<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

الطريق إلى البرلمان الذي نتمناه

أتصور أني أحلم عندما أكتب عن مواصفات البرلمان الذي نتمناه لبلدنا الحبيب، فأنا لا أصدق أنه أصبح من حقنا أن نكتب ونتصور كيف يمكن أن نصل إلى أفضل صورة لأول برلمان في مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولكني سرعان ما أعود لنفسي وأدرك أن هذا ليس حلمًا، بل هو الواقع والحقيقة، إن المصريين اليوم بعد عدة عقود عجاف من القهر والتسلط والتزوير والغش من حقهم أن يرسموا صورة وضيئة للبرلمان الجديد الذي يتمنون أن يروه في بلادهم ويفاخروا به، بل ويباهوا به أكثر الدول ديمقراطية ونزاهة.

مواصفات الانتخابات:

إن أول خطوة نتمناها نحو برلمان شريف هي أن تكون أول خطوة لدخوله خطوة شريفة نزيهة، وأعني بها خطوة الانتخابات، فقد عشنا انتخابات برلمانية عديدة، ولكننا في معظم الأحيان لم نكن نهتم بها أو نأبه لها، لأننا اعتدنا على أنها تقوم على الغش والخداع والتزوير وشراء الذمم والضمائر وعدم احترام رأي الناخب، بل إن رأيه لم يكن له أي تأثير على نتائج هذه الانتخابات، حيث كانت هذه النتائج توجَّه في الاتجاه الذي تريده السلطة الفاسدة وإن خالفت في ذلك رأي كل المصريين الذين لم تكن الدولة تشعر – أصلاً – بوجودهم ولا تحترم رأيهم، وقد أدى استمراء هذا النهج إلى إصابة الجمهرة العظمى من المصريين بالسلبية السياسية، وانعدام الشعور بحب الوطن والانتماء إليه.

لذا نتمنى من كل المصريين الغيورين على وطنهم أن نتكاتف لنصنع صورة جديدة للانتخابات البرلمانية المقبلة، نريد انتخابات حرة نزيهة شريفة دون أن يمارس أيُّ مرشح ضغوطًا من أي نوع على الناخب، وأن تختفي ظاهرة الرشوة من العملية الانتخابية، سواء كانت بالمال أو الغذاء أو الكساء أو غير ذلك من وسائل التمويه والخداع لكسب أصوات الناخبين وتعاطفهم.

نريد أن يقتصر دور المرشح على الدعاية الانتخابية الحقيقية لانتخابه، وذلك بعرض برنامجه الانتخابي وإمكانياته لخدمة المواطنين شريطة أن يُتبع كلُّ مرشح كلامه ودعايته بالعمل الجاد لتحقيق مطالب البلاد والعباد، وألا تكون الدعاية الانتخابية مجرد شعارات حماسية لكسب تعاطف الناس وأصواتهم، وبعد النجاح تذهب كل هذه الوعود أدراج الرياح، وعندها يشعر الناخب أن مسلسل التآمر عليه والمتاجرة بأحلامه ومستقبله ما زال مستمرًّا.

المرشح الذي نريده:

إن كل ما سبق لن يتحقق إلا إذا كان كل المرشحين على قدر المسئولية، ويحرصون على تغليب المصلحة العامة للوطن والمواطنين على المصلح الخاصة أو الشخصية.

نحن لا نريد مرشحًا يبحث عن مزايا المجلس وما يمكن أن يحصِّله من مكاسب مادية أو معنوية من وراء دخوله البرلمان.

نحن نريد مرشحًا يشعر أن دخوله البرلمان أمانة في عنقه وعهد بينه وبين مَن اختاروه وأعطوه أصواتهم ليجعل مصلحة البلاد والعباد مقدمة على كل الأهواء والأغراض الشخصية، فيستشعر قول الله تعالى: ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَن تُؤَدُوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِها)) (سورة النساء، من الآية رقم 58)، وقوله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الذينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بالعُقُودِ)) (سورة المائدة، من الآية رقم 1)، ويضع نُصب عينيه قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (متفق عليه).

نريد مرشحًا يجيد الاستماع والفهم لحاجات الناس والوطن، ولا نريد مرشحًا يجيد الكلام ويُنمِّقه ولا يعرف العمل والتنفيذ، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)). (أخرجه ابن حبان، والطبراني في "الكبير"، والبزار، عن عمران بن حصين، والألباني في صحيح الجامع، حديث رقم 1554).

