تتناول هذه الورقة الاستيطان الصهيوني الذي تعرضت له مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي إبان فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، والدور الذي لعبته بريطانيا في تيسير أعمال التهويد وخاصة فيما يتعلق بالهجرة وحيازة الأراضي، وسياسة التنظيم البلدي التي رعتها بريطانيا والتي روعي فيها مصلحة واحتياجات الاستيطان اليهودي، كما تتناول الورقة الصراع بين الفلسطينيين واليهود للسيطرة على المجلس البلدي كجزء من السيطرة السياسية على المدينة، كما تتناول بالتحليل كيفية سقوط الشطر الغربي من المدينة تحت السيطرة الصهيونية بعد رفض المقترحات الدولية بتدويل المدينة.
بدأت عملية تهويد القدس في العهد البريطاني في أعقاب دخول الجنرال اللنبي، بقيام المهندس ماكلين، مهندس مدينة الإسكندرية بوضع الخطة الهيكلية الأولى لمدينة القدس، وكذلك المقاييس والمواصفات والقيود المتعلقة بالبناء والتطور. وبناء على الخطة الهيكلية التي وضعها كاندل عام 1918، فقد قسمت المدينة إلى أربعة مناطق: "البلدة القديمة وأسوارها، المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، القدس الشرقية، والقدس الغربية". تلك المخططات التي اعتبرت العمود الفقري لكافة الخطط اللاحقة. ونصت الخطة على منع البناء منعا باتا في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضعت قيوداً على البناء في "القدس الشرقية"، وأعلنت عن "القدس الغربية" كمنطقة تطوير. أما في عهد المندوب السامي الأول، هربرت صموئيل، اليهودي الصهيوني (1920ـ1925)، فقد أخذت القدس تشهد سمات التحول ومعالم التهويد الأولى البارزة.
ابتدأت معالم التهويد تظهر مع بناء المستعمرات الأولى على هضاب القدس (وهي ما أصبحت تدعى بالمستوطنات فيما بعد)، فكانت روميما عام 1921، المستعمرة الأولى، لحقت بها تل بيوت 1922، بيت هاكيرم 1923، وميخور حاييم وميخور باروخ، رحافيا، كريات موشيه، نحلات آحيم 1924، بيت واجن، محانايم، سنهادريا 1925، كريات شموئيل 1948، نحيلا، كيرم أفراهام 1929، ارنون، تل ارزه 1931، حتى أصبح عددها ست عشرة مستعمرة وضاحية وحياً عام 1948. ومنهم من يعدها اثنتي عشرة فقط، وفقا للمقاييس المتبعة حجما وأهمية، إلا أنه من الجدير بالذكر أن عدد الأحياء والمستعمرات اليهودية التي بنيت فقط في عهد المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل، بلغت إحدى عشرة ضاحية يهودية ما بين عامي 1921ـ 1925، وهذا يعنى أن معظم ما بني في عهد الانتداب، قد بني في عهد المندوب السامي الأول. كما شهدت تلك الفترة تدفق رؤوس الأموال اليهودية وخاصة مع المهاجرين الذين جاءوا من ألمانيا وبولونيا، واللذين كانوا في معظمهم من الطبقة المتوسطة، الذين باعوا أملاكهم وصفّوا أعمالهم وانتقلوا مع رؤوس أموالهم إلى فلسطين. بحيث قدر أحدهم مجموع الأموال التي وظفها اليهود في فلسطين، خلال السنوات 1932ـ1935، بنحو 31 مليون ليرة فلسطينية، مقابل 20 مليونا تم توظيفها خلال السنوات 1921ـ1931. حسب