حديقة عائمة خلف السيدة

حدائق بابل المعلقة هي إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم؛ بناها الملك نبوخذ نصر عام 600 ق.م لزوجه الملكة أمييهيا كي يلبي شوقها لمناظر وطنها (ميديا)، حيث أتت من مناطق جبلية تكسوها الحدائق والزروع إلى أرض بابل (العراق) المنبسطة.

لكن في بنجلاديش، ذلك البلد الموبوء بالفيضانات، الوضع يتجاوز مسألة الحنين والشوق لمشاهد الوطن -وهو شأن ترفي نوعا ما، مع احترامنا للمشاعر الإنسانية- إلى حاجة ضرورية من ضروريات الحياة وهي توفير الطعام لمواجهة ظروف بيئية قاسية يتعاقب فيها الجفاف والمطر على نحو عجيب، تحديدا بمنطقة جايباندها التي تغطي المياه أكثر أراضيها خلال فترة الرياح الموسمية، مما يجعل زراعتها بالمحاصيل أمرا مستحيلا، لكن هناك طريقة جديدة جعلت المستحيل ممكنا وهي تكوين حدائق عائمة.

فالحاجة أم الاختراع، الملك نبوخذ نصر استغل أسرى اليهود الذين جلبهم من الشام لتشييد حدائقه على هيئة قصرٍ يضاهي جبلاً يرتفع 23 مترًا فوق الأرض بجوار قصره، وكان ذلك على هيئة شرفات ترفعها أعمدة تغطي مساحة أربعة أفدنة، وملئت بالتربة وزرعت بالخضروات والفاكهة والأشجار، صيفية وشتوية، وكانت ترويها مياه نهر الفرات بنظام ديناميكي معقد.

هذه هي حدائق بابل المعلقة وهي فكرة قابلة للتكرار، بل لعلها مكررة بالفعل ولكن ليس على هذا النحو الكبير أو الباذخ، أما طريقة جايباندها فالحاجة لتربة صالحة للزراعة ألجأتهم هناك لاختراع طوف أو عوامة مبنية من عشب الماء (ورد النيل) المتاح مجانا والمبذول بكثرة فوق الماء الذي يغطي أراضي شاسعة، مع مزجه بشيء من التربة وروث البهائم، لتوفير بيئة صالحة للزراعة أمكن فيها زراعة الكثير من الخضروات والفاكهة.

هذا الطوف يصلح للزراعة على مدار السنة، وبعد ذلك يجب بناء واحد آخر جديد، على أن يستخدم القديم كنوع من المخصبات، ويتم الاستفادة به لتسميد الأطواف الجديدة أو أراض تحتاج للأسمدة في موسم الجفاف.

كيف يصنع الطوف؟

ويتم صنع الطوف على شكل حصيرة من ورد النيل بطول ثمانية أمتار، وعرض متر واحد، وفوق الطوف توضع التربة، ثم يتم بذر بذور عدد من الخضراوات والفواكه، مثل القرع والباميةوالخضراوات الورقية، وبذلك تمكنوا من صنع حديقة عائمة استطاعت أن تمد الناس في بنجلاديش بمصدر للطعام أثناء موسم يقل فيه الطعام، يطلق عليه المحليون هناك "مونجا" (Monga)، بل تمكن بعض من نفذ هذه الفكرة أن يكتفي ويبيع ما يزيد عن حاجته في السوق.

إن الطوف يتمتع بخاصية فريدة، وهي إمكانية نقله من مكان لمكان، وكيفية إعداده بالتفصيل -كما 

 

اضغط للتكبير

 بالرسم التوضيحي المرفق- تتم بعمل حصيرة أو طبقة من ورد النيل أو عشب الماء بالمقاييس   السابق ذكرها، ثم ترص فوقها أعواد من الخيزران (البامبو)، ثم توضع فوق تلك الأعواد طبقة ثانية من عشب الماء، وأخيرا توضع طبقة عبارة عن خليط من التربة والكومبوست وروث البهائم، والطبقة الأخيرة تمثل تربة غنية قادرة على إنبات النباتات المراد زراعتها. 

والكومبوست عبارة عن سماد عضوي تم إعداده من مخلفات نباتية أو حيوانية يتم طمرها في حفر عميقة، وهذا الطمر يؤدي لتنشيط البكتيريا اللاهوائية فتتحلل المكونات العضوية المطمورة بعد أن ترتفع درجة حرارة الحفرة لنحو 70 درجة مئوية، تقتل تقريبا كل الجراثيم والطفيليات الموجودة بالحفرة، وتتحول المادة العضوية لسماد عالي الجودة.

استخدام فعال لورد النيل

الواقع أن عشب الماء -ويطلق عليه في مصر والسودان ورد النيل- نوع من الزنابق المائية الجميلة يتأرجح لونها بين الأزرق الخفيف والأرجواني المعتدل، ويمثل مشكلة كبيرة؛ وذلك لما يسببه من تبخير كميات هائلة من الماء الصالح للزراعة؛ إذ يغطي مساحات هائلة، ويعوق حركة الملاحة والري، ويسد المجاري المائية كالترع والمصارف، كما أنه يستهلك الأكسجين الذائب في المياه؛ مما يهدد حياة الأسماك والكائنات المائية، بالإضافة إلى أنه يؤوي العديد من القواقع مثل قواقع البلهارسيا، والزواحف والثعابين.

وهناك عدة دراسات لمحاولة الاستفادة منه من جهة، والتخلص من مشاكله من جهة أخرى؛ وذلك عن طريق الاستفادة من ورد النيل في مصر (مثل صناعة الأخشاب أو الأعلاف)، ولكنها لم تثمر بشيء مفيد، ويبدو أن جمعه والاستفادة منه بالطريقة البنجلاديشية تبدو مثالية.

وكذلك يبدو تطبيقها في مناطق عدة بالسودان ومنها دارفور وهي بؤرة صراع الآن ينزل عليها المطر فيحول مساحات شاسعة من أراضيها لمستنقعات مائية، تتوقف بسببها الحياة، وتنقطع الاتصالات والمواصلات بسببه، ثم ما يلبث أن يعاني الإقليم من مشاكله الكثيرة من فصول متعاقبة من الجفاف القاتل، وشح الطعام وندرته.

وفي بنجلاديش يقومون بالفعل بعمل هذا الحديقة العائمة في البرك والقنوات وغيرها من المسطحات المائية، ومما يشجع على تنفيذ الفكرة والطريقة أنها لا تحتاج لخبرة كبيرة، بل كل ما يجب عمله هو صنع الطوف العائم، ثم عمل حفرة مستديرة قطرها 30 سم يتم بذر بذور النباتات سريعة النمو وعالية الإنتاج فيها، حتى أن هناك بعض الأسر استطاعت أن تنتج من طوف واحد به 10 حفر عشرة أنواع من الأصناف وفيرة الغلة كالفول السوداني، والبصل الأحمر، واليقطين الحلو، والبامية، وغير ذلك.

  • Currently 171/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
57 تصويتات / 683 مشاهدة
نشرت فى 5 نوفمبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,152,166