د. أكرم حجازي
ما من لحظة في التاريخ العربي الإسلامي تماثل اللحظة التي تمر بها الأمة اليوم. لحظة وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قائلة بأن: « منطقة الشرق الأوسط تواجه عاصفة بكل معاني الكلمة». وهو توصيف يعني أنه لا يمكن السيطرة على « العاصفة » ولا التكهن، بسهولة، في نتائجها قبل أن تهدأ. كما أن التوصيف ينطوي على الشعور بالخطر على مصير النظام القائم في المنطقة أو مدى الضرر الذي سيلحق به إذا ما اشتدت « العاصفة » أو تواصلت رياحها.
كنا قد أشرنا في سياق العديد من الكتابات السابقة عن سمات النظام السياسي القائم في المنطقة، وبعض أخطر الثغرات فيه. لكننا لم نخصص، وللأسف، مقالة خاصة عنه. ومنذ بدء وقائع الثورة المصرية فضلنا الانتظار لما بعد رحيل الرئيس المصري قبل أن نتعرض للموضوع. لكن في ضوء محاولات الالتفاف، المقصودة أو غير المقصودة، على الثورة المصرية؛ وفي ضوء ضخامة العاصفة صار لزاما علينا التوقف قليلا والتمعن في أهم ميزة تجعل من النظام السياسي، على الدوام، متمتعا بالكثير من الاطمئنان تجاه التهديدات التي يواجهها. إنها ميزة الاحتكار الكلي للسلطة، ومنع ظهور القيادات المنافسة في الدولة والمجتمع. وهي الميزة التي وضعت النظام خارج المساءلة تاريخيا، وعرِّضت كل محاولة للتحرر أو الإفلات من الهيمنة إلى الخطر والإجهاض.
أصل النظام
الصراع مع الروم وقوى الاستبداد والشر قائم إلى يوم الساعة. ولقد تعب الروم لقرون طويلة في التخطيط والعمل حتى نجحوا في تصميم نظام سياسي يمكن بواسطته اعتقال الحكام والشعوب العربية والإسلامية فترة طويلة من الزمن، ومحاصرة أي انعتاق أو تقدم لهم. وقد تَحَقَّق لهم هذا في هزيمة الإمبراطورية العثمانية، وفي إلغاء نظام الخلافة الإسلامية، وفي صورة معاهدة استعمارية جرى بموجبها تفتيت العالم العربي بكل مكوناته وفق منظومة « سايكس – بيكو». ولأن التفاصيل في المسألة واسع النطاق والمحتوى، إلا أنه يمكن الإشارة فقط إلى حركات التحرر التي انطلقت مع حلول القوى الغربية في المنطقة كنموذج للخداع الذي تعرضت له الأمة. فرغم أن القوى الاستعمارية هي من أرسى التفتيت وبنياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا أن القوى المحلية وحركات التحرر المسلحة سرعان ما وقعت في فخ الأطروحات الاستعمارية ذاتها لما نادت بالقومية والشيوعية والوطنية ورفعت شعارات الحرية والاستقلال الوطني وحق تقرير المصير ... وهو ما جاءت به القوى الاستعمارية أصلا لتحقيقه.
لكن أخطر ما في « سايكس – بيكو»، التي طبقت مباشرة على بلاد الشام والعراق، أنها تضخمت على نحو لا يمكن تصوره، حتى أنها استقرت في عقول العامة والخاصة على السواء، وغدت حالة ثقافية، وعنوانا حضاريا ومعطىُ أشد قداسة من دين الله عز وجل. وتبعا لذلك صار كل مسلم يفتخر ويعتز بوطنه من إندونيسيا وماليزيا إلى مراكش، بل وأصبح للحارات والأحياء موسوعات تتحدث عن حضارات لها ما قبل التاريخ.
