قصة قصيرة بعنوان:(الدمع الأحمر)
رجعت ذات مساء من عملي المضني مكدودا تعبا و نمت و لم أعرف كيف نمت،و لما استيقظت حين أسفر الصبح رأيتني عصفورا بعش،استغربت لهذا استغرابا كبيرا،و اندهشت اندهاشا عظيما،و لكن سرعان ما راق لي منظري و أنا أسبح في فضاء رحب أتنفس ملء رئتي مثل الطيور تغدو خماصا و ترجع بطانا،فلم تكن توقفني إشارة و لا يكبحني قانون و لم أكن آبه بشيء و لا أحفل بأمر،و لكم كان يسعدني أن أقف عند حافة النوافذ و الناس ينظرون إلي نظرة العطف و يسبلون علي ثوب الإشفاق إلا من بعض الأولاد الأشقياء الذين كانوا يطاردونني حينا و يرمونني بالحجارة أخرى و لكني كنت أنجو منهم في كل مرة بالتحليق عاليا في منأى عنهم و عن أذيتهم و هم يرقبونني بنظراتهم يلوحون بأيديهم إلى الأعلى كالداعين للصلاة يطفقون إمساكي أو يرمون اللحاق بي بالطيران مثلي.
و راعني أمر امرأة عجوز ذات مرة و أنا أقف على غصن قرب كوة مفتوحة،حيث كانت تكلمني في كل مرة و كأنها تعرف أنني بشر أو كنت يوما منهم و لربما لم تكن لتبوح لي البتة لو علمت أنني كذلك،فألفتني و ألفتها و أحبتني و أحببتها،كانت في نهاية خريف عمرها أو بداية شتائه،وحيدة ببيت كبير رث منظره،قالت:( دعني أيها الطائر العزيز أنشر لك كتاب حياتي القاسية فليس لي من صديق أقص عليه ذلك و يستمع بإمعان فيحمل عني حملا و ينزل عني أحمالا:نشبت بأبي مخالب المنية و أنا في سنتي الثالثة و لحقته أمي حين أكملت عقدا من العمر،رباني عمي وسط ابنتيه و لم أكن أعامل كابنتيه فعلا و لا سيما من زوجته التي أبانت بون معاملتها لي منذ أن وطئت عتبة الدار فلم تكن تكف عن نبذي و ضربي على كل شيء أفعله و تحاسبني حتى على رغيف الخبز،و بنتاها تضحكان في استهزاء و استهتار،و صبرت حتى بلغت الخامسة عشرة،خمسة عشرة أعوام ملأت فيها جراري هما أسود و عبأت كؤوسا من الدمع الأحمر،أتراني أصبر بعد هذا؟أتراني كنت قادرة على أن أتحمل المزيد؟)،أطرقت برهة متنهدة،ثم استطردت و استطرد معها نزيف مقلها الذابلة،(لم أستطع البقاء فخرجت هائمة على وجهي لا ألوي على شيء،تتقاذفني الشوارع و المدن،أبيت تحت العراء،و بدور اليتامى،أبيت خالية الجوف حينا و أملأه برغيف المحسنين حينا آخر،إلى أن وجدت عملا بمطعم راق عملت به نهارا و أبيت فيه ليلا بعد أن سمح لي صاحبه بذلك،كان لطيفا طيبا حن علي حنو الوالد على أولاده و ذقت طعم السكر لأول مرة ،حتى تعلقت نفس كل واحد منا بنفس صاحبه،تزوجنا و كان متزوجا له أولاد سنهم يقل عن سني بسنوات قليلة،فاستنكروا فعلته و أعلنوا علي حربا ضروسا حتى طلقني و بأحشائي ثمرة أينعت و حان قطافها)و جثم عليها الإطراق من جديد،و هي تنظر إلى صورة تزين الجدار،كانت تشبهها و لكن ليت شعري أن تدرك بأنها صورتها إلا بعد الغلو في النظر إليها و التمحيص في تقريب الملامح،فشحوب بعد نور و دمامة بعد جمال،و واصلت حديثها:(لم أجد بعد ذلك مخرجا و ملجأ غير دار اليتامى،و لم أكن لأمكث بها لو لم يكن مسؤولها يعرفني و يعرف دماثتي و حسن سيرتي،نلت الرعاية بها إلى أن أنجبت (حساما) و- كان حساما بكبدي- و لم أكن أعلم إن كنت سأفرح به أو أبكيه،فكيف سيعيش و أين؟و لكنه كان عزائي الوحيد في الحياة،فجاهدت في دفاع عنه الفاقة بإذلال نفسي في العمل عند المترفين و بمعونة أبيه الجافي،فاعتنيت به حتى بلغ مبلغ الشفاعة في علمه،و لكنه حين كبر استكبر،و أول ما استكبر استكبر على أمه التي قدمت له حياتها ليعيش بها)عادت لإطراقها من جديد و لكنه إطراق طويل هذه المرة ممطر بالعبرات الحارة الساخنة،و لما استجمعت ما بقي من نفسها قالت:(هجرني هجرانا مبينا،عنيفا،قاسيا،و لما قتلني الشوق إليه ذهبت عنده،طردني قائلا لزوجته:(لا شيء إنها متسولة فقط)،فعلا كنت متسولة لعطفه بعدما بلغ بي العمر الذي بلغت و بعدما تسولت و ذللت لكي يصل إلى الذي وصل إليه،و ها أنا اليوم كعهدي دائما في ذل و هوان لأقطف الرغيف قطفا علي أسد رمقا و أترقب الموت و أفتش عن نهاية مستعجلة قريبة)لم أقدر البقاء و لم أسطع المكوث أكثر مما مكثت،و سقط ملح عيني ساخنا و ما عهدت قبل هذا أن للطير دمع.
بقلم الأستاذ:بن عمارة مصطفى خالد تيارت/الجزائر.