الأسطورة التي لن تشيخ أبداً

          قلَّ أن حظي شاعر عربي معاصر بما حظي به محمود درويش من قدرة على المواءمة بين محبة الناس وكسب احترامهم وثقتهم من جهة، وبين اجتذاب النقاد وجعلهم يركضون جاهدين للحاق بمنجزاته الشعرية وتحولاته الأسلوبية التي لا تكف عن التجدد.

          وإذا كان نزار قباني هو من القلة الذين عملوا على تحقيق مثل هذه المعادلة الصعبة، فإن صاحب «قالت لي السمراء» و«قصائد متوحشة» لم يستطع بالرغم من جماهيريته الاستثنائية أن يحقق من حوله إجماعاً نقدياً مماثلاً، وخاصة من قبل النقاد الحداثيين، الذين لم ترق لهم سهولته الظاهرة وابتعاده عن شعرية الكشوف الرؤيوية وارتياد الأعماق، بينما أفلح درويش بالمقابل في الجمع بين منظورين متغايرين مبدياً استعداداً لا نظير له للتجدد والمغامرة والتجريب دون أن يقطع الخيط الذي يصله بجمهوره - قراء ومستمعين - حتى في أكثر قصائده صعوبة وتقصيّا واكتظاظاً بالمعرفة.

          لن تستطيع مقالة واحدة مهما حرص كاتبها على الدقة والاستبصار وتتبع المسيرة الدرويشية الحافلة بالقفزات أن تعثر على جملة العناصر التي جعلت من محمود درويش ليس واحداً من شعراء العرب الكبار فحسب، بل أحد الشعراء الأكثر نجومية في الوقت ذاته، بحيث كانت أمسياته تجتذب آلاف المستمعين من مختلف الشرائح والأعمار والمستويات، منافساً بذلك المطربين الكبار وكاسراً احتكارهم للنجومية دون أي مساومة على مستوى القصيدة وفنيتها. وهو الوحيد بعد قباني الذي كانت أمسياته تقام في الساحات العامة و«الاستادات» الرياضية والمدرجات الكبرى التي وحدها تتسع لمعجبيه الكثر وجمهوره العريض. وإذا كان درويش لا يخفي أمام أصدقائه إعجابه الكبير بعبدالحليم حافظ فقد كان يبدو من بعض الوجوه معادله الشعري، حيث كان الاثنان يتقاطعان في وجوه كثيرة من بينها الرومانسية والشجن وقوة الروح وصدق التجربة. ومن بينها أيضاً الاهتمام بالقضايا القومية والوطنية واتصال الإبداعي بالسياسي، حتى بدت الثنائية المصرية الرمزية لجمال عبدالناصر - عبدالحليم حافظ موازية من بعض وجوهها لثنائية ياسر عرفات - محمود درويش. لكن أياً من الفنان والشاعر لم يستسلم لمثل هذه الثنائية، ولم ينم على حريرها، بل راح يؤسس مجده فوق تربة أخرى مترعة بالقلق والتجاوز والبحث عن جملة مغايرة. ولكي تكتمل رمزية المماثلة فقد جاء المرض بآلامه المؤرقة ليجعل من حياة الطرفين اختباراً يومياً للألم والمكابدة، حيث كان على عبدالحليم حافظ أن يتحمل طوال حياته معاناته مع البلهارسيا، وكان على محمود درويش أن ينوء تحت ضربات الشريان الأبهر وخياناته بشكل مماثل.