لا يهمنا هنا البحث عن مصادر الشرعية التي حصل عليها « النظام» طوال عقود. لكن في البداية لا بد من الانتباه جيدا إلى أن هذا « النظام» جرى تصميمه:
(1) باعتباره نمط مجتمعي نموذجي مقبول، وسهل للمعيش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإنساني لمجموعة بشرية في مساحة جغرافية معينة؛ اشتهرت باسم الدولة الفلانية وشعب الدولة الفلاني. بل أن بعض الدول لم يكن عدد سكانها يزيد عن بضعة عشرات من الآلاف صارت تطلق على سكانها لقب أمة! ورغم أن النمط محصلة تاريخية لعملية استعمارية صارخة إلا أنه حظي بالشرعية والحصانة حتى من السكان بمختلف فئاتهم، إلى أن بدا خارج الاستهداف حتى هذه اللحظة.
(2) وباعتباره مجموعة آليات اشتغال فعالة. بقاؤها واستمراريتها مرهون بما (أ) يفرزه النظام من قيم وثقافات محلية مهمتها ترقية وجود النظام وترسيخه، أو بما (ب) يقدمه، عبر هذه الآليات، من خدمات وامتيازات للأفراد والفئات والتشكيلات الاجتماعية المكونة له.
(3) وباعتباره قوة غير مرئية، خفية الملامح والتشخيص والسيطرة والتحكم، تفوق قوة المجموعة البشرية التي تعيش في ظله، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. لذا فهو غير قابل للطعن أو التفكك أو الانهيار. لذا فإن توقع انتفاض السكان على « النظام»، بهذه المواصفات، أو سحب الشرعية منه أو الانفضاض عنه يبدو ضربا من الخيال. كما أن تجريم العيش في « النظام» أو الانتماء إليه أو الانتفاع بمؤسساته ليس معقولا أبدا، ولا يمكن أن يكون مجديا طالما أنه تعبير عن « نمط مقبول» و« آلية اشتغال فعالة» و« قوة خفية » تجدد اشتغالها بنفسها بغض النظر عن أية ضغوط أو تدخلات.
إذن لـ « النظام» منطق لا يصح تجاوزه أو التلاعب به بسهولة. فهو يشتمل على العديد من البنى والأنظمة المعقدة كالنظام الاجتماعي والنظام السياسي والنظام الاقتصادي والنظام الثقافي والنظام القيمي وغيرها من نظم المعيش والحياة. لذا فهو أقوى وأعلى مرتبة من أي نظام يحتويه، بل وأقوى منها مجتمعة. والحقيقة الثابتة هي أن المجموعات البشرية لا يمكن أن تجتمع إلا على المنافع والمصالح المتبادلة في إطار تصيغه وتحكمه وتوجهه العلاقات السلمية لولا تدخل القوى في التأثير على نمط المعيش. لذا فالمشكلة ليست في وجود النظام بحد ذاته. فهو حاجة إنسانية يمليها الطبع البشري وليس العقائد أو الأيديولوجيات. وكما يقول ابن خلدون فـ «الإنسان مدني بالطبع». فما الذي يجعله، إذن، متوحشا؟
خارج المراقبة
الإجابة على السؤال تكمن في وجوب التمييز بين « النظام» بمجمله والنخبة التي تسوسه وتديره، أو ما يسمى بـ « النظام السياسي» الحاكم. وبما أن النظام في صيغته الجديدة هو محصلة لتدخلات استعمارية فمن الطبيعي أن يكون النظام السياسي خاضعا لنفس التدخلات. ومع ذلك فالقوى السياسية التي ناهضت النظام السياسي تاريخيا سواء كانت إسلامية أو علمانية كانت تستهدف، على الدوام، « النظام السياسي» وليس « النظام» العام. وهذا الأخير لم يسبق، ولا مرة واحدة، أن تعرض لاستهداف في مشروعيته أو في مشروعية وجوده.
