جورج ويلهلم فريدريك هيجل (1770 - 1831 )

أولا : حياته وعصره
عاش في مجتمع إقطاعي تسوده رجعية النبلاء وكذلك عاش مع رياح الثورة الفرنسية التي طالبت بتحرير الإنسان وتأثر بكليهما؛ كما تأثر بـ "كانت" وفلسفته العقلية بمثل ما تأثر بالشاعر الرومانسي الألماني "هلدرلين" .
ولــد عام 1770 في مدينة "شتوتجارت" في أسرة موظف كبير بإحدى الدويلات الألمانية الصغيرة "إمارة فيورتمبرغ".. ودرس الفلسفة واللاهوت في جامعة "تومنجن" ثم أصبح أستاذاً في جامعة إيينا" .
عرف بأنه صاحب أسلوب معقد ، لكنه لا يجيد الخطابة والكلام.. دعا إلى التمسك بالأخلاق وترابط الأسرة وأنجب في الوقت ذاته "ابناً غير شرعي..!" ؛ قرأ الآداب الكلاسيكية وأغرم بها وكان لا يمل من قراءة الكتب الرخيصة التي عايره بها "شوبنهور" طوال حياته.
مزاجه وأخلاقه وشخصيته كانت متناقضة.. لقد بلغ الذروة في التجريد لكنه لم ينفصل عن الواقع..!؟
آثار فلسفته نجدها تعمل في اتجاهات متباينة أشد ما يكون التباين؛ فـ "الماركسية" أخذت عنها وكذلك "البروتستانتية" المتحررة، "والوجودية" تأثرت بها، وكذلك البراجماتية والوضعية المنطقية .
اختلف الباحثين عنه في تقديراتهم له حتى أن "وليم ولاس" يشبه اختلافهم باختلاف المفسرين في شرحهم للكتاب المقدس؛ وكان في جميع مراحل دراسته الأول دائماً؛ ترجم الكثير من الكتب اليونانية ودرس "الإلياذة وشيشرون" وهو في سن السادسة عشر ، وفي الثانية عشر درس "الأخلاق" لأرسطو؛ وبعد دخوله الجامعة كان مثله الأعلى "روسو" و خصوصاً مؤلفه "العقد الاجتماعي" وعلى حد تعبيره أن: قراءتي لروسو تحررني من الأصفاد..! ".
بعد تخرجه من المعهد الديني في "تومنجين" لم يعمل قسيساً بل درَّس أبناء العائلات في منازلهم، وفي عام 1817 وما تلاه انتشرت الهيغلية حتى أوشكت أن تصبح العقيدة الرسمية للدولة حتى قيل أن الإيمان بالهيجلية أصبح وسيلة للحصول على الوظيفة الحكومية أو الترقي فيها.! )
بعد ذلك أصبح مديراً لجامعة برلين ( 1829 _ 1831 ).. مــات عام 1831 وكان موته مظاهرة كبرى من الاحتفال دلت على المكانة التي تبوأها "هيجل" في ذلك العهد.

ثانيــاً.. فلسفتــه:
هو من أبرز ممثلي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ، وقد كان أول مؤلف له "فينومينولوجيا الروح" صدر في عام 1806 والذي يشكل حسب تعبير ماركس "المعين الحقيقي" للفلسفة الهيغلية؛ ثم أصدر بعد ذلك مؤلفه الضخم الثاني "علم المنطق".
حدد "انجلز" المكانة التاريخية لـ "هيغل" في تطور الفلسفة بقوله: "لقد بلغت هذه الفلسفة الألمانية الجديدة ذروتها في مذهب "هيجل" والذي تكمن مأثرته التاريخية العظيمة في أنه كان أول من نظر إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي بوصفه عملية؛ أي في حركة دائمة وفي تغير وتطور.. وقام بمحاولة للكشف عن العلاقة الداخلية لهذه الحركة وهذا التطور؛ ولا يهمنا هنا أن يكون "هيجل" لم يجد الحل لهذا المسألة..فمأثرته التاريخية تقوم في طرحه لها…!!
لقد صاغت فلسفة "هيجل" بشكل منظم النظرة "الديالكيتكية" إلى العالم؛ وما يوافق ذلك من منهج ديالكتيكي في البحث، ولقد صاغ "هيجل" الديالكتيك باعتباره علماً فلسفياً يعمم التاريخ لكامل المعرفة وكذلك القوانين الأكثر شمولاً لتطور الواقع الموضوعي وانتقد بعمق وحزم المنهج الميتافيزيقي ليصوغ وإن كان بشكل مثالي _ قوانين ومقولات الديالكتيك.
دحض "هيجل" الأفكار الخاطئة في تعاليم "كانط وفيخته وشينغ " ، فهو بالرغم من أنه يتفق مع "كانط" في ضرورة البحث الفلسفي عن منطلقات النشاط المعرفي لدى الناس.. إلاَ أنه أخذ عليه كونه يدرس ملكة المعرفة عند الإنسان خارج نطاق التاريخ؛ إنه يقول رداً على كانط: "أن دراسة المعرفة ممكنة فقط أثناء عملية المعرفة ، وأن البحث فيما يسمى أداة المعرفة ليس إلاً معرفة هذه الأداة" .. والرغبة في المعرفة قبل أن نبدأ المعرفة لا تقل سخافة عن ذلك السكولائي الذي يريد أن يتعلم السباحة قبل أن ينزل إلى الماء..!!