          لا تبدو النجومية في وضع كهذا مرادفة للسطحية والابتذال واللعب على الغرائز، ولا هي وليدة الترويج الإعلامي والتسلق على القضايا الكبري بل هي شيء أبعد من ذلك بكثير، لأنها لا ترى في الوقوف على القمة غاية الفنان والمبدع الأخيرة، بل ترى فيه بداية المأزق والذروة المسننة التي تحيطها الهاوية من كل جانب، بحيث لا يبقى أمام الإنسان سوى منازلة قدره الشخصي بأشرس ما تتطلبه المعارك من أسلحة. ولأن الأمر كذلك، فإن الإنسان النجم - شاعراً كان أم مطرباً أم ممثلاً أم خلاف ذلك - يجد نفسه مخترقاً بنصال المأساة، حيث يعمل يائساً على الاحتفاظ بما أسماه جيمس جويس «صورة الفنان في شبابه» بينما يتهدده العجز والجفاف وذيول النار من جهة والشيخوخة والاهتراء والموت من جهات أخرى. وكثيراً ما يخطر له تجاوز ذلك المأزق عن طريق الانتحار عند القمة قبل أن تتهشم الصورة ويتجعد الضوء، كما حدث لكثيرين. وإذا كان الفنان الأمريكي الشهير مايكل جاكسون لم يقض انتحاراً، بالمفهوم التقليدي للانتحار، فإن بذرة الانتحار التي تسكن الفنان المؤرق بتجديد صورته هي التي قادته إلى حتفه النهائي.

          ولعل تلك البذرة نفسها هي التي حملها محمود درويش طويلاً في داخله لا من خلال شريانه الأشبه بقنبلة موقوتة فحسب، بل من نزوعه الدائم إلى الخروج من الإطارات الشخصية والجماعية الموضوعة له، وتنكب المجاهيل الشعرية والعصبية والوجودية التي لا تجد حلاً لها بغير الموت.

          كان لدى محمود درويش، باستثناء لعنة شرايينه، كل ما يمكن أن يحلم به شاعر عادي. كانت لديه الوسامة والشهرة والاكتفاء المادي والسلطة السياسية عبر منظمة التحرير والقدرة على الإقامة حيث يشاء في عواصم العالم، وكان لديه التقدير العالي من قبل جمهوره العربي والعالمي والجوائز الكثيرة المتتالية، إلا أنه ترك كل ذلك المجد العابر وراء ظهره مصغياً فقط إلى دبيب الإيقاعات في عروقه، ومهموماً بالانقلاب على نفسه كلما سوّلت له سبيلاً إلى السكينة.

          كان بعد في العشرينيات من عمره حين استطاعت قصائده الأولى أن تكسر أسوار الجيتو الإسرائيلي وتتسلل إلى قلوب وأذهان قرائه العرب. كما مكّنته تجربة السجن في الأرض المحتلة من شق الطريق السريع أمام التسمية التي التصقت به وبسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم من الشعراء الذين عرفوا منذ ستينيات القرن الفائت باسم «شعراء المقاومة الفلسطينية». وجاء العدد الخاص من مجلة «الطريق» اللبنانية الذي احتفى بشعراء فلسطين في تلك الفترة، كما كتاب غسان كنفاني حول شعراء الأرض المحتلة ليخرجا الظاهرة إلى العلن ويضعا اللبنات الأولى لتلك الاحتفالية الشعرية، التي أكسبها «المقدس» العقائدي سمات التنزيه والتبجيل، الأمر الذي دفع بمحمود درويش إلى أن يصرخ بالنقاد والمتابعين والقراء العرب «أنقذونا من هذا الحب القاسي».