المشكلة تكمن في الكشف عن الخصائص البنيوية للنظام السياسي، والتي هي جوهر استمراريته في السلطة دون منافس يذكر. فالنظام السياسي جرى تصميمه وتشغيله تاريخيا بموجب معادلة ثابتة تجعل منه « هامشا » يدور في « المركز» ولا يحيد عنه. فهو دولة ومجتمعا وسلطة ليس سوى « شأنا داخليا» من شؤون المركز. لذا من العجيب تصور البعض أن يكون «الهامش» مستقلا أو ذا سيادة. وحتى الغرب نفسه، وأعتى مفكريه لا يقولون بهذا. بل أن أحدا لا يقول به إلا نحن العرب. ولقد كان لافتا للانتباه ومثيرا إلى حد الدهشة أن يخرج المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي معلقا في صحيفة « الجارديان– 5/2/2011» البريطانية على وقائع الثورة المصرية وموقف الغرب منها بالقول:
« إن ما يقلق واشنطن ليس « الإسلام المتطرف» بل نزوع دوله إلى الاستقلال ...أمريكا تولي أهمية ثانوية لطبيعة أي نظام تدعمه في العالم العربي، فالأهم عندها هو السيطرة عليه، ورعايا تلك الدول يتم تجاهلهم حتى يكسروا القيود بأنفسهم».
تصريح هو الأبلغ تعبيرا عن الحالة التي نعيشها في أيامنا هذه، ومن المؤسف أن يصدر عن جهات غربية بينما يجد من يتنكر له، بنفاق واضح، مَنْ هم من بني جلدتنا. لا شك أن الشكل الظاهري للدولة هو الاستقلال. لكن الواقع أن الدول لم تخرج من الاحتلال منذ « سايكس – بيكو» حتى الآن. ولو بدا في بعض الأحايين ثمة مظاهر استقلال وطني أو إرادة سياسية إلا أنها فعليا شكلية لا أثر لها أو مفقودة تماما، أو على الأقل تحت السيطرة والمراقبة الدقيقة والدائمة.
هذه هي الحقيقة بلسان واحد من أعتى المفكرين في الغرب. أما بلسان عربي مبين فلا يخفى على متابع أن النظم السياسية العربية لا تسمح البتة بأية منافسة تُذْكر للسلطة القائمة، حتى لو أدى الأمر إلى فتح ملف أمني لكل فرد في الدولة مهما علت مكانته أو انخفضت منزلته. فليس ثمة وجود لأحزاب سياسية إلا بوصفها ديكورات أو أدوات للسلطة. وليس ثمة وجود لمجتمع أهلي حر، ولا لمؤسسات أو منظمات غير حكومية يمكن الإشارة إليها بالبنان، ولا لشخصيات علمية أو دينية أو ثقافية أو زعامات محلية أو شخصيات اجتماعية نافذة أو ذات مكانة في المجتمع، ولا حتى لقبيلة إلا في السلطة أو على هامشها.
هكذا حال! لا يمكن لأحد أن يزعم فيه، ولو بعشر الحقيقة، أن الدولة أو المجتمع تحت المراقبة. بل أن الحقيقة .. كل الحقيقة أن المؤسسة الوحيدة العاملة هي مؤسسة الأمن. والأمن هنا ليس سوى منظومة طاغية تلزم الدولة، بكل تشكيلاتها بما فيها الجيش، وكذا المجتمع بكل تشكيلاته الاجتماعية ومنظوماته، بالعمل على سلامة النظام السياسي بقطع النظر عمن يتولى أعلى هرم السلطة. وهذا يعني ببساطة أن الدولة والمجتمع ليسا إلا مشاعا مستباحا فقط للمركز، أو لمن يمتلك السلطة، ويحتكر كل المرجعيات فيها. وعليه فلما يرفض أي نظام سياسي الاحتكام إلى أية مرجعية سياسية أو دينية أو علمية أو ثقافية أو أخلاقية أو قيمية أو إنسانية أو دستورية فلا يمكن أن يكون إلا تعبيرا عن عصابة متسلطة وليس نظام حكم. ويكفي أن يخل بواحدة من المرجعيات حتى يتبين مدى استعلائه على غيرها واستهتاره بها. فكيف يكون التفاهم مع نظام لا يرى أنه مسؤول أمام أية مرجعية عن أفعاله وسياساته في الدولة والمجتمع؟ وبماذا يمكن توصيف مثل هذا النظام بغير العصابة؟
أمة بلا قيادات
لما دخلت الفلسفات العلمانية، وخاصة الشيوعية منها إلى العالم العربي، والداعية إلى تثوير الجماهير، طرحت تساؤلات كثيرة عمن يتولى قيادتها، ونظّر فيها المنظرون عن الطرق الكفيلة بصناعة القيادات من رحم المعاناة والثورة، وقالوا بأن تثوير الجماهير كفيل بقدرتها على فرز قياداتها. وثبت بالدليل القاطع كيف فشلت الثورات والحركات الوطنية فشلا ذريعا، هي وأطروحاتها، وانتهت إلى المساومات والتراجعات والانهيارات وحتى العمالة. ولم يقل لنا هؤلاء أين هي القيادات التي تحدثوا عنها؟ ولم يطرح أحد منهم هذا السؤال على نفسه: لماذا فشلنا؟ ولماذا تحول الكثيرون منا إلى عملاء؟ ولماذا بحثنا عن الامتيازات والمغانم على حساب الأمة وعقائدها؟ ولم يخرج ولو قائدا واحدا ليعترف بالفشل ويقول: لقد أخطأنا ونعتذر للأمة. كل ما وقالوه، بوقاحة أو ببلاهة، أن: العالم تغير.. وعلينا أن نكون براغماتيين .. علينا أن ننضج .. هل سنحارب مدى العمر؟ .. نعم حصلت أخطاء لكن الثورة مستمرة .. علينا أن نعود إلى الأصل .. لقد عانينا كثيرا وعانى الناس ..
أما الذين لم يسبق لهم أن تواجدوا في الأمة، أو تآمروا عليها، وخذلوها، وأحبطوا فيها كل مسعى، أو بارقة أمل فقد رأوا في هزيمة هؤلاء فرصة ذهبية للشماتة بهم، وتبرئة أنفسهم مما لحق بها من عار حتى أنهم غرقوا في مستنقعات الخيانة، فقالوا: ألم نقل لكم؟ لكنكم لم تسمعوا لنا!!!
هذه الحقيقة تنطبق على العلمانيين. ولو أخذنا بالنتائج لعقود من الصراع، وتتبعنا كل العمليات السياسية في صناديق الاقتراع، وكل الانتفاضات السابقة، السلمية والمسلحة، وحيثما انتفض الناس في البلاد العربية، بما فيها الفلسطينية لكانت النتيجة صفر وما دونه. فقد تعرضت جميعها للإجهاض من داخل حركاتها بألف حجة وحجة، ليس أدناها منزلة إلا تلك التي انتقلت من النقيض إلى النقيض، أما من بقي لديهم ورقة توت فتعللوا بما عبّر عنه أحد المفكرين بـ « شرك المكاسب» أو المحافظة على « الإنجازات»!!! .. هذه « المكاسب» التي صار الحفاظ عليها من « الخسارة» الموهومة شماعة تعلق عليها الجماعات الإسلامية والحركات العلمانية الفشل والجمود والنكوص إلى الحد الذي تتصالح فيه مع النظام وتعتذر له عما سلف منها وتتبنى خطابه الأمني، وتسعى بلا مبرر، إلا من الذلة والخسة والمسكنة والخزي، لإثبات حسن النية والتغني بالحكمة والتعقل على طريقتها.