إنه يرى أن الطبيعة موجودة بشكل مستقل عن الإنسان، كما أن المعرفة الإنسانية ذات محتوى موضوعي، وإذ ينتقد "هيجل" المعارضة الذاتية التي يقيمها "كانط" بين الجوهر والمظهر(2) ، وفإنه يؤكد على أن المظهر لا يقل موضوعية عن الجوهر ، فالماهية _الجوهر_ تتمظهر أي.. تتكشف في المظهر ومن خلاله وبذا يكون المظهر جوهرياً ونحن إذ نتعرف إلى المظاهر فإننا نتعرف في الوقت ذاته إلى الجوهر.
وانطلاقاً من المبدأ الديالكيتكي في وحدة الجوهر والمظهر ، يعارض "هيجل" آراء "كانط" في استحالة معرفة "الأشياء في ذاتها" ، فليس في طبيعة الأشياء أية عوائق أو حدود تقف أمام عملية المعرفة.. وأن الجوهر الخفي للعالم ليس لديه القوة لمجابهة المعرفة الجسورة …… وهذا هو الرد الحاسم على "كانط" حول هذا الموضوع.
لكن "هيجل" المثالي لم يكن ليستطيع أن يوجه النقد للعيب المثالي عند أسلافه؛ إن الطبيعة عنده كما هي عند المثاليين الآخرين نتاج لروح سامية على الطبيعة ولهذا بالضبط لم يتمكن "هيجل" من الإجابة على تلك المسائل الديالكيتكية الهامة التي أثارها أسلافه أو أثارها هو نفسه في منظومته الفلسفية.
• وحــــدة الفكــــر والوجـــــود
• نقطة الانطلاق في فلسفة "هيجــل"
يرى هيجل أنه لا المادة ولا الوعي البشري يمكن اعتبارها أولية.. لأنه لا يمكن منطقياً استنتاج الوعي من المادة كما لا يمكن استنتاج المادة من الوعي الإنساني وهذا الوعي يجب النظر إليه بوصفه نتيجة للتطور السابق لجوهر أوَلي مطلق؛ لكن هذا الجوهر الأولي المطلق لا ينظر إليه "هيجـل" على أنه وحدة مطلقة للذاتي والموضوعي دون أي تمايز بينهما.
إن الوحدة الأولية التي تشكل الأساس الجوهري للعالم هي: "وحدة الوجود والفكر" ، وحدة يتمايز فيها _منذ البداية_ الموضوعي والذاتي ؛ لكن هذا التمايز موجود في الفكر فقط.
إن الفكر عند هيجــل ليس نشاطاً إنسانياً ذاتياً فحسب.. بل هو أيضاً ماهية موضوعية مستقلة عن الإنسان ومصدر وأساس أوَّلي لكل ما هو موجود، وهذه الوحدة والتمايز بين الوجود والفكر "بين موضوع الفكرة والفكرة ذاتها هي تعبير ضروري عن ماهية الفكر الذي يعقل ذاته ، يجعل من ذاته مادة للفكر ، موضوعاً.. إنه بذلك "ينشطر" ، ينقسم إلى ذاتي وموضوعي "الوجــود والفكــر"..
يرى "هيجــل" أن الفكر "يغيــــر" وجوده إلى شكل مادة، طبيعة.. وهي وجود آخر لهذا الفكر القائم موضوعياً والذي يسميه هيجــل "بالفكرة المطلقة"؛ وهكذا إن العقل ليس ملكة خاصة بالإنسان بل هو الأساس الأوَّلي للعالم، ولذا فان العالم يتطور وينمو وفقاً لقوانين الفكر أو العقل.. وبهذا يكون الفكر أو العقل عند هيجــل هو الجوهر المطلق _المستقل عن الإنسان والإنسانية_ للطبيعة والإنسان والتاريخ العالمي؛ وأن هذا الفكر كماهية جوهرية موجودة لا خارج العالم بل في العالم ذاته بوصفه المستوى الداخلي لهذا العالم.. ويتجلى في التنوع الهائل لظواهر الوجود ، كذلك ينظر هيجــل إلى الفكر "الفكرة المطلقة" لا على أنه ساكن أو جامد بل على أنه عملية تتطور باستمرار من مرحلة إلى أخرى أرفع منها؛ ولــذا فان "الفكرة المطلقة" ليست البداية فحسب بل والمحتوى المتطور للعملية الكونية كلها.
بهــذا المعنى يمكن فهم المبدأ الــ "هيجـلي" القائل بأن المطلق يجب أن يفهم لا كمنطلق لكل ما هو موجود، بل وكنتيجة له أيضاً، أي كمرحلة عليا من تطوره.. وهذه المرحلة العليا من تطور "الفكرة المطلقة" يسميها هيجـل "الروح المطلق" الإنسانية أو التاريخ الإنساني.
وبما أن هيجـل يُؤَلِّه الفكر.. فانه مضطر إلى تأليف المفهوم(3) ، والمفهوم عنده "بداية كل حياة" و "صورة خلاقة لا محدودة" تنطوي على كل ما في المحتوى من غنى؛ ومصدراً لهذا المحتوى في الوقت ذاته ، إن هيجــل إذ يعارض النظرة المادية إلى المفهوم باعتباره شكلاً أعلى لعكس الواقع الموضوعي فانه يقلب الأمور رأساً على عقب "فالفكر عنده ليس عكساً للوجود بل على النقيض من ذلك الوجود هو تجسيد للفكر.. للمفهوم.. للفكرة(4) .