الشعر الأعزل ومحكمة التاريخ

          هذه المعرفة العميقة بحقيقة الشعر، ووقوف النص الشعري أعزل وبلا ظهير في مرافعته الدفاعية عن نفسه أمام محكمة التاريخ، هي التي مكنت محمود درويش من تجاوز بداياته المبكرة التي اختلط فيها صوته الخاص مع أصوات شعراء الريادة السابقين عليه، حيث نلمح تأثراته الواضحة ببدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونزار قباني، والتي عمل جاهداً على النضال ضد طغيانها فيما بعد. وبتأثير من انتمائه الماركسي الشيوعي رأى درويش في شعر المقاومة العالمي ممثلا بنيرودا وأراجون وإيلوار وناظم حكمت وجارسيا لوركا تجسيداً لفكرته عن الشعر، وكان لهذا الأخير على وجه الخصوص أثره البالغ على درويش الذي ظل مفتونا بلوركا طيلة حياته، وبخاصة عبر صوره المباغتة وحسيته الجارحة وطريقة استخدامه للألون وعلاقته المرهفة بالموسيقى وآلاتها الوترية كالجيتار والكمان، إضافة إلى الناي، الذي رأى فيه الشاعر ترجيعاً بالصوت للحزن الناجم عن مغادرة وطنه الأم والذي يماثل وفق جلال الدين الرومي بكاء الناي على فراق أمه المصنوعة من قصب. ولعل القلق وعدم الرضا المتأصلين في ذات درويش هما اللذان دفعاه إلى التخلي عن ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» بعد أن رأى فيه مجرد تمرينات أولية على الشعر لا تستحق البقاء.

          كانت الوظيفة الاجتماعية والسياسية للشعر ماثلة بشكل واضح في قصائد محمود درويش الأولى، وهو القائل في قصيدته «عن الشعر» المنشورة في ديوانه «أوراق الزيتون»:

قصائدنا، بلا لونٍ
بلا طعم، بلا صوتِ
إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ
وإن لم يفهم «البسطا» معانيها
فأَوْلى أن نذرِّيها
ونخلد نحن.. للصمتِ!

          ولم تكن الإقامة في فلسطين لتتيح أمام الشاعر فرص البحث عن مصادر معرفية وأسلوبية وتجريبية لإثراء قصيدته المتحلقة، على توهجها الفطري، حول قضايا الوطن والقمع والحرمان والسجن والجوع وحول مفهوم الهوية المهددة من قبل المحتلين، حيث «يافا ترجمت حتى النخاع»، وحيث «عالم الآثار مشغول بتحليل الحجارة» للبحث عن مشروعية ما أو عن أسطورة مناسبة لتسويغ احتلاله. وإذا كان الشعور بالهوية المهددة هو ما أملى على درويش كتابة قصيدته الشهيرة «سجل أنا عربي» التي أصبحت بمنزلة نشيد قومي للأمة خلال السنوات اللاحقة، فإن قلقه الأسلوبي ورغبته في الخروج من فخ القصيدة - النشيد، والقصيدة - الشعار، جعلاه بجانب قراءة هذه القصيدة فيما بعد ليس تنكراً منه لماضيه الشعري بل خوفاً من أن يوقعه جمهوره في أسر الكليشيهات الجاهزة والتنميط الأسلوبي. والكثيرون لايزالون يذكرون رده السلبي والانفعالي على أحد الذين طالبوه بقراءة القصيدة في الأمسية الحاشدة التي أقامها في قصر الأونيسكو بعيد وصوله إلى بيروت في مطالع السبعينيات.

          لا يعني ذلك بأي حال أن ملامح التميز والفرادة لم تظهر في أعمال محمود درويش الأولى، بل على العكس من ذلك بدت لديه تلك الحساسية المفرطة في انتقاء المفردات وفي نسج عبارة شعرية تجمع بين السلاسة اللفظية والرشاقة الإيقاعية والتقطيع الصوتي الباهر والتصرف الحادث بكسور البحور وشطورها وبين الصور الموحية والإحالات المجازية المشبعة بالرومانسية والنوستالجيا العاطفية التي تشاكل العالم الرحباني - الفيروزي وتتقاطع معه في غير مكان:

مطر ناعم في خريف بعيد
والعصافير زرقاء.. زرقاء
والأرض عيد
لا تقولي أنا غيمة في المطار
فأنا لا أريد
من بلادي التي سقطت من زجاج القطار
غير منديل أمي
وأسباب موت جديد

          وهذه القصيدة المشبعة بالترجيعات والرؤى واستنفار الحواس ستتكرر عناصرها الأولية في محطات لاحقة، حيث المطر والغيوم والخريف والعصافير والقطارات، وهاجس الموت والمناديل وقهوة الأم وخبزها ستشكل اللازمة الدائمة لهذه التجربة الشعرية المدهشة.