هكذا لم تظهر القيادات ولن تظهر. لأنها غير موجودة تاريخيا. ولأن بنية النظام السياسي وخصائصه لا يمكن أن تسمح بظهورها. ولأن النظام السياسي لم يلتزم بترقية أي قطاع في الدولة أو في المجتمع بقدر ما التزم بسياسات المركز المطالبة على الدوام بضرورة الحفاظ على « الاستقرار» و « لجم الجميع» عبر كبت الحريات، ومحاصرة الأحزاب، ومنع الجمعيات، وقتل المبادرات، واحتواء القيادات الناشئة، أو استمالتها، وتدجينها، أو خداعها، أو إغرائها، أو حتى تصفية العناصر الفاعلة فيها قتلا أو اعتقالا أو مطاردة ونفيا وتشريدا، أو بتهميش كل الشخصيات الاجتماعية سواء كانت سياسية أو دينية أو علمية أو ثقافية أو وطنية إلى حد التخلص منها وقتلها، إذا تطلب الأمر، أو تقييد حريتها وحركتها وتواصلها مع الأمة تحت طائلة التهديد بالسجن أو فرض الإقامة الجبرية عليها أو منعها من اعتلاء المنابر العامة أو بأية وسيلة أخرى ليس أو لها قطع الأرزاق ولا آخرها الإسقاط والتشويه وامتهان الكرامات، و« الضرب في سوداء القلب» كما يقول أحد عتاة المجرمين.
توحش النظام
مشكلة المشاكل جاءت بعد حرب الخليج الثانية، ففي خضمها وبعدها انقسم النظام السياسي العربي شر انقسام. ومعه انقسمت المجتمعات، وانقسم المفكرون والمحللون والصحافيون والعلماء، وانقسم الحجر والشجر، وصارت المواقف والسياسات العربية تتمايز على قاعدة: « من ليس معنا ضد صدام حسين فهو ضدنا»! انتهت الحرب بتحطيم العراق والأمة، واستمر الحصار وطال. لكن المواقف صارت تتجه نحو المصالحة ومحاصرة العراق وصدام. فجأة، ودون مقدمات، وقعت هجمات 11 سبتمبر على أبراج مانهاتن في نيويورك، فوجدنا أنفسنا وجها لوجه مع العبارة إياها، لكن هذه المرة على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في مقالته الشهيرة: « من ليس معنا فهو ضدنا»! مقالة كشفت عن توحش الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وكانت النتيجة أنه ما من دولة عربية إلا واستهلكها الخوف من المقالة الأمريكية، فشرعت كلها، وعلى غير هدى، في التعبير عن استعدادها للاستجابة للمطالب الأمريكية. ولم تدرك الأنظمة أن العبارة تسببت بنزع آخر ما تبقى لها من مشروعية.
المشكلة الأعوص أن النظام السياسي العربي صار، مع الوقت، مثل الأمريكيين، يستثمر في « الحرب على الإرهاب». فتولدت، حتى لدى العامة، قناعة بأن النظام خسر كل مشروعية ولم تعد له أية مشروعية إلا في موالاة الولايات المتحدة والاقتراب من إسرائيل وحتى من الحركة الصهيوينة. وبدلا من التأني وحفظ بعض ماء الوجه أو المناورة السياسية، كما فعل الأتراك حين احتلال العراق، ألقت النظم السياسية، طوعا أو كرها، بكل ما لديها، من أوراق، في السلة الأمريكية، وتوحشت، حتى النخاع، بصورة غير مسبوقة في تاريخها.
ولأن الولايات المتحدة باتت تواجه خصما عقديا فقد تغيرت أدوات النظم العربية استجابة للسياسة الأمريكية، وتم الدفع بالعلماء إلى الواجهة من جديد، لكن بصورة أسوأ. فالبعض منهم انزوى، والكثير منهم ازدحمت بهم السجون، وكثير منهم صامتون، ومنهم سقطوا في قاع المطالب الأمريكية. وصرنا نسمع فتاوى فيها من العجب العجاب ما تشمئز منه النفوس والعقول. وأسوأهم تلك الفئة الموصوفة بـ « علماء السلطان». فهؤلاء لا حديث لهم إلا عن طاعة ولي الأمر أيا كانت الأسباب والظروف والسياسات. بل أننا نراقب منذ زمن وجود علماء شرعيون لا يشتمل قاموسهم العقدي والشرعي إلا على مصطلحات، مبتورة ومشوهة وفاقدة لأية أسانيد شرعية صحيحة، خاصة لما يتحدثون عن الفتنة والإجرام والخراب وسفك الدماء وحرمة الخروج على ولي الأمر حتى لو كانت الشعوب هي من خرجت على الولاية .. بينما يطبقون صمتا، وكأنهم في غيابات الجب، لما يتعلق الأمر بالتصدي للاختراقات العقدية وحتى الخروج عن الدين والشريعة والأمة، ولا يدخرون جهدا في إجهاض أي مساس بالنظام. ولا ريب أن مواقف بعضهم تصب، دون مواربة أو خجل، في أطروحة المركز المهيمن على الأمة.