تقدير ارلوزروف. (في الوقت الذي بلغت فيه ميزانية حكومة فلسطين السنوية حوالي 2 مليون جنية) هذا في الوقت الذي تدفقت فيه رؤوس الأموال الأميركية والغربية إلى فلسطين لاستثمارها في مشاريع إقامة "الوطن القومي اليهودي"، حصلت القدس منها على نصيب وافر. بحيث أخذ ينتقل إليها، أو يقام فيها تدريجيا، عدد كبير من المؤسسات الصهيونية واليهودية، لجعلها مركزاً سياسيا وإداريا وتعليميا. فأصبحت المدينة مقرا للجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، والصندوق التأسيسي، والصندوق القومي اليهودي، والمجلس الوطني لليشوف، والحاخامية الرئيسية. وفي سنة 1925 افتتح بلفور الجامعة العبرية في القدس، والتي وضع حجر الأساس لها وايزمن بحضور الجنرال اللنبي في 24 يوليو 1918، أي قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى تماما ببضعة أشهر. أقيم عدد من هذه المؤسسات على هضبة جبل المشارف (سكوبس) في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة القديمة، وهو موقع استراتيجي يسيطر على شمال المدينة ويشرف على القرى المجاورة، كما يشرف على وادي الأردن وجبال الأردن الغربية كما أنه الاتجاه الوحيد المتبقي أمام أي توسع للجزء العربي من المدينة ناحية الشمال، مما يشكّل حصاراً للمدينة، يتكامل مع أطواق الاستيطان اليهودي، من الجهة الغربية، والجنوبية الغربية. ذلك أن توسع المدينة العمراني لم يسر بشكل متساوٍ في جميع الاتجاهات، حيث أن السلطات الانتدابية قامت بوضع مخططات تنظيمية عدة للمدينة وذلك في الأعوام 1919و1922و1929/1930و1946، راعت إلى حد كبير خارطة الاستيطان اليهودي في المدينة القائمة والمستقبلية، كما وقيدت إمكانات التوسع الفلسطيني، القائمة والمستقبلية. يضاف إلى ذلك طبيعة الموقع المتفاوت طبوغرافيا، والذي تحكم في هذا التوسع، فمن جهة الغرب ـ التي طالها التوسع أكثر من بقية الأجزاء الشرقيةـ توفرت التربة الخصبة، والأمطار والمياه، والانحدار التدريجي باتجاه اللد والرملة، والسهول الساحلية. على نقيض المنحدرات الشرقية شديدة الانحدار، وفقيرة التربة. وقد أدى ذلك إلى أن تتوسع حدود البلدية عدة مرات. فقد وصلت مساحتها عام 1930 إلى17 ضعفا من مساحة البلدة القديمة. أو ما يقارب 4800 دونم، ارتفعت عام 1948 إلى 20131 دونم.
على أن ملكية اليهود في الجزء الغربي قبل عام 1948، لم تتعد في مجموعها 20%؛ والباقي مملوك لفلسطينيين مسيحيين ومسلمين وهيئات مسيحية دولية. كان هذا القطاع، ـ كما سبق الإشارة ـ يضم الأحياء السكنية الفلسطينية الأكثر ثراء، وكذلك أغلبية القطاع التجاري الفلسطيني. في حين كانت ملكية الأراضي اليهودية ما قبل سنة 1948 في "القدس الشرقية" الراهنة محدودة جداً. ففي داخل البلدة القديمة ضمت الحي "اليهودي" الذي لم تتجاوز مساحته 5 دونمات. وخارج البلدة القديمة، ضمت مستشفى هداسا ومجمع الجامعة العبرية على جبل المشارف (سكوبس)، وكلاهما لا يتجاوزان 100 دونم، ومستوطنتي عطروت ونفي يعقوف بمساحة 500 دونم و489 دونما على الترتيب.