الخروج والتحرر

          وفر الخروج من فلسطين مادة سجالية خصبة بين المتفهمين لخطوة درويش باعتبارها تحرر  الشاعر من وطأة الاحتلال وتعسفه وابتزازه، أو لكونها توفر له مناخاً ملائماً لتجديد الرؤية وإثراء التجربة، وبين المنددين بهذه الخطوة وجلهم من العقائديين والدوجمائيين الذين يرون إلى الشعر بوصفه خادماً للسياسة أو هامشاً من هوامشها.

          وإذ كان محمود بالغ الحساسية إزاء منتقديه، الذين لم يتورع بعضهم عن مهاجمته لدى قراءته لقصيدة «أحبك أو لا أحبك» في كلية الحقوق في بيروت، الأمر الذي اضطر شفيق الحوت إلى استرضائه وتطييب خاطره لدى مغادرته القاعة غاضباً، فإنه سرعان ما تجاوز تلك الحساسية، ليبدأ من بيروت بالذات رحلة البحث عن أفق أوسع لتجربته الشعرية، مولياً بالغ الاهتمام بتجربتين متفردتين على مستوى الحداثة، أولاهما هي تجربة محمد الماغوط النثرية والثانية هي تجربة أدونيس المتعددة الأساليب. وفي حين بدت قصائده النثرية  المتصادية مع تجربة الماغوط في ديوانه السادس «أحبك أو لا أحبك»، غير مقنعة تماماً، وخالية من اللهب الدرويشي المتوقد والمفعم بالصدق، بدت قصيدته الشهيرة «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا»، المتصادية مع القصيدة الأدونيسية المركبة والمتعددة الأصوات بمنزلة انعطافة حقيقية نقلت شعره من الغنائية الشفافة والرعوية باتجاه المسرحة والبناء الدرامي والتأمل المعرفي ونقل السياسة من مستوياتها المباشرة إلى مستويات أكثر صلة بأسئلة الحاضر والمستقبل والوطن والهوية، وقد أكدت الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان على إعجاب درويش بصاحب «أغاني مهيار الدمشقي» في سيرتها الذاتية حين تحدثت عن لقائها الأول بالشاعر بعد حرب 1967، هذا اللقاء الذي ما  لبث أن أثمر قصائد متبادلة بين درويش وطوقان.

          منذ «محاولة رقم 7» الصادرة عام 1973 تتجه تجربة محمود درويش نحو المزيد من الفرادة والتبلور، حيث يتخفف الشاعر من وطأة الأصوات السابقة عليه متجها أكثر فأكثر إلى امتلاك صوته الخاص ومُحيلا قراءاته ومصادره المعرفية الوافدة إلى مجرد مواد خام يصهرها داخل أتون موهبته العالية لتصبح نتاجاً درويشياً بامتياز. على أن المحطة المفصلية التالية في شعر درويش ستكون قصيدته الملحمية «أحمد الزعتر»، التي نشرت في ديوانه أعراس (1977)، والمكتوبة إثر سقوط مخيم تل الزعتر على أيدي ميليشيات اليمين اللبناني قبل ذلك بعام واحد.

          في تلك القصيدة بالذات يبدو أحمد الزعتر رمزاً للفلسطيني المقاوم والمحاصر والمطرود من أرض إلى أرض بقدر ما يبدو رمزاً للمواطن العربي الذي تنبذه السلطات كلها والعواصم كلها ليصبح شاهداً بدمه المجرد على قسوة المرحلة. وعلى المستوى الفني ينجح الشاعر إلى حد بعيد في الإفادة من الإمكانات الإيقاعية الهائلة لبحر الكامل الذي يعرف درويش كيف يقلّبه على جميع وجوهه ومجازاته وفقاً لتبدلات المعنى أو لتوترات النفس. ويلجأ درويش أحياناً إلى إهمال القافية إفساحاً في المجال أمام التداعي الذي يتدفق السرد فيه دون تعسف:

سائراً بين التفاصيل اتكأت على مياهٍ
فانكسرتُ،
أكلما نهدت سفرجلةٌ نسيت حدود قلبي
والتجأت إلى حصارٍ كي أحدِّد قامتي
يا أحمد العربي؟
لم يكذب عليَّ الحبُّ، لكن كلما جاء المساء
امتصني جرسٌ بعيد

          بينما يعمل في أحيان أخرى على استعادة القافية والضرب على وترها المكرر والمتماثل. وهو أمر ظل الشاعر يحافظ عليه على امتداد تجربته الشعرية التي شكلت الغنائية إحدى مقوماتها الأساسية.

          وستبدو ظلال هذه الملحمية وتلك التلوينات الإيقاعية الثرية في قصائد لاحقة للشاعر سواء عبر «قصيدة الأرض» التي تستخدم بحراً أقل إنشادية من الكامل هو المتقارب أو عبر قصيدة «بيروت» التي قرأها درويش في افتتاح «ملتقى الشقيف الشعري» المنعقد في بيروت عام 1981، والمنشورة في مجموعته «حصار لمدائح البحر».

أَجْمل ما كُتِب عن بيروت

          ولعل هذه القصيدة التي تشكل نقلة جديدة في تجربة الشاعر من حيث متانتها وبراعتها التأليفية واتساع أفقها الرؤيوي، هي من أجمل ما كتب عن بيروت خلال عصورها المختلفة. فهي تظهر بشكل جلي حب الشاعر الغامر للمدينة وافتتانه بها لا بوصفها خيمة الفلسطينيين الأخيرة فحسب، بل بوصفها المختبر الإنساني المتجدد والمفتوح على الموت انفتاحه على البعث والقيامة. ولم يكن درويش ليخفي إعجابه وحبه لهذه المدينة التي اختارها مقر إقامة له على امتداد أحد عشر عاماً، ولذلك فقد جمعت قصيدته السياسي إلى الفلسفي والواقعي إلى الميتافيزيقي، والوجداني إلى التأملي، ناظرة إلى المدينة من وجوهها المتغايرة إلى حد التناقض. أما القصيدة الطويلة الأخرى «مديح الظل العالي» التي كتبها الشاعر بعيد الخروج الفلسطيني من بيروت عام 1982 فهي أشبه بملحمة هوميرية حول وقوف المدينة وحيدة وبلا ظهير في وجه الاجتياح الإسرائيلي. على أن البعد التسجيلي للتجربة وقوة الانفعال التي تقف وراءها اسهما إلى حد ما في حرمان القصيدة من تماسكها وبنائها العضوي.

          بدا محمود درويش في منتصف ثمانينيات القرن الفائت وكأنه يكاد يصل بتجربته الشعرية إلى مكان حساس ومحفوف بالمخاطر. فعلى مستوى المعنى والفكرة والتوجه بدت موضوعاته الوطنية والقومية أقرب إلى الاستنفاد وانسداد الأفق. وعلى مستوى الأسلوب والبناء والإيقاع بدا الشكل من ناحيته أمام المأزق إياه، بحيث لم يكن أمام الشاعر سوى الصمت أو تكرار نفسه أو البحث عن أفق آخر للكتابة.

          ولم يطل الأمر كثيراً حتى انخرط درويش عبر ديوانه «ورد أقل» في مغامرة جديدة بكل المعايير. فمع هذا الديوان بدأ ابتعاد الشاعر عن الإنشاد العالي وضجيج الإيقاعات، وعن الإفاضة اللغوية، والنفس الملحمي ليقترب من قصيدة الفكرة، أو قصيدة البؤرة، التي تقوم على التقصي والتأمل الداخلي ومتابعة المعنى بدقة ومهارة وصولاً إلى ما يشبه بيت القصيد أو ذروة الختام المباغتة. وأعتقد أن درويش في هذه المجموعة كان أقرب إلى تجربة يانيس ريتسوس التي تقوم على المهارة والدأب والتقشف الصوري والاحتفاء بالمعنى، منه إلى تجارب لوركا ونيرودا وغيرهما ممن احتفوا كثيراً بالغنائية الباذخة، والاحتشاد الصوري. وإذا كان الشاعر قد أشار في مقدمة ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» إلى مقولة أبي حيان التوحيدي حول المشاكلة الملتبسة بين الشعر والنثر، فإن هذه المشاكلة قد تمظهرت بشكل واضح في قصائد «ورد أقل»، حيث بدأ الشعر يتخفف من شعريته البحتة، ليفيد من بساطة النثر وتلقائيته وأبعاده السردية، كما في قصيدة «مطار أثينا» على سبيل المثال: «مطار أثينا يوزعنا للمطارات، قال المقاتل: أين أقاتل؟/ صاحت به حاملٌ: أين أهديك طفلك؟/ قال الموظف: أين أوظف مالي؟/ فقال المثقف: مالي ومالك؟/ قال رجال الجمارك: من أين جئتم؟/ أجبنا: من البحر/ قالوا: إلى أين تمضون؟/ قلنا: إلى البحر... كان مطار أثينا يغيِّر سكانه كل يوم/ ونحن بقينا مقاعد فوق المقاعد ننتظر البحر/ كم سنة يا مطار أثينا» !

          ثمة ظاهرة لافتة لابد أن تستوقف قارئ محمود درويش في مرحلة ما بعد «ورد أقل»، وهي تتعلق بتعميق قراءاته وتوسيعها في مجالات التاريخ والفلسفة والتصوف والسياسة، وتاريخ الأديان وغير ذلك من مضامير الفكر والمعرفة. صحيح أن الشاعر كان حريصاً منذ نشأته على القراءة والاطلاع، وبخاصة قراءته للكتب السماوية ولتاريخ المنطقة الشائك والمعقد، الأمر الذي ظهر واضحاً في دواوينه الأولى، ولكن بداية التسعينيات شهدت نزوعاً درويشياً إلى إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني عبر قصائد ملحمية طويلة، تبدو وكأنها إعادة تأهيل للذاكرة الجمعية التي عمل الإسرائيليون على طمسها أو تزويرها. وليست كلمة «عادوا» التي استهل بها قصيدته الطويلة «مأساة النرجس/ ملهاة الفضة» سوى المفتاح الرمزي للعودتين المتشابهتين: عودة الأرض إلى تاريخها الحقيقي وعودة أهلها إلى مقاومة الأمر الواقع إثر انتفاضة فلسطين الأولى أواخر الثمانينيات.

ذوبان المعرفي في الشعري

          على أن ما يجدد الوقوف عنده بدءاً من تلك القصيدة هو ازدياد منسوب الفكر والثقافة في الكتابة دون الإخلال بمبدأ ذوبان المعرفي في الشعري وفقاً لما قاله الناقد الفرنسي جان ليسكور من أن نسيان المعرفة هو الشرط الموازي لحضورها في القصيدة، وبأن هذا الحضور يشبه حضور السكر المذوب في الماء.

          ومع ذلك فإن العثور على بعض المفاتيح المعرفية والثقافية لشعر درويش، لا يقلل من قيمة تلك القفزة الواسعة التي بدأت تتضح معالمها منذ مجموعته «أحد عشر كوكباً« ثم استمرت متصاعدة عبر أعمال لاحقة مثل «لا تعتذر عما فعلت»، و«لماذا تركت الحصان وحيدا»، و«سرير الغريبة»، و«جدارية»، و«كزهر اللوز أو أبعد»، حيث لم يعد الموضوع الفلسطيني سوى واحد من الأبعاد الكثيرة والمتشعبة لنتاج الشاعر، الذي بدأ قطار شعره يسير على خطين متوازيين، خط داخلي يقوم على المساررة والغوص داخل الذات في علاقتها بالحب والزمن والمرض والموت، وخط إنساني شامل يتجاوز الإطار الوطني والقومي ليعانق البشر جميعاً.

القلق المقيم

          غير أن محمود درويش لم يبارح في جميع مراحل حياته ذلك القلق المقيم في داخله، سواء حول معنى الكتابة الشعرية ووظيفتها أو حول أسلوبها وأشكالها التعبيرية. فهو إذ يكتب القصيدة - الملحمة لا يتخلى في الآن ذاته عن القصيدة الأغنية أو الدندنة العاطفية القصيرة التي تبدو تمريناً على الإيقاع والتطريب أو ترويجاً عن الذات وهي تواجه مصيرها القاتم، أو تطريزاً جمالياً على جسد الحياة الأثيري أو ترجيعاً نوستالجي الملامح لفكرة الأندلس، التي لم تفارق خيال الشاعر ووجدانه منذ بواكيره الأولى، وحتى نهاية حياته:

أمرُّ باسمك إذ أخلو إلى نفسي
كما يمرٌّ دمشقيٌّ بأندلس
هنا أضاء لك الليمون ملح دمي
وههنا وقعت ريحٌ عن الفرس
أمرُّ باسمك لا جيش يحاصرني
ولا بلادٌ، كأني آخر الحرس 

جمالية الصورة

          لا يمكن لمقالة واحدة مهما اتسعت دائرتها أن تختزل عالم محمود درويش الشعري أو تحيط به، إذ ثمة من الخصائص والأساليب والطرائق والانعطافات والمقاربات ما يحتاج إلى كتب وبحوث أوسع وأكثر استفاضة. ومع ذلك فلابد من الإشارة إلى بعض الأمور التي يصعب إغفالها من قبل أي متتبع حقيقي لمسيرة الشاعر. من بين هذه الأمور، وفي مقدمتها، خاصية درويشية بامتياز تتعلق بجمالية الصورة وفرادتها، وانتزاعها من عالم قابل للتمظهر على شاشة المخيلة، ما يظهر إفادة درويش الحاذقة من الفنون البصرية الحديثة كالسينما والتلفزيون والرسم والتصوير، بمقدار ما أفاد فنون السرد والمسرح والموسيقى وفنون السمع. فالصورة عنده لا تصدر عن الذهن البارد أو العمليات العقلية البحتة، بل هي منتزعة من العالم المحسوس الذي يتشارك في صناعته البصر والسمع واللمس والذوق والشم. ولعله من هذه الزاوية أقرب إلى ملموسية اللغة القبانية وحسيتها منه إلى اللغة الأدونيسية ذات الخلفية الفكرية والفلسفية.

          ثمة من جهة ثالثة، خروج للقصيدة الدرويشية من الصوت المفرد الذي حملته في بداياتها، ممثلاً برمزية الناي، إلى الصوت المركب والمتعدد الذي تبلور مع قصيدة «سرحان» ثم اتسعت دائرته بعد ذلك.

          وهذا العالم الثنائي لم يكن مجرد مقاربة لغوية للواقع أو مجرد استمرار للتقليد العربي الجاهلي في الاحتفاء بالمثنى، بل بات عند درويش متصلاً بسؤال الهوية الذي بدأ بمغادرة طبيعته الأحادية الصافية باتجاه الهوية المركبة، متصادياً حيناً مع صرخة رامبو «أنا آخر» وحيناً، آخر مع طروحات أمين معلوف في كتابه المميز «الهويات القاتلة»، حيث نلمح ظلالاً مباشرة لهذا الكتاب في قصيدة «لو ولدت» غير الناجزة:

- لو ولدت من امرأة أسترالية
وأبٍ أرمني
ومسقط رأسك كان فرنسا
فماذا تكون هويتك اليوم؟
- طبعاً ثلاثية..
- وإن كانت الأم مصرية
وجدُّك من حلبٍ
ومكان الولادة في يثربٍ
وأما أبوك فمن غزةٍ
فماذا تكون هويتك اليوم؟
- طبعاً رباعية مثل ألوان رايتنا العربية.

          المسألة الرابعة تتعلق باحتفاء درويش بأوزان معينة دون غيرها، بحيث خضعت تجربته الإيقاعية لعمليات تصفية متتالية ناجمة عن طبيعة هذه التجربة ومناخاتها كما عن مزاج الشاعر الشخصي. ففي حين أنه استخدم في بواكيره الرمل والخبب والرجز والوافر والكامل والمتقارب، ما لبث بعد ذلك أن أشاح بشعره عن معظم هذه الأوزان ليقتسم الكامل والمتقارب معظم قصائده. وهو أمر ليس من قبيل الصدفة في رأيي، فدرويش الإنشادي والغنائي انصرف بكليته عن الخبب لأنه لم يجد في «خفته» غير المحتملة، وفق كونديرا، ما يتلاءم مع توقه لكتابة الملحمة الفلسطينية، التي بدا البحر الكامل مناسباً لها فكتب بواسطته أطول قصائده وأغزرها احتفاء بالإيقاع، مثل «أحمد الزعتر» و«بيروت» و«مديح الظل العالي» و«مأساة النرجس» و«الهدهد» و«الجدارية». أما المتقارب الأكثر ملاءمة للهدوء والتموج النفسي المتوتر فأنس إليه درويش منذ بداياته مروراً بقصائد «سرحان» و«الأرض» و«ورد أقل»، ومعظم قصائده المتأخرة ذات الطابع التأملي. وفي حين أنه هجر الرجز إلى غير رجعة يبدو الأمر بالنسبة لنا مثيراً للتساؤل والاستغراب. صحيح أن الأقدمين رأوا إلى هذا البحر بوصفه «حمار الشعر»، لاقترابه من النثر، ولكن الصحيح أيضاً أن درويش الذي افتتن بالنثر طيلة حياته، وبخاصة في أواخرها، كان يمكنه أن يفيد إلى حد بعيد من الطاقات الصوتية والعصبية لهذا البحر، ومن قابليته العالية للمرونة والتطويع.

          النقطة الأخيرة في هذه المقالة تتعلق بقدرة درويش الفائقة على النفاذ إلى قلب المعنى الإنساني بما يجعل من شعره إصغاء بالغ الرهافة لا إلى تجربته الشخصية فحسب، بل إلى روح الجماعة التي عرف كيف يتمثل وجدانها وتطلعاتها ومثلها العليا في آن واحد. وهو إذ ينجح في قطف روح المعنى ينجح بالمقابل، مستعيناً بموهبته الفذة وقدرته على التكثيف وبراعته التأليفية، في تحويل الكثير من أبياته وسطوره الشعرية إلى نوع من الحكمة أو المثل السائر، كما هو شأن المتنبي، بحيث يمكن لجمهوره العريض أن يردد في مناسبات مختلفة عبارات وأقوالاً كثيرة من مثل: «وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافرا»، أو «ومن لا برَّ له لا بحر له» أو «بيروت خيمتنا الأخيرة» أو «وأعشق عمري لأني/ إذا مت أخجل من دمع أمي» أو «إنا نحبُّ الورد لكنا نحب القمح أكثر» أو «هزمتك يا موت الفنون جميعها» أو «البيوت تموت إذا غاب سكانها». وليس علي سوى الإشارة ختاماً إلى أن أي حديث عن تحالف محمود درويش مع الخلود لن يكون ضرباً من ضروب المجازفة أو الرجم بالغيب، بقدر ما هو تأكيد لحقيقة راسخة لن يزيدها الزمن إلا جلاء وتجذُّراً في تراب المستقبل.

 

شوقي بزيع   

المصدر: مجلة العربي
  • Currently 120/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
40 تصويتات / 2516 مشاهدة
نشرت فى 10 فبراير 2010 بواسطة moonksa

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,163,570