مثل هذه المواقف التي يعتقدون أنها تحصن النظام السياسي هي في الواقع تسقطهم من حسابات الأمة نهائيا، وتعجل بتهديد مصير النظام. فهي فتاوى لا فائدة منها إلا صب الزيت على نار مشتعلة. والأسوأ أنه صار لكل مسلم شيخه، والسؤال الطبيعي: من هم، إذن، مشايخ الأمة وعلماؤها؟ وهل يمكن الحديث عن علماء أمة إذا كان الموقف من الشيخ أو العالم يتحدد في ضوء الموقف السياسي بدلا من الموقف الشرعي؟ وحين تشعر الأمة وحتى أفرادها أنه لم يعد لها أية مرجعية يمكن الركون إليها أو الوثوق بها أو التظلم عندها أو التعبير عن طموحاتها واحتياجاتها حتى لدى العلماء الذين هم من المفترض الدرع الحصين للأمة؛ فهل من العجيب أن تقع الانفجارات الاجتماعية على شاكلة ما يحدث في تونس ومصر.
لا. ليس من العجيب أن يلجأ الفرد أو الشعب إلى تحصيل حقوقه بنفسه طالما أنه لم يجد من يحصلها له أو يصونها. لكن بقدر ما تبدو هذه الحركات الاجتماعية علامة بارزة على حيوية الأمة بقدر ما تبدو معرضة لخطر الإجهاض أو سرقة ثمارها. والحقيقة أنه كان ملفتا للانتباه أن يتلقى الزميل د. سالم الأبيض، أحد أساتذة علم الاجتماع في تونس، سؤالا من مواطنه الحبيب الغريبي على « قناة الجزيرة» يقول: « كيف تفسرون حالة الغموض في الوضع التونسي بعد تغير السلطة؟» فكانت إجابته في الصميم عما نتحدث عنه حين قال بأن: « المشكلة أن الشعب بحاجة إلى وسيط نزيه ينقل مطالبه بأمانة إلى السلطة. لكن هذا الوسيط غير موجود حتى اللحظة».
تلك هي المشكلة التي تعاني منها الأمة في الأزمات الكبرى. فالوسيط غير متوفر!!! لماذا؟ لأنه غير موجود. فالقيادات إما أنها غائبة تاريخيا أو أنها مغيبة أو مطاردة أو في السجون أو على الثغور. والمجتمع مشاع. فلمن يتوجه الناس؟ ومن سيأخذ بيدهم؟ ومن ذا الذي سيثقون به وهم لا يعرفونه أصلا ولم يسبق لهم أن سمعوا عنه؟
لهذا ليس من المفاجئ أن تواجه كل حركة اجتماعية مخاوف الإجهاض وضياع الجهد ما لم يتم تدارك الأمر قبل أن يتسلق عليها المتطفلون. فكما أن الدولة والمجتمع مشاعا للنظام السياسي فإن الحركات الاجتماعية أيضا ستكون بمنزلة المشاع الأمثل للقوى السياسية بوصفها قوى أيديولوجية وليست قوى اجتماعية. مثل هذه القوى ليست جديرة بأن تلعب دور الوسيط، خاصة وأنها لم تُجِدْ في تاريخها إلا الانتهازية أو الوقوع في الأشراك الخداعية أو التفاوض على مطالب الأمة والمساومة عليها وليس نقلها أو التعبير عنها
نشرت فى 20 فبراير 2011
بواسطة nassimbishra
نسيم الظواهرى بشارة
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »
تسجيل الدخول
ابحث
عدد زيارات الموقع
1,068,377
ساحة النقاش