هذه المادة تمثل تأكيداً لبعض ما جاء في المادة التي تم نشرها سابقاً , وهي مادة " الكوى الضيقة " وقد أشرت في مادتي السابقة أننا أمام مشكلة حقيقية تواجه التربية في مجتمعاتنا اليوم هذه المشكلة هي نتيجة منطقية لاجتماع عدة عوامل هي على الشكل التالي : - كسوف دور الأسرة - تراجع مستوى التربية في المدارس نتيجة الضعف النوعي في كوادرها البشرية و تجهيزاتها المادية وعدم قدرتها على مواكبة العصر . - الانفتاح على معطيات العصر دون ضوابط أو توجيه . وسأبدأ بمناقشة هذه العوامل كلٍّ على حِدة : أولا : كسوف دور الأسرة : الأسرة هي الخلية الأولى التي يبدأ فيها البناء , وتشكل في مجتمعاتنا حاضنة أساسية للأولاد على مدى عقدين من الزمن وسطياً . ولا شك أن ما تقدمه الأسرة لأبنائها مهم بشكل عام ولكن تبقى المرحلة الأهم منه هي تلك الفترة التي تمثل مرحلة الطفولة المبكرة وصولاً إلى سن المدرسة . إن ما تقدمه الأسرة لأبنائها في مرحلة الطفولة المبكرة يعد الركيزة الأساسية التي تبنى عليها مكتسبات السنوات التالية , وإن أي خلل في هذه المرحلة يصبح من الصعب ترميمه لاحقاً . ويفترض أن يتعلم الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة قيم ومهارات أساسية كاللغة , ارتداء الملابس , احترام الآخرين , النظافة , المشاركة , التمييز بين الخير والشر , الاستقلالية . وما إلى هنالك من أساسيّات يطلق عليها الباحثون اسم الانتماء الفطري . عندما تتم هذه المرحلة بسلام فإن فرص نجاح المرحلة التالية ستكون كبيرة جداً , ذلك أنها بنيت على قاعدة متماسكة ومتينة . وتساعد الأسرة عادة في تثبيت بعض المبادئ الأخلاقية سلباً أو إيجاباً وما تغرسه الأسرة في تلك الفترة يصبح من الصعب استئصاله ولكن ما يحدث اليوم أنّ دور الأسرة يواجه تراجعاً ملموساً في مختلف المجتمعات هذا التراجع أو الكسوف له في مجتمعنا أسباب عديدة . وقد تمكنت من خلال ملاحظتي لعلاقة مجموعة من الأسر بأبنائها لعدة سنوات مضت ( علماً أن هذه الأسر تنتمي إلى شرائح مجتمعية مختلفة ) أن أخرج بالنتيجة التالية : إنّ تراجع دور الأسرة أصبح حالة عامة لا يتميز بها الغني دون الفقير ولا الجاهل دون المتعلم . ولدى محاولتي استقصاء وجمع أسباب هذا التراجع وجدتها على الشكل التالي : 1- ينتاب بعض الأهل اليوم شعور بالغربة واليأس تجاه مسؤولية تكوين وعي الطفل , خصوصاً أمام هذا الكم الهائل من المعلومات الذي تصبه أمامهم معطيات التكنولوجيا اليوم . 2- يلعب غياب التوازن النفسي لدى نسبة كبيرة من الأهل دوراً كبيراً في فقدان قدرتهم على تحمل أعباء الأسرة بما فيها مسؤولية تربية الأبناء . 3- ولا يتناقض ما قلته عن كون هذه الحالة حالة عامة مع الاعتراف بأن العامل المادي يعد أساسياً ويتساوى تأثيره السلبي في حالة الزيادة معه في حالة النقصان , ذلك أن نقصان المادة في الأسر الفقيرة قد يكون سببا في الإحباط والنقمة اللذين يصبان تأثيراتهما السلبية على الأبناء وفي حالة الزيادة فالترف المادي الذي يورث الفراغ قد يكون أحد أكبر عوامل الانحلال الأخلاقي . وعلى كل حال فإنّ رصد هذه الظاهرة ومقارنة نسبتها بين الأغنياء والفقراء يحتاج إلى إحصائيات دقيقة وموضوعية أعتقد أنني سأعمل على إنجازها في مرحلة قادمة . 4- فقدان دور الأهل كمصدر أساسي للمعرفة في مراحل مبكرة من العمر وهذا ما سنأتي على تفصيله في معرض حديثنا عن تأثير التقنيات الحديثة في التربية في مادة لاحقة . 5- العاطفة : تلعب العاطفة دوراً أساسيا في تربية الأبناء وبناء شخصياتهم و نحن أمام مشكلة حقيقية في كيفية تقديم هذه العاطفة والجرعات التي تُقدم بها إذ يتأرجح الأمر بين الإفراط وهو ما يسمى بالدلال وله نتائجه السلبية التي تدمر شخصيات الأبناء فالطفل المدلل ليس بالضرورة طفلاً سعيدا أو طفلا سليماً .. وبين المنع أي عدم القدرة على التعبير عن العاطفة وهو خطير جداً , فأبناؤنا الذين نشكل بالنسبة إليهم الرمز الأول للحب بحاجة تعبيرنا لهم تعبيرا صريحا عن هذا الحب . إن غياب جو الحب في الأسرة سواء بشكل مقصود أم غير مقصود يدفع الطفل للبحث عن بديل , وقد يجيء هذا الرد مبكراً أو قد يتأخر حسب درجة حساسية الطفل , وليس الانحراف أو الطموح إلى المال أو الشهرة سوى بدائل عن فقدان الحب . 6- يقول غوته " إن الشعور بوجود من يحبنا يمنحنا قوة أعظم مما تمنحنا إياه معرفة قوانا الذاتية " 7- ردة فعل الأسرة تجاه الشّك في قناعاتها : غالبا ما تكون ردة فعل الأسرة عنيفة وسلبية تجاه الابن الذي يحاول الشك بقناعاتها , وهذا يؤدي إلى الكبت في حالة الطفل وإلى عقد نفسية تتضخم مع الزمن , وفي حالة المراهق أو اليافع قد تؤدي إلى انفصاله عن الأسرة نهائيا هارباً بشكوكه وتساؤلاته منهم محاولا إثباتها بعيدا عن سقف عائلته .. وهذا ما قد يعرضه للخطر في حال لم يكن في سن تؤهله لذلك . لهذا يجب أن ننظر إلى الشّك الذي يبديه الأبناء تجاه قناعات الأسرة على أنه حالة إيجابية .. قد ينتج عنها نوع من التمرد الإيجابي وهو الذي يوصل عادة إلى الاستقلالية ثم الاختيار السليم وبالتالي إلى الخلق والإبداع ولكن فقط إذا تم التعامل معها بهدوء وعقلانية من قبل الأسرة . لماذا نربي أبناءنا ؟ يجب أن ننتبه إلى نقطة هامة وهي أننا نربي أطفالنا ليصبحوا كباراً وليس كي يظلوا أطفالاً , هذا يعني مساحة مدروسة من الحب والحرية تسمح لهم بتكوين شخصياتهم المستقلة , كما يجب أن ندرك أن هذا الكائن المسمى طفلا لن يتوقف عن النمو إن أخفقنا في أداء دورنا كما يجب , ولكن كيف سيكون المنحى الذي سيأخذه نموه عند ذلك ؟ وهنا على الأهل أن يتنبهوا إلى خطأ شائع في أسلوب التربية ألا وهو : 8- مدى معرفتي للغاية التي أربي من أجلها طفلي , هل أربيه من أجله أم من أجلي ؟ يقول أحد الباحثين : " إننا نربي كي لا نموت , نحاول الحفاظ على نوع من الخلود من خلال تربية الأطفال كما يحقق الفنان الخلود من خلال لوحاته " إنه الخطأ الذي نمارسه بغالبيتنا - ولو لم نعترف به - نحن نبني أبناءنا لأجلنا لا لأجلهم , ولذلك فنحن نحاول أن نرسم صورة لمستقبلهم من قبل أن يولدوا , دون أن يكون لهم رأي فيه ونرغمهم على التشبه بهذه الصورة .. هذه الكائنات الصغيرة التي أحضرناها إلى العالم استجابة لرغباتنا , قد تمضي حياتها بأكملها أسيرة لهذه الرغبات .. إن ّالأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع , ولا يجدي العمل على أحد أجزائها وهو الطفل وتجاهل الجزء الآخر وهو الأهل .. وأي تغيير في المجتمع لا يمر عبر الأسرة ككل هو تغيير محكوم بالفشل . إن العمل يجب أن يكون متكاملا بشكل يسمح لنا أن نبني مستقبلاً أفضل دون أن نضطر للتضحية بالحاضر . يتبع أصداء الوطن - نسرين حسن
المصدر: موقع أصداء الوطن
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 358 مشاهدة
نشرت فى 11 نوفمبر 2011 بواسطة nesreenalsham

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,830