في العصر الذي عاشه "هيجـل" كانت تسيطر في العلوم ، النزعة التجريبية الضيقة، وعدم الثقة بالفكر النظري والسعي لجعل الأبحاث تقتصر على الوقائع الحسية.. وكان العلماء التجريبيون ينظرون إلى المفاهيم على أنها مجرد مسمَيات ترمز إلى جملة من الوقائع المدركة حسياً ( أي أن كل ما هو غير مدرك حسياً يرفض ) وقد وقف هيجـل ضد هذا الانتقاص من دور الفكر النظري لكنه لم يواجه التجريبيين بفهم علمي صحيح لدور الفكر النظري بل بنظرية مثالية عن القوة الخارقة للمفاهيم هي نظرية "الفكرة المطلقة".
وهكذا فان المنطلق الأساسي في منظومة هيجـل الفلسفية هو المطابقة المثالية بين الوجود والفكر وإرجاع كافة العمليات إلى عملية التفكير؛ إن هيجـل يُؤَلِّه عملية المعرفه التي يقوم بها الإنسان وذلك باعتبارها وعياً ذاتياً لله ، وحول هذا الموضوع يقول انجلز: "لقد كان هيجـل مثالياً إذ أن أفكار رأسنا بالنسبة له ليست عكساً على هذا القدر من التجربة أو ذاك للأشياء والعمليات الواقعية بل على العكس يعتبر هيجل الأشياء وتطورها تجسيداً لـ "فكره" يزعم أنها كانت موجودة قبل نشوء العالم.. وهكذا قلبت الأمور رأساً على عقب وشوِّهت بشكل فظيع العلاقة الواقعية بين ظواهر العالم.
* نظرية هيجــل العملية المنطقية _ الخطوط العامة للديالكتيك الهيجــلي:
تتألف فلسفة هيجل من أجزاء ثلاثة :-
1. المنطق
2. فلسفة الطبيعة
3. فلسفة الروح
أولاً: المنطـق:-
كان المنطق قبل هيجــل علماً عن الصور أو الأشكال الذاتية البشرية للوجود لكنه لا ينفي ضرورة وجود مثل هذا العلم؛ بل وضع أمام المنطق مهام أوسع وأشمل هي دراسة القانونيات الأكثر شمولية لتطور المعرفة، وبما أنه يعتبر الفكر أساس لكل ما هو موجود فان المنطق عنده يغدو علماً عن ماهية الأشياء كافة.. لـذا نراه يدرس في علم المنطق تحول التغيرات الكمية إلى كيفية ، والعلاقات المتبادلة بين المقولات الفلسفية وطبيعة العمليات الميكانيكية والكيميائية وغيرها.. لقد أغنى المنطق بدراسة مثل هذه المسائل ، لكن منطقه الديالكيتكي رغم أنه مأثرة عظيمة إلاَ أن طرحه لهذا المنطق الديالكيتكي كان طرحاً مثالياً لأنه يطابق بين قوانين الطبيعة وقوانين المنطق أو الفكر.
درس هيجـل في علم المنطق المفاهيم العامة التي تشكلت تاريخياً خلال عملية تطور المعرفة البشرية مثل: الوجــود _ العــدم _ الصيرورة.. الكمية، الكيفية، الضرورة، الصدفة، الأمكان ، والواقع.. الخ.وأكد أن هذه المفاهيم جميعها مرتبطة بعضها ببعض.
المفاهيم عنده في حركة مستمرة، متطورة ومتناقضة.. ففي دراسته لمفهوم الكمية والكيفية يبين كيف تؤدي التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية وذلك على شكل قفزة وانقطاع في الاستمرار والانتقال من حالة كيفية إلى أخرى.
إن الموضوعة القائلة بالتناقضات كمصدر داخلي للحركة أو للتطور تشكل أهم ما في تعاليم هيجـل عن الماهية.. هنا يقف هيجــل بحزم ضد الميتافيزيقا التي تفترض أن لا وجود للتناقض في الأشياء ذاتها وأن هذا التناقض ليس إلاَ نتيجة للتفكير الخاطئ؛ يقول هيجــل: "التناقــض ، ذلك الذي يُسيِّر العالم فعلاَ ومن السخف القول بأن التناقض لا يمكن أن يعقل" وأن التناقض عنده "مبدأ لكل حركة ذاتية" .
بنظريته عن التناقض يرتبط بصورة عضوية مفهوم النفي ونفي النفي؛ فالتطور يؤدي إلى نفي صورة الظاهرة، وهذا النفي لا يأتي من الخارج بل نتيجة للتطور.
إن النفي مرحلة حتمية لعملية التطور لا تنفصل عن المضمون الداخلي لهذه العملية؛ ( إن الحتمية هنا مشروطة بالأداه البشرية .. بالعامل الذاتي – الحزب المنضبط والمنظم والجماهيري - الذي بدونه لايمكن أن تتم عملية التغيير بشكل صاعد ) والنفي عنده ليس نفياً مجرداً أو عدمياً ، إنه نفي ملموس بمعنى أنه لا يلغي القديم إلغاءً تاماً بل يحتفظ بكل ما في القديم من عناصر حيوية من أجل الوصول _عبر نفي النفي_ إلى مرحلة جديدة أرفع من مراحل التطور.