نريد مرشحًا يدرك أنه خادم لهذا الشعب ومسئول عن مصالحه؛ لأنه لم يدخل البرلمان إلا بأصوات هذا الشعب، وأن خدمته لأهل دائرته ليست منة منه وإنما هذا هو واجبه وتلك هي مسئوليته، وليتنا نغير ثقافتنا فلا نفهم من كلمة ((خادم)) معاني التنقيص والتقليل من الشأن أو الإهانة، بل نفهم منها معاني المسئولية والشرف وحب الآخرين، وقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ((خادم القوم سيدهم))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ لِلَّهِ عَبَّادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ)). أخرجه ابن أبى الدنيا في قضاء الحوائج (1/24، رقم 5)، والطبراني في الأوسط (5/228، رقم 5162)، وأبو نعيم في الحلية (6/115)، والخطيب (9/459)، وحسَّنه الألباني (صحيح الجامع، رقم 2164).

لا نريد مرشحًا يتعالى على أفراد الشعب ويتكبر عليهم ويرى نفسه فوقهم، أو يرى نفسه شخصًا مهمًّا وباقي مَن حوله من الناس لا أهمية لهم، يعيش في برج عاجي وينسى أن هذا الشعب هو الذي صنعه وجعل منه شخصية مسئولة، فيكون ناكرًا للجميل، وهذا ديدن اللئام.

الناخب الإيجابي الواعي:

إن الطرف الأهم في العملية الانتخابية هو الناخب نفسه؛ لأننا لو استطعنا أن تكون الانتخابات نزيهة شريفة فإن صوته هو الذي سيوجِّه نتائج الانتخابات إلى الجهة التي يريدها الشعب لتحقق آماله وأحلامه وطموحاته.

لذا فنحن نريد ناخبًا واعيًا مدركًا لقيمة صوته الانتخابي، ويدرك – وهذا هو الأهم – أن صوته أمانة فلا يضيعه ولا يمنحه إلا لمن يستحقه، وأن الإدلاء بصوته شهادة، والشهادة يحرم كتمانها ويجب أداؤها مادام يترتب على كتمانها وصول الانتهازيين إلى مصدر القرار، أو وصول مَن ليس أهلاً لهذا المكان، وهذا يحدث كثيرًا نتيجة الجهل والسلبية، يقول ربنا تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (سورة البقرة، من الآية رقم 140)، وقال جل شأنه: ((وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) (سورة البقرة، من الآية رقم 283)، وإذا كان الإدلاء بالصوت شهادة، فهي إما أن تكون شهادة حق تنفع بها نفسك ووطنك، أو شهادة زور تضر بها نفسك ووطنك، وتُسال عنها بين يدي ربك، يقول تعالى: ((واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) (سورة الحج، من الآية رقم 30)،  

نريد ناخبًا يرفض كل أشكال التضليل والإغراء المادي أو المعنوي، وأن يذهب إلى صناديق الاقتراع لأنه – فقط – يشعر بالمسئولية تجاه وطنه، أما إن ظللنا أسرى لكل أشكال الإغراءات فلن تتغير أحوالنا، وإن تغيرت أحوال البعض منا نتيجة الإغراءات المادية، فإنه تغير مؤقت سرعان ما يزول وتعود الأحوال إلى أسوأ مما كانت عليه، لذا أتمنى على جميع الناخبين ألا يؤثروا التحسن المؤقت لأحوالهم وأوضاعهم على التحسن الدائم المستمر.

نريد ناخبًا إيجابيًّا في كل تصرفاته، إيجابيًّا في التقدم للإدلاء بصوته في المكان المناسب وللشخص المناسب، إيجابيًّا في توعية الآخرين وتقديم النصح لهم وتوجيههم إلى الأحسن والأفضل حتى لا يقعوا في براثن المخادعين والمنافقين وأصحاب المصالح، إيجابيًّا في الدفاع عن صوته وإرادته فلا يسمح بتزوير إرادته في أي دائرة كانت، فإن مهمة الناخب لا تنتهي بالإدلاء بصوته، بل تنتهي بانتهاء فرز الأصوات، وبالتالي يظل رقيبًا على العملية الانتخابية – التي هي حق أصيل له – حتى لا يعطي الفرصة لضعاف النفوس بالتلاعب أو التزوير أو تغيير إرادة الأمة لمصالح حفنة من المنتفعين بالفساد ومنعدمي الضمير والأخلاق.

نريد ناخبًا يكون على وعي ومعرفة بمَن يختاره ليمثله في البرلمان ويحسن التعبير عن مشاكله وآماله، والناخب – في هذه الحالة - بين أمرين؛ إما أن يعرف مَن يختاره معرفة واضحة ويثق به ويكون على علم بقدراته وإمكانياته وأمانته ودينه، وإما أن يسأل عمن لا يعرفه حتى يكون اختياره صحيحًا ومناسبًا، ويجب عليه ألا يعتمد على الدعاية الانتخابية في الاختيار فأغلبها استهلاكيٌّ فقط، وليست للتطبيق العملي، كما يجب عليه أيضًا ألا يعتمد على الشكل أو المظهر عند الاختيار، فكثيرًا ما يكون المظهر خادعًا ولا يعبر عن شيء، كما يجب عليه أن يبتعد عن العصبية في الاختيار، فغالبًا ما تأتي العصبية بأشخاص لا يحسنون شيئًا ويفتقرون إلى أقل درجات الخبرة بالأداء البرلماني، إن الناخب الواعي يجب أن يكون اختياره على أساس الكفاءة والخبرة والقدرة على الأداء والإنجاز.

الإيجابية داخل البرلمان:

وهنا يأتي دور النائب الذي اختاره الناس وعولوا عليه ووثقوا فيه، ورأوه أهلاً لهذا المكان، كما رأوا فيه المؤهلات التي تمكنه من تحقيق الدور المنوط به، وهو الدفاع عن حقوقهم وتحقيق آمالهم وصيانة وطنهم وحمايته، لذا وجب على كل نواب المجلس أن يكونوا عند حسن ظن ناخبيهم، وألا يخونوا الثقة التي منحها الشعب لهم، وبالجملة يجب أن يكونوا إيجابيين داخل البرلمان.

إيجابيون في تحقيق مطالب الناس ورعاية مصالحهم والرأفة بهم ومراعاة أحوالهم وتحسين أوضاعهم، فهم شعب صابر مثابر يستحق التضحية والخدمة، بل يستحق كل خير.

إيجابيون في التصدي لكل ما من شأنه أن يهدر كرامة الوطن، أو يخرِّب اقتصاده، أو يهدد ثوابته وقيمه، أو يغير هويته الإسلامية، أو يتعارض مع أصول شريعتنا الغراء وثوابتها.

يجب أن يكون نواب البرلمان ذوي أعين مفتوحة وقلوب واعية وضمائر حية لمراقبة كل التصرفات والإجراءات داخل البرلمان، فلا تنطلي عليهم حيل المتحايلين، ولا ادعاءات المنافقين، ولا معسول كلام الشياطين، وأن يضعوا نُصب أعينهم قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: ((لا تكونوا إمعةً، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا)). (رواه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان).

إيجابيون في النقاش والمناقشة والمواجهة، لذا يجب أن يتحلوا بعلو الهمة وترك سفاسف الأمور وصغيرها، فهم مسئولون عن وطن بأكمله، وليسوا مسئولين عن مصلحة شخصية أو غرض ذاتي.

تجنب الظواهر السلبية داخل البرلمان:

نريد برلمانًا جديدًا يتخلى عن كل الظواهر السلبية التي سئمنا منها سابقًا، لا نريد نائبًا مهمته الأولى والأخيرة النوم داخل قاعة البرلمان، وكأن الشعب استأجر له ((سويتًا)) في أفخم فنادق مصر المحروسة ليستجم ويستريح، وآخر ما يفكر فيه هي مصلحة مَن ائتمنوه على هذا المنصب ورشحوه لهذا البرلمان.

لا نريد نائبًا يحمل معه إلى قاعة البرلمان ((المسليات)) بأشكالها المختلفة ليقتل الوقت الممل داخل جلسات البرلمان؛ لأنه لا يشعر بالمسئولية ولا بالأمانة الملقاة على عاتقه، بل لا نستبعد أن تكون كل هذه الطرائف من صنع النظام البائد بعد أن اشترى ذممهم وضمائرهم إلا مَن رحم ربي من النواب المخلصين الذين ضحوا بكل شيء في سبيل مصلحة الوطن والمواطنين.

نريد نوابًا يحسنون التحاور بلغة راقية تتناسب مع وقار المنصب وأهميته، نوابًا يحترم كل واحد منهم رأي الآخرين وإن خالف رأيه، فإن أحدًا منا لا يمكن أن يدعي العصمة لنفسه، أو يدعي أن معه الحق المطلق، وفي النهاية يجب أن يكون هدف الجميع مصلحة البلاد والعباد.

يجب أن ندرك أننا من خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة نجني أولى ثمار الثورة المباركة، وذلك باختيار (برلمان الشعب) وليس (برلمان الحكومة)، ليعبر تعبيرًا حقيقيًّا عن الشعب، ويسعى إلى تحقيق مطالبه وآماله، بل يسعى لتخفيف مشاكله وأوجاعه، لننجح في اجتياز المرحلة الانتقالية الصعبة التي نعيشها الآن، ونكمل بقية الخطوات نحو الدولة الديمقراطية التي يتمناها كل المصريين، لذا وجب على الجميع أن يكونوا عند مستوى الحدث الكبير الذي نعقد عليه الكثير من الآمال والطموحات، ونسأل الله أن يلهمنا الصواب والرشاد وأن يحقق آمال البلاد والعباد، إنه – سبحانه - كريم جواد.   

د/ محمد علي دبور

كلية دار العلوم – جامعة القاهرة

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

[email protected]

المصدر: مقال شخصي

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

81,190