ساهمت الظروف السياسية المريحة، إلى حد كبير، في تنفيذ المرحلة الثانية من المخطط الصهيوني لاحتلال القدس، الذي اتسم عموما بتعزيز الوجود اليهودي فيها وإحكام تطويقها استيطانيا لمنع أي توسع عربي محتمل، ومحاولة السيطرة على الحكم البلدي كخطوة نحو السيطرة على المدينة، وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية العتيدة. انعكس ذلك في ارتفاع معدل الهجرة إلى فلسطين بشكل كبير خلال فترة الانتداب، متأثرا بعوامل أخرى خارجية، منها صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا سنة 1933، وكذلك الأزمة الاقتصادية التي وقعت سنة 1929، التي أثرت على دول عدة، ومن ضمنها بولونيا، ورومانيا، هذا إضافة إلى إدخال السلطات البريطانية تعديلا على قانون الهجرة، في 16 مارس 1932، خفضت بموجبه المبلغ المطلوب حيازته من المهاجرين من "صنف" أصحاب الأموال، للدخول إلى فلسطين من 1000 إلى 500 ليرة فلسطينية، هذا إضافة إلى منح صلاحيات واسعة للمندوب السامي بشأن تحديد قدرة فلسطين الاقتصادية على الاستيعاب، ومن ثم تعيين عدد المهاجرين اليهود الذين يمكنهم الدخول إليها.
قفز عدد المهجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين من 1806 مهاجراً سنة 1919 إلى 8223 سنة 1920 و 13.892 سنة 1924 و 34.386 سنة 1925 و 37.337 سنة 1933 و66.422 سنة 1935 و 22.098 سنة 1947. وقد ساهم ذلك في تعزيز الجالية اليهودية في القدس بشكل كبير، وقلب الميزان الديموغرافي على النحو التالي. كانت نسبة الذين استوطنوا القدس من هؤلاء على النحو التالي: 40.7% سنة 1922؛ 30.8% سنة 1930؛ 16.7% سنة 1946؛ و11.6% سنة 1948.
وفي حين شكل العرب من مسلمين ومسيحيين أغلبية في لواء القدس، كوحدة تشمل القرى والبلدات المحيطة بالمدينة،(بلغ عدد سكان ديار بيت المقدس 1945: 295.230 منهم142،829 مسلمون، 52.600 مسيحيون، 100.200 يهود أي نسبة 34% )، فقد استطاع اليهود سفارديم وأشكنازيم، أن يصبحوا أغلبية داخل الحدود البلدية (سنة 1947: 99.4 ألف يهودي في مقابل 65.1 ألف عربي، في حين بلغ عدد العرب في البلدة القديمة 33.600 ألف يملكون 85% واليهود 2400). وقد راجع المؤرخ البريطاني، مايكل دمبر الأدبيات الديموغرافية لفترة الانتداب، وتوصل إلى تفسيرين لهذا التمايز في نسب السكان:
الأول: اعتادت الإحصاءات الانتدابية احتساب المهاجرين الذين وصولوا إلى القدس قبل سنة 1946، ثم انتقلوا بعدها إلى تل أبيب ومناطق أخرى، كأنهم باقون في القدس
الثاني: استثنت تلك الإحصاءات سكان الأرياف المحيطة بالقدس، الذين يعملون في المدينة (مثل العاملين في المدينة من سكان قريتي لفتا ودير ياسين)، بينما احتسبت في الوقت ذاته السكان اليهود الذين يسكنون خارج البلدية على أنهم من سكان المدينة (مثل سكان بيت فيغان ورمات راحيل وميخور حاييم)، وهي عملية التفافية مشوهة يسميها دامبر"الاحصاء الديموغرافي الهيكلي" (Demography Gerrymandering). أي تقسيم منطقة إلى وحدات لمصلحة جماعة معينة.
وعلى الرغم من هذه التقديرات البريطانية، فإن العرب كانوا يملكون داخل حدود بلدية القدس عام 1947، ما مجموعه 11.191 دونم من أصل 19.326 (منها 3305 دونمات أراضي الدولة)، في حين يملك اليهود 4830، أي أن العرب كانوا يملكون ثلاثة أضعاف الأرض. (وفق إحصاءات 1945 فإن لواء القدس كان يغطي مساحة 1.57 مليون دونم، منها 88.4% كان يملكها عرب، و2.1% يملكها يهود، و9.5% أرض عامة).
أثارت الأرقام المتصاعدة للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، والسياسة البريطانية التي تلخصت بتسهيل إقامة الوطن القومي اليهودي، مخاوف الشعب العربي الفلسطيني وقياداته في فلسطين. إذ تبين لهم