إن المساهمات الرئيسية للديالكتيك الهيغلي يمكن تلخيصها في:
1. ترابط الأشياء فلا يمكن قبول أي حدث بمعزل عن الأحداث الأخرى.
2. رفض النهج الميتافيزيقي الذي ينظر إلى الأشياء بعزلها عن بعضها البعض، فعلى سبيل المثال ليس هناك شيء اسمه "الطبيعة الإنسانية" في حد ذاتها _أي موجودة في خارج الإنسان_ بل هناك طبيعة إنسانية في هذا الموقف أو ذاك.
3. يدعونا إلى النظر إلى الأشياء كافة لا كأشياء جامدة لا تتحرك ولكن أن ننظر إليها كأشياء سبق أن كانت أشياء أخرى وستكون في المستقبل شيئاً جديداً مختلفاً فليس هناك من شيء دائم؛ كل شيء في مرحلة انتقال وفي تطور دائم .. هذه هي عظمة المنهج الجدلي عند هيجل.
4. في تحليلنا لظاهرة ما نكتشف التناقضات الكامنة في داخلها.. فمثلاً "النظام الاقتصادي الرأسمالي المبني على التنافس تطور وتحول إلى نظام احتكاري" .. وامبريالي تطور في الوضع الراهن إلى إمبريالية عليا .. تحت عنوان العولمة .
5. عبر الحركة والصراع الموجودتان في كل شيء يولد الجديد من خلال وصول التراكمات الكمية في لحظة من اللحظات إلى مرحلة التفجر أو الطفرة وبالتالي ظهور حالة نوعية جديدة .. هذا يعني أن لاشئ ثابت أبداً .. في الطبيعة أو المجتمع .. وإن وعينا لاستمرار الحركة يعزز تفاؤلنا بالمستقبل .. فعوامل اليأس مؤقته .. وجبروت وتسلط الاحتلال لايمكن له أن يستمر طالما استمر الصراع ، وكذلك الأمر بالنسبة لانظمة الاستبداد والتسلط ، إن استمرار وجودها مرهون بضعف العوامل الذاتية ومشاركتها في عملية الحركة والصراع .
6. خلال عملية النمو وخلق الجديد أو دلالته يحمل هذا الجديد معه عناصر كثيرة من القديم ولكن مدفوعة أو مطوره إلى الأمام.
رغم صحة كل هذه المساهمات الديالكيتكية.. إلاَ أن هيجـل ربط تطور كل هذه العمليات عبر حركة الفكر أو العقل الكلي كعنصر فعال في صياغة العالم؛ ففاعلية الفكر ومجمل نشاط البشر الواعي والهادف إلى تحويل العالم يفسرها هيجــل تفسيراً مثالياً بوصفها إبداعا ذاتياً للفكرة المطلقة.
ثانيــاً: فلسفة الطبيعة:
بهذا الصدد يقول هيجــل: "إن الفكرة المطلقة بعد أن أدركت محتواها الذاتي قررت طوعاً أن تحل نفسها لتشكل الطبيعة".
لكــن.. الســؤال الهــام والرئيسي هنـا.
أين كانت "الفكــرة المطلــقة" قبل أن توجـد الطبيعــة؟؟
إنه يجيب على هذا التساؤل إجابات بالتأكيـد غير مقنعة ولا منطقية.. وعلى أي حال فإنه يؤيد في إجاباته المزاعم المسيحية عن خلق العالم بواسطة اللــــه ومن العدم.
وفيما يتعلق بمسألة خلق النبات والحيوان فإنه يتصور أن خروجها من الطبيعة الجامدة إلى الطبيعة الحية يمثل تتويجاً للعملية الطبيعية ويقول: "هكذا تخرج الروح من الطبيعة".. وهنا يعتبر هيجـل أن الطبيعة ليست إلاَ مرحلة دنيا من تجلي "الفكرة المطلقة" ووعيها لذاتها ، أما التجسيد الأعلى المماثل للفكره المطلقة فلا تكتسبه إلاَ في الإنسان ، وفي تطور المجتمع؛ إنه أيضاً لا يعترف بالتطور الواقعي للمادة العضوية والكائنات الحية التي في رأيه لا يظهر أحدها من الآخر فكل منها نتاج للفكرة المطلقة.
إنه بمثاليته هذه ينفي التطور في الطبيعة بغض النظر عن ديالكتيكه.
ثالثــاً: فلسفة الــروح:
هنا يدرس هيجـل "الفكرة المطلقة" في المرحلة الأخيرة من تطورها بعدما هجرت الطبيعة لتعــود إلى ذاتها على شكل "الروح المطلق" ، أي أن الفكره المطلقة بعد أن نسخت نفيها "الطبيعــة" تطورت كوعي ذاتي للبشرية على امتداد التاريخ العالمي.
إن فلسفة الروح عنده ليست إلاَ الآراء الفلسفية عن تطور المعرفة الفردية والاجتماعية، وعن التطور العقلي للبشرية عموماً.. ولذا فان تاريخ البشرية الذي يؤول إلى تاريخ تطورها الروحي يبدو _في نهاية المطاف_ تاريخاً لعملية المعرفة ومعرفة الذات، ولكن إشكالية هيجل إنه ربط كل ذلك ب" الفكرة المطلقة " !
تتألف فلسفة الروح من:
1. تعاليم حول الروح الذاتي "الفينومينولوجيا" والأنثروبولوجيا(5) .
2. الروح الموضوعي: الحق ، الأخلاق ، الدولة
3. الروح المطلق : المرحلة الأعلى لوعي "الفكرة المطلقة" لذاتها ممثلة في "الفن والدين والفلسفة" .
أولأ : بالنسبة للروح الذاتي في الانثروبولوجيا ، فإن هذا الموضوع يشير إلى التطور الفردي للشخصية البشرية وعلاقة الروح بالجسد؛ كما لاحظ أن الفروق العرقية لا تعطي أية حجة للنزعة العنصرية، ثم وبعد هذا الموقف الرائـع ضد النزعة العنصرية ينتقل بنا هيجــل إلى رؤية أو موقف مغاير بشكل أو بآخر ، لكنه جدير بالتأمل فهو " يفترض أن الأجناس والقوميات تمثل مراحل مختلفة من تطور "الروح المطلق" وبالتالي لابد من وجود فروق بين القوميات في مجال التطور الثقافي لا يمكن إزالتها وستبقى إلى الأبــد " .. من هنا نفهم كيف استند هتلر والنازية إلى هيجل كمصدر هام للأيديولوجية الفاشية .
وبعيداً عن دور "الــروح المطلقـة" أقول: نعم لهيجــل بوجود فروق مختلفة في مجال التطور بشكل عام بين جميع القوميات لأسباب مادية وموضوعية وذاتية؛ ولكــن.. لا يمكن الموافقة بأي حال على أن هذه الفروق ستبقى إلى الأبد ولا يمكن إزالتها.. أسجل هــذا وكلنا نعي أوضاعنا الأكثر من مهترئه؛ الشديدة التخلف لدرجة لو أن هيجــل عاش عصرنا لكان له رأي آخر أكثر تزمتاً أو لقال: بأننــا كعرب وجدنا في مرحلة النزع الأخير لتطور "الــروح المطلق".. وعلى أي حال لن نظل غارقين في بئر التخلف إلى الأبــد..! فقد تطول فترة الخروج وقد تقصر.. والأصل دوماً في قدرة "الأداة الطليعية" ( الحزب .. العامل الذاتي ) على الخروج من مآزقها وأزماتها ووضوح رؤياها بالتفصيل وارتباطها عضوياً بمن تمثل ارتباط الدم في الجسد لاستمرار الحيــاة..!! حينئذ يمكن إلغاء "الأبــد الهيجــلي"(6) استناداً إلى جدليته حول استمرار الحركة والصراع والتناقض ونفي النفي..إن في هذه العملية الصراعية تكمن الآمال العظيمة للشعوب المقهورة .
ثانيــاً: الــروح الموضوعي:
ويفسره بمختلف العلاقات الحقوقية والأخلاقية وكذلك الأسره والمجتمع المدني.. أنه يفهم كل هذه الأمور فهماً مثالياً ولا يرى الطابع الطبقي للعلاقات الحقوقية وغيرها ، وهذا لايعني بالنسبة لنا – كعرب – إغفال أهمية العلاقات الحقوقية والمجتمع المدني إنطلاقاً من إدراكنا لواقعنا واحتياجاته ، وليس استجابة ذيلية أو مصلحية لمخططات المراكز الرأسمالية عبر المنظمات غير الحكومية أو غيرها .
ثالثــاً: الــروح المطلقــة:
إن الفن والدين والفلسفة ، هي الأشكال العليا لوعي "الــروح".. فالدين في رأيه يحتوى هو الآخر على الحقيقة المطلقة، لكنه يضع الفلسفة في مرتبة أعلى من الدين ، إلاَ أن محتوى الفلسفة ينطبق في نهاية المطاف مع محتوى التعاليم الدينية ، لأن موضوع المعرفة سواء في الفلسفة أو الدين هو "الفكرة المطلقة" التي تعبر عن الله وعن العالم ككل في آن واحد؛ وفي فلسفته هذه تتجلى النزعة المحافظة .
..وعلى أي حال كان هيجــل -حسب ما يقول جون لويس-(7) آخر "الفلاسفة الرومانسيين الألمان إلاَ أنه كان أكثرهم عقلانية: "لقــد فكر هيجــل في العملية الواقعية لسير التاريخ والطور البيولوجي ونمو الأنظمة السياسية في التاريخ إلاَ أنه ربط كل ذلك بالروح الموضوعية ؛ الروح التي لا تفتقر لحظاتها المختلفة على كونها الوعي الفرد ، بل تشمل أيضاً منتجات "الفكر الإنساني" وكل ما هو موجود" .
ويلخص "جون لويس" وجهة نظر هيجــل بالقول: "بأن المظاهـر هي وحدها التي تتغير، وأن المطلق الكلي العقلي أو "الفكرة المطلقة" يجب أن يوجد من وراء العملية التاريخية باستمرار، أو وراء النمو في التاريخ أو الطبيعة ، إنه النمو من خلال المتناقضات . وهي مسألة في غاية الأهمية في الفكر الهيغلي الذي يعتمد على الصراع بين المتضادات الذي يؤدي بدوره إلى تحول الشيء إلى شيء آخر ؛ وهــذا الجديد بدوره تنمو فيه نفس عملية التناقض لتسير العملية _التاريخية أو غيرها_ إلى الأمام.. لذا كان لزاماً علينا أن ننظر إلى كل ظاهرة كعملية Process، أو كشيء يتغير وينمو على الدوام.
وعملية التناقض هذه أو هذا النضال هو منبع كل نمو.. إنها عملية تغير لا نهائي؛ إن هذه العملية جوهر ديالكتيك هيجــل.
إلاَ أننا لا يمكننا الموافقة على ديالكتيك هيجل خصوصاً حينما يُفهَم على أنه حركة للفكر الخالص "ميتافيزيقا" أو كفكرة تنشأ عنها فكرة مضادة ثم ترك الفكرتين المجال بأسره لفكرة ثالثة أكثر شمولاً تتغلب على التناقض..! ثم يُفسَّر العالم على أساس أنه مظهر من المظاهر التي يتخذها التطور المجرد أو المنطقي المحض لهذه الفكرة.
وحول تتالي العصور التاريخية يرى "جون لويس" أن رأي هيجـل بخصوص نمو الروح في التاريخ "إنما هو تقدم نحو "الحرية العقلية" ،إذ لا يمكننا إدراك أياً كان في سياق عملية الحركة والتطور إلاَ إذا نظرنا إليه في نموه التاريخي.
إن كل أمة ودين ونظام بمثابة تجسيد مثل أعلى معين يتفتح ويحقق نفسه في الزمان طبقاً لقوانينه الخاصة؛ إن هيجــل يؤكد رأيه في هذا الموضوع بقوله: "إن الفرد بدأ بتأكيد ذاته في المدينة اليونانية ثم خضع للدولة في المدينة الرومانية .. وحول تصوره للتطور النهائي للدولة الألمانية يؤكد على أنه يجب أن تتوحد المصلحة الفردية والمصلحة الاجتماعية بحيث تتحقق الحرية في نهاية الأمر؛ كان اهتمام هيجــل بالدولة الألمانية وتطورها كبيراً ومتميزاً رغم اعتباره لنابليون بأنه "روح العالم على صهوة جواد"، لقد رأى في نابليون والثورة الفرنسية والتنوير الأوروبي تحولاً حاسماً في تاريخ العالم ، أدى هذا التحول إلى إخضاع الواقع الاجتماعي للعقل الذي يحتل مكانة بارزة أو مركزية في فلسفته ، فهو يقول وما أروعه في قوله : "كل ما ليس بعقلي يجب أن يصبح عقلياً.. فمتى نؤمن بالعقل؟؟إن الواقع العربي يجب أن يتحول إلى واقع عقلاني .. ذلك هو المدخل الضروري نحو التغيير الديمقراطي المنشود .
لقد كانت ألمانيا في نظره دولة ذات نظام سياسي فوضوي أو ميدان للقتال بين المصالح الخاصة، تفتقر للعدالة والحرية والأمان ، أي أن كل ما يبدو ليس عقلياً ، لابد من أن يصبح عقلياً.. لكنه للأسف يعود بنا إلى مثاليته حينما يطرح الحل… وكيــف؟؟
فالحل الذي قدمه قام على التوفيق والتنسيق بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية؛ مجتمع يتحقق فيه العقل والحرية معاً هو حل مقبول ، ولكنه "يضع شرطه الدوجمائي ويبتعد عن ديالكتيكة" في ظل دولة قوية بمواصفات غيرعقلانية ( في رأيه بهذه المناسبة أن الثورة الفرنسية حطمت نفسها لأن الإنسان الفرد لم يضع نفسه عن طواعية تحت سلطان دولة تحقق له حريته الخاصة وحرية المجموع ) .
نعود إلى دولته.. هذه الدولة الألمانية التي تصورها أو آمن بها هيجــل عبر تصور يبتعد عن العقل والحرية ، يضع على رأسها مــلك..! يكون أرفع وأسمى من أن يصاب بأمراض ذلك المجتمع الذي يرفضه ،"المجتمع الفوضوي اللاعقلاني المتعفن" ، هذا الملك أو النظام يضمن للجميع حقوقاً متساوية في الملكية وينشئ دستوراً يسمح ببعض المشاركة في الحكم..!! فدولة مثل هذه فيما لو تحققت تختم "بالشمع الأحمر" تاريخ الحرية ، وهنا نسي هيجل قوله بعملية التغير اللانهائية ، ويبرر قوله حول توقف تاريخ الحرية أو اختتامه بأن دولته يجب أن تقوم على المجتمع العقلي الذي بلغ درجة الكمال والذي يتعلم الناس فيه كيف يريدون ذلك الذي هو في صالح كل فرد وفي صالح المجموع في آن واحد؛ إذن إنه هنا يقف عند نهاية العملية الديالكتيكية بوقوفه عند هيكل الدولة أو المجتمع الألماني الجديد.. لذا نراه فعلاً يعتبر الدولة البروسية تعبر عن روح العالم بشكل أكثر تطابقاً من أي أمة أخرى باعتبار أن هذه الدولة هي "الفكرة الإلهية" كما توجد على الأرض.. اعتقد إن هتلر تصرف إبان زعامته لألمانيا وفق التصور الذي وضعه هيجل للدولة .
وأخيــراً..
إن علينا أن نفرق بين الهيغلية كمذهب والهيغلية كديالكتيك.. إذ أن الفلسفة كديالكتيك تذيب كافة مفهومات الحقيقة المطلقة والحالة النهائية للإنسانية ، ولدى هيجــل ، يتضح التناقض بين مذهبه وديالكتيكه خصوصاً وأن مذهبه أو منظومته(8) -آراؤه في الطبيعه والمجتمع- تضع حداً لتطور المعرفة وتشوه الفهم الديالكيتي الذي صاغه(9) .
لقد قام كلاسيكيو الماركسية بمعالجة مادية للأفكار الإيجابية في الديالكتيك الهيغلي المثالي مستعيضين عن المبدأ المثالي في وحدة الوجود والفكر بالمبدأ المادي القائل بأن وعي الإنسان هو انعكاس للواقع الموضوعي الموجود خارج هذا الوعي وبشكل مستقل عنه.. لقد وضعوا منهجاً جديداً في معرفة الواقع يتناقض جذرياً مع المنهج الهيغلي؛ لقد أوقفوه على قدميه بعد أن كان متكئاً على رأسه.. هذا ما فعله ماركس بعد هيجــل اختلف الكثيرون حول فلسفته وبرز تيارين رئيسيين انعكاساً لها أو دفاعاً عنها؛ تيار يميني دعي ممثلوه بالهيغليين الشيوخ الذين تمسكوا بالأيدلوجية الإقطاعية/ المسيحية ضد التيار اليساري أو الهيغليون الشباب ، ومن أبرز الشباب "شتراوس" الذي أصدر كتاب "حيــاة يســوع" ودحض فيه المزاعم القائلة بعلة أولى خارقة "وحــي إلهي" واعتبر كل "المعجزات" المسيحية أساطير ناتجة عن موقف جماعي للشعب بأسره خصوصاً في فترة الأزمة العميقة التي عصفت بمجتمع الرق.. لكن حركة الهيغليين الشباب التي لعبت دوراً تقدمياً في الثلاثينات من القرن التاسع عشر وكان ماركس أحدهم ، بدأت تفقد طابعها التقدمي مع ظهور مادية فيورباخ، وماركس من بعده؛ حيث قدم هذا الأخير بدلاً من المطلق الذي يقرر التاريخ ، نظرية صراع الطبقات التي تؤدي حسب الضرورة الهيغلية إلى الاشتراكية؛ وقــد عبر عن ذلك ديورانت بقوله: "لقد فقس هيجـل الأستاذ الإمبراطوري بيض الاشتراكية" .
لودفيج فيورباخ (1804 – 1872 ):-
ابن حقوقي مشهور، في عام 1823 م ، انتسب إلى كلية اللاهوت في جامعة هيدلبرغ لكنه لم يدرس سوى سنة واحدة فقط.
بعد أن استمع إلى هيجل وهو يحاضر في برلين رفض طروحاته وشكك في يقينية آراؤه حول الأساس المنطقي للطبيعة.
كان هدف فيورباخ تحرير الإنسان من الوعي الديني؛ وفي مؤلفه "نقــد فلسفــة هيجـل" أعطى حلاً مادياً للمسألة السياسية في الفلسفة وهذا الحل يرتكز على اعتبار الطبيعة، أو الوجود، أو المادة واقعاً ينشأ عنه بالضرورة العقل المفكر.
اقترب في أواخر حياته من الاشتراكية العلمية خصوصاً بعد أن قرأ رأس المال، وأصبح عضواً في الحزب الديمقراطي الاشتراكي في عام 1870 م. إلاَ أنه لم يصل "بقناعاتــه" إلى مستوى المادية الديالكتيكية والتاريخية.
أولا: فلسفتـــه:
إنه يعتبر فلسفته استكمالاً وتجاوزاً في الوقت ذاته لمذهب هيجل.. فإذا كان هيجل يعزل العقل أو الفكر عن الإنسان ، فإن فلسفته ، أو كما يسميها "فلسفة المستقبل" تنطلق من الإنسان؛ فالإنسان وحده هو الذات الحقيقي للعقل ، والإنسان بدوره نتاج للطبيعة.
وفي رأيه إذا كان الدين يعد الإنسان بالنجاة بعد الموت فإن الفلسفة مدعوه لتحقق على الأرض ما يعد به الدين في عالم الغيب.. أي أن على الفلسفة أن تلغي الأوهام الدينية لتوفر وتعطي الإنسان القدرة على معرفة إمكانياته الحقيقية في بلوغ السعادة.. وهذا الهدف _السعادة_ هو ما سعى إليه أو إلى تحقيقه طوال حياته..! إن السعادة كما يبدو هي الهدف النهائي لفلسفة فيورباخ" ولكــن..؟؟
وضع فيورباخ نظرية مادية عن الإنسان، تستند إلى علم سوسيولوجيا وسيكولوجيا الإنسان؛ وهو يقول عن فلسفته: "أنها تجعل من الإنسان بما في ذلك الطبيعة كأساس له.. الموضوع الوحيد الأسمى والشامل للفلسفة وتجعل بالتالي من الأنثروبولوجية(10) بما في ذلك الفيسولوجيا علماً شاملاً" .
ومن هنا كان هذا الفهم لموضوع الفلسفة المادية عند فيورباخ ذو طابع أحادي الجانب، حيث أنه يفهم الأمور فهماً مجرداً _سواء ما يتعلق بالإنسان أو الحياة الواقعية_ خارج ارتباطها بعلاقات اجتماعية تاريخية معينة؛ وبانقسام المجتمع إلى طبقات وغيرها.. لــذا فإنه يكتفي بالتدليل على الطبيعة الحسية للإنسان وعلى الطابع الحسي للنشاط الإنساني، وعلى الوحدة الأنثروبولوجية لجميع البشر؛ وهو حين يفهم الإنسان فهماً مجرداً أنثروبولوجياً يعتبر أن جوهر الإنسان هو العقل، الإرادة، القلب..والحــديث هنا عن طبيعة الفرد التي تبقى هي نفسها في مختلف مراحل التاريخ ، وقد انعكس هذا الفهم على رأي فيورباخ في الدين حيث يقول: "إن اللــه لا يولد إلاَ في الآلام البشرية"..!! قد يكون هذا الوصف صحيحاً في لحظة معينة .. ولكن غاب عنه الموقف الصحيح من هذا الفهم للدين باعتباره يعكس التناقضات التناحرية للمجتمع الطبقي في العصر الراهن ، بمثل ماكان يعكس محاولة للإجابة على الأسئلة الكبيرة أمام الظواهر الطبيعية والاجتماعية التي عجز – الانسان - عن تفسيرها في المراحل التاريخية الأولى لوجوده على هذا الكوكب .
ثانيــاً: فهمــه المــادي للطبيعــة:
يؤكد أن الطبيعة هي الواقع الوحيد، وأن الإنسان هو نتاجها؛ وعنده أن "ليس للطبيعة بداية ولا نهاية.. فكل شيء فيها في تفاعل متبادل، وكل ما فيها نسبي، وكل ما فيها متعدد الجوانب ومترابط بغيره".. وهذه النبوءة الديالكتيكية لم تلق التطوير اللاحق عنده حيث أنه لم يدرس الأشكال المختلفة لترابط الظواهر وتبعيتها المتبادلة ، ولذا فإن مذهبه في الطبيعة لم يخرج عموماً عن إطار المادية الميتافيزيقية.. وقد تجلى هذا في تعريفه للطبيعة بقوله: "أنني أفهم الطبيعة على أنها جملة القوى والأشياء والكائنات الحسية التي يميزها الإنسان عن ذاته باعتبارها غير إنسانية ، أو من وجهة النظر العملية أن الطبيعة هي: كل ما يتجلى للإنسان _بشكل مستقل عن الإيحاءات الغيبية_ مباشرة و حسياً كأساس لحياته وموضوع لها.. فالطبيعة هي الضوء والكهرباء والمغناطيسية والهواء والماء والنار والتراب والحيوان والنبات والإنسان باعتباره كائناً فعالاً بصورة عفوية.. إن كلمة "الطبيعــة" لا تعني بالنسبة لي أي شيء آخـــر.. !!
إذن بهذا الفهم يتميز فيورباخ ويبدو أكثر عمقاً من فهم الماديين السابقين له.
ثالثــاً: آراؤه الاجتماعيـــة:
لم يستطع أن يفهم مادياً الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي.. لقد وقف ضد التفسير الديني المثالي للحياة الاجتماعية ، لكنه لم يرتفع إلى مستوى الفهم المادي للتاريخ وذلك لأنه يستعيض عن القوى الغيبية المحركة للتاريخ بالمشاعر والرغبات الإنسانية.. أي بأشياء واقعية فعلاً لكنها "غير مادية" ؛ إنــه يعارض الفهم الديني المثالي للتاريخ العالمي بالنظرة الطبيعية Naturalistic”" التي تنطلق من الفهم الأنثروبولوجي للحساسية الإنسانية على أنها القوة الرئيسية والمحددة لسلوك كل فرد ولسلوك المجتمع ككل؛ فمثلاً موقفه من الحرية ، يقول: "إن الطائر حر في الهواء والسمكة في الماء والإنسان حر حيث وعندما تسمح له ظروف حياته بتلبية نزوعه الطبيعي إلى السعادة.. وإلى تحقيق قدراته".. وهذا الفهم الطبيعي، الأنثروبولوجي المجرد للحرية الإنسانية شبيه بمطلب المنورين البورجوازيين في جعل ظروف الحياة الإنسانية تتفق مع الطبيعة الإنسانية.
إنه يرى في الحــب جوهر الحياة الإنسانية وهدفها؛ ويرى فيه القوة المحركة للتقدم الاجتماعي، والأخلاقي خاصة.. فهذا التفاؤل الأخلاقي يصطدم لا محالة بوقائع التاريخ والحياة اليومية..! والأمثلة في بلادنا كثيرة ، كيف يمكن للإنسان الفقير المضطهد أن يمارس السعادة ويعرف الحب وهو على هذه الحال من البؤس والشقاء .. فكما هي الأخلاق نسبيه .. كذلك الحب وكافة المفاهيم الاخرى .
إن قيمة آراء فيورباخ الاجتماعية والأخلاقية تكمن في نفي التصورات الدينية، وفي أنها تشكل الأساس النظري للديمقراطية البورجوازية.. فالإنسان _الطبيعي_ السوي الذي يتكلم عنه فيورباخ ويرى أنه إنسان المستقبل المتحرر من كل ما يشوه فرديته.. هذا الإنســان "المجرد واللاطبقي يبقى في نهاية الأمر صورة مثالية لإنسان النخبة في المجتمع البورجوازي.. أو على وجه الدقة المجتمع الطوباوي .

المصدر: بقلم moneim
  • Currently 213/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
70 تصويتات / 4819 مشاهدة
نشرت فى 12 سبتمبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,169,947