{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } قوله تبارك وتعالى خير ما ينطبق على حالة البحار والمحيطات هذه الأيام، وعلى العلاقة المختلة التي باتت تحكم الإنسان بهذا النظام المائي الحيوي، فعلى الرغم من كونها مهد الحياة، والمعين الأول الذي تستمد منه البشرية جزءا كبيرا من مصادر غذائها وموادها العلاجية وقيمها الروحية والجمالية، فإن هذه المسطحات المائية المترامية، بعتيها وبأمواجها الهادرة، لم تستطع الصمود طويلا أمام إساءات البشر وتعدياتهم السافرة؛ فتحولت أجزاء كبيرة منها إلى قفار، وباتت أجزاء أخرى منها قاب قوسين أو أدنى من الاحتضار، في بادرة تحمل أكثر من دلالة خطيرة، ليس أقلها تهديد مقدراتنا ومقدرات أبنائنا والأجيال القادمة بصفة عامة بالخسارة والفقدان.

ترى هل نعي حجم هذه المشكلة؟ وهل نعي فداحة تداعياتها؟ ثم هل يستدعي هذا منا أي تحرك أو مبادرة لعلاجها؟ إذا لم يكن لديك عزيزي القارئ إجابة محددة عن هذه الأسئلة فأرجو أن تجيبها لك السطور القادمة.

البحر حياة

ليس البحر ولا الشواطئ مجرد زرقة مياه وتلاطم أمواج، أو التقاء مياه مع حد اليابسة، بل هما حياة ومعين لا ينضب من الموارد والثروات الطبيعية.. للبحار والمحيطات أيضا تاريخ طويل في خدمة البشرية منذ بزوغها وحتى الآن؛ ففي البحار والمحيطات ظهر أول أشكال الحياة منذ ما يقرب من 3500 مليون سنة، ومن تلك الصورة الأولية تطورت بقية الكائنات وأشكال الحياة المختلفة؛ وهو ما أتاح للإنسان البقاء، ومن ثم انتشاره في جميع الأصقاع.

البحار والمحيطات التي تغطي مياهها أكثر من ثلثي سطح كوكب الأرض تذخر أيضا بحوالي 80% من أشكال الحياة الموجودة حاليا، وهي تمثل من واقع هذا مخزن التنوع الإحيائي على هذا الكوكب، ومصدرا غاية في الثراء لمواد وخامات كثيرة، أمكن للإنسان استغلالها في حياته اليومية سواء كغذاء أو كمستحضرات طبية أو غيرها.

وأهمية البحار والمحيطات لا تقتصر على ما تقدمه لنا من موارد أو خامات أو خدمات، بل تمتد لتشمل أمورًا ووظائف أخرى أكثر حيوية وأكثر تعقيدًا، مثل دورها في إمداد سكان الأرض بالقدر الأعظم من إكسير الحياة -الأكسجين- وفي امتصاص ثلثي نسبة ثاني أكسيد الكربون المتخلف عن أنشطة الإنسان الصناعية المختلفة، وهذا من واقع عملية الإنتاج الضوئي المعروفة Photosynthesis التي تقوم بها النباتات الدقيقة والطحالب البحرية المجهرية Phytoplankton الموجودة بكثافة في البحار والمحيطات العالمية.

لا يمكن كذلك إغفال أن جميع أحوال الطقس، ومعدلات هطول الأمطار، ودرجة الحرارة تتشكل أساسا داخل البحار والمحيطات، وهذا من واقع عمليات البخر والتبادل الحراري، وتغير الضغط والرياح، وبقية العمليات الفيزيائية الأخرى التي تتم فيها بشكل يومي ومستمر.

يا لها من إساءات!

وعلى الرغم من تلك الحقائق، وعلى الرغم من فضائل البحار والمحيطات الكثيرة علينا، إلا أن غالبيتها، إن لم يكن كلها، يتعرض حاليا ومنذ فترة ليست بالقصيرة لأصناف وألوان من الانتهاكات والممارسات البشرية المسيئة، سواء كان هذا ممثلا في صرف النفايات السامة والملوثات بجميع أنواعها (صناعية وزراعية وآدمية) دون معالجة، أو ردم المناطق الساحلية وما بها من كائنات وموائل قاعية بغرض كسب مساحة من الأرض أو شواطئ جديدة، أو استخدام المتفجرات والوسائل الأخرى غير المشروعة في عمليات الصيد، أو غيرها من المخالفات المقيتة التي أقل ما توصف به أنها غير مراعية لقدرات النظم البيئية أو حق الأجيال المستقبلية القادمة في بيئة بحرية نظيفة ومنتجة.

ولغة الأرقام في هذا الصدد لا تخطئ؛ إذ تشير التقديرات إلى أن المناطق الساحلية والبحرية، على مستوى العالم، تستقبل سنويا ما يقدر بحوالي 21 مليون برميل من النفط، و1900 مليون لتر من وقود السيارات وزيت الديزل، فضلا عن 160 مليون طن من الملوثات النيتروجينية ومياه الصرف الصحي والمجارير غير المعالجة.

البحر المتوسط، خاصة قرب سواحل مصر وتونس والجزائر، يعد واحدا من أكثر بحار العالم تعرضا للتلوث البحري والتدهور بصفة عامة؛ وذلك بسبب كثافة حركة السفن، وصرف النفايات، ونحر الشواطئ، وارتفاع نسبة الملوحة وحموضة المياه فيه، مع العلم أن هذا البحر قد استقبل وحده ما لا يقل عن خمس حوادث انسكاب البقع النفطية الحادثة عالميا خلال ثمانينيات القرن الماضي.

الخليج العربي ليس بحال أفضل؛ إذ تجوب مياهه ما لا يقل عن 50 ألف سفينة شحن نفطية وغير نفطية سنويا، تقوم مجتمعة بإلقاء حوالي 30 مليون متر مكعب من الملوثات فيه؛ مما يتسبب في خسائر بيئية كبيرة، والإخلال بالبيئة المعيشية لكثير من الكائنات البحرية.

التوابع والتداعيات

لا عجب إذن أن نسمع عن تدهور حالة الموائل البحرية والنظم البيولوجية الساحلية وانخفاض إنتاجيتها بشكل ملحوظ في أكثر من منطقة عبر العالم، أو نسمع عن احتضار بعض البحار، أو موت بعض المناطق فيها؛ فالبحار والمحيطات، كونها من الأنظمة الحيوية، لها قدرة احتمال محددة ومحدودة، ومن ثم يمكن أيضا أن تحتضر وأن تموت؛ وهذا إذا ما فاقت الضغوط الواقعة عليها تلك القدرة، أو إذا ما تدخل الإنسان بشكل سافر أو مسيء في منظومة عملها.

وأوضح مثال على هذا ما آل إليه حال بحر الآرال بوسط آسيا؛ حيث تقلصت مساحته لأقل من النصف خلال أقل من أربعين عاما؛ وهذا بسبب سوء التخطيط وإدارة موارده بشكل خاطئ.

وفي هذا الإطار تخلص دراسة علمية قيمة نشرت نتائجها حديثا في دورية العلوم (Science) الشهيرة إلى أنه لا توجد حاليا منطقة بحرية واحدة بمنأى عن التأثيرات السلبية للأنشطة البشرية، وأن أكثر من 40% من المناطق والأنظمة البحرية في المحيطات المختلفة عرضة للتدهور والتراجع جراء ضغوطات الأنشطة البشرية المتزايدة، وقد قدمت هذه الدراسة فيما قدمت خريطة مفزعة لحجم الضغوطات والتأثيرات التي تتعرض لها المناطق البحرية والنظم البيولوجية المختلفة فيها عبر العالم نتيجة الأنشطة البشرية وضغوطاتها المختلفة.

كما تشير دراسة أخرى صادرة عن الهيئة القومية لأبحاث المحيطات والغلاف الجوي بأمريكا (NOAA) إلى أن مساحة المناطق البحرية الميتة -وهو تعبير يطلق على المناطق البحرية الأقل إنتاجية والأكثر فقرا في الحياة البحرية- قد زادت عالميا بنسبة 15% خلال أقل من عشر سنوات، وتحديدا خلال الفترة من 1998 إلى 2007.

الوضع بالنسبة لبحارنا العربية لا يقارن بالطبع بحجم كارثة بحر الآرال، لكن الصورة على أية حال ليست مثالية أو وردية؛ فالمناطق الساحلية والبحرية المعرضة للتدهور فيها باتت في ازدياد؛ وذلك بسبب ارتفاع معدلات التلوث، وتفاقم مشكلات الصيد الجائر، وارتفاع حرارة المياه، وظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، فضلا عن تعرض أجزاء كبيرة منها للردم أو التجريف، وتحولها لغابات أسمنتية وخرسانية تخل كثيرا بالتوازن البيئي والتنوع البيولوجي المميز لهذه المناطق، كما هو حادث على شواطئ الخليج وأجزاء عريضة بالبحرين المتوسط والأحمر، ومن ذلك ما ألم بسواحل مدينة الغردقة في مصر؛ حيث تم ردم وتجريف أكثر من 6 ملايين متر مربع من شواطئ المنطقة المنتجة والغنية بالشعاب المرجانية خلال أقل من عشرين عاما، من أجل بناء قرى سياحية ومرافق عمرانية!

سبل العلاج

على الرغم من تزايد حجم الأعباء والضغوطات الواقعة على البحار والمحيطات، وعلى الرغم من عدم تفاؤل بعض العلماء بمستقبل النظم البيئية السائدة فيها، إلا أن إنقاذ المناطق المحتضرة أو الموائل المهددة فيها ليس بالأمر المحال أو العسير؛ إذ إن هناك حلولا كثيرة يمكن اتباعها، بعضها تقليدي والآخر يمكن إدخاله ضمن دائرة الحداثة والابتكار.

من الوسائل التقليدية مبدأ "الحفاظ والحماية"؛ وهذا عن طريق تفعيل قوانين البيئة، وتوسيع رقعة المحميات البحرية الحالية، مع إقامة مناطق جديدة تبقى محمية بموجب القانون من أي تعديات أو ممارسات غير مناسبة، وبدرجة تكفل الحفاظ على الأنواع والموارد البحرية المتاحة فيها.

"الاستخدام المستدام" مبدأ آخر يمكن مقاربته واتباعه حينما يصعب إدراج منطقة ما بحرية كمحمية طبيعية؛ وهو يعتمد على استخدام الموارد البحرية المتاحة في منطقة ما بطريقة متنامية وتتسم بالحس البيئي، وذلك بما يفي بالاحتياجات والمتطلبات الاقتصادية، ويوفي في ذات الوقت بقدرة النظم والموائل البيولوجية البحرية المختلفة على الاحتمال.

من الوسائل المبتكرة والواعدة -وإن كانت ما زالت قيد البحث والتجريب- تسميد بعض المناطق البحرية بالمغذيات والأسمدة الصناعية بهدف زيادة إنتاجيتها؛ وبالتالي زيادة قدرتها على التقليل من آثار التغير المناخي، ويعتمد هذا الطرح على حفز النظام البيئي في هذه المناطق على امتصاص المزيد من ثاني أكسيد الكربون من الجو وذلك من خلال إضافة الأمونيا وبعض الأملاح الغذائية أو الأسمدة الغنية بعنصر الحديد للمياه السطحية في هذه المناطق بما يساعد على استثارة وتسريع نمو الطحالب البحرية المجهرية الموجودة فيها؛ وهذا بدوره يؤدي إلى رفع معدل الإنتاج الحيوي الأولي Primary Production؛ وبالتالي دعم عملية التنوع الحيوي في هذه المناطق.

هذا بعض من طرق ووسائل كثيرة متاحة للحفاظ على البحار والمحيطات من حولنا، لكن على أي حال، وأيا كانت سبل الحل، يجب إدراك أنه لا توجد خطوط فاصلة بين البحار والمحيطات، ولا وجود لحدود الدول فيها؛ ما يعني أن كل ما نقذفه من سموم وملوثات في البحر أو النهر سوف يرتد إلينا ثانية، سواء كان هذا بطريقة مباشرة مع الأطعمة البحرية الوافدة إلينا، أو غير مباشرة عبر الأمطار الناتجة من تبخر المياه الملوثة، وهذا فضلا عن تدمير البيئة البحرية وخسارتنا لخدمات وخامات دوائية وغذائية كثيرة لا يمكن حصرها.

الأمر إذن واضح ولا يتطلب منا سوى اتخاذ خطوات جادة وحثيثة وعاجلة من أجل تخليص بحار ومحيطات العالم من أسباب اعتلالها؛ لأن دون ذلك سيكلفنا الكثير، وسينبني عليه عواقب خطيرة وغير محمودة قد لا يكون لنا قبل بها أو طاقة على تحملها.

حقائق وأرقام

- تغطي البحار والمحيطات أكثر من 70% من سطح الأرض، في حين تصل المساحة التي تشكلها من المحيط الحيوي لكوكب الأرض إلى 99%

- المحيط الهادي هو أكبر محيطات العالم، ومساحته تفوق مساحة القارات الخمس مجتمعة بمقدار الربع.

- يعيش 40% من سكان العالم في شريط ساحلي لا يبعد أكثر من 60 كم عن شواطئ البحار والمحيطات.

- يعتمد أكثر من 3.5 بلايين شخص في طعامهم وغذائهم اليومي على الموارد التي تقدمها البحار والمحيطات.

- مساحة المناطق البحرية التي تمكن الإنسان من سبر أغوارها أو استكشافها لا تزيد على 10% من أجمالي مساحة البحار والمحيطات.

- 90% من حركة التجارة العالمية بين الدول تتم عبر البحار والمحيطات من خلال السفن ووسائل الشحن البحري.

- 50% من الاتصالات التليفونية بين الدول تتم من خلال الكابلات والأسلاك الممتدة عبر البحار.

-  مستوى سطح البحر كان أقل من مستواه الحالي بمقدار 110 أمتار قبل عشرة آلاف سنة من الآن.

- مساحة المناطق البحرية المحمية بقوة القانون لا تزيد على 1%، في حين تبلغ هذه النسبة 11.5% على اليابسة.


المصدر: اسلام اونلاين نت
  • Currently 283/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
92 تصويتات / 1973 مشاهدة
نشرت فى 19 أكتوبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,167,757