغم، على نحو كامل، مع معادلات الشرق الأوسط التقليدية، عقب صعوده اللافت مع ثورات الربيع العربي.


في ذلك الوقت، توافق اللاعبون الدوليون الكبار، وصغارهم الإقليميون، على أن أفضل طريقة لحرق هذا التيار وضعه في أفران السلطة، ثم إغلاق كل النوافذ والأبواب عليه، حتى يشتعل ويتفحم. كان السيناريو: دعوهم يصلون إلى السلطة، عبر طريق ديمقراطي سليم، ثم احبسوهم داخلها، ولفوا حبال الفشل على رقابهم، ثم أحكموا الخناق، حتى تزهق روحهم.


وهذا ما حدث، إذ حضر الإقليميون إلى ساحة المعركة، مدجّجين بالنفوذ والمال والرغبة في الإيذاء والانتقام، وموّلوا كل مشاريع الخراب والانهيار، بالدولار والسولار، وأداروا كل شيء، عبر رجالهم المطيعين، من الإعلام إلى رغيف الخبز وأسطوانة البوتاغاز

*** أسقطت تظاهرات أمس أسطورة الزعيم الجماهيري، وأكّدت أننا بصدد زعامة وهمية، أو كارتونية هشة، ليس فقط بالنظر إلى ضخامة الحشود وتنوعها السياسي والمجتمعي، وإنما لأن متغيراً إنسانياً هائلا قد وقع، بحيث يمكن اعتبارها "جمعة استعادة الحالة الإنسانية"، حيث تمرد من يعرفون باسم "المواطنين الشرفاء" على تلمود الهمجية والفاشية الذي وضع نصوصه الجنرالات وعبأوهم بها، فلم نسمع عن حكايات الإجرام الشعبوي التي تمارسها مليشيات البلطجة، المدعومة من النظام، ضد المتظاهرين، ولم نشاهد "مليشيات الحشد السيسي" تعتدي على الجماهير بالأسلحة البيضاء والسوداء، كما رأيناها في مناسباتٍ عديدة، برزت فيها أنياب الثورة المضادة.


هذا يعني، في تقديري، أن التآكل في طبقة الإيمان الأعمى بجنرال حمدين صباحي "القوي الأمين" بلغ مراحل متقدمة للغاية، جعلته يفرّ مع شبابه المزيف إلى عمق صحراء البحر الأحمر.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 246 مشاهدة
نشرت فى 9 مارس 2016 بواسطة news2012

صحافة على الهواء

news2012
نتناول الموضوعات السياسية والعلمية والدينية والإجتماعية على الساحة الداخلية والخارجية وتأثيرها على المجتمع المصرى »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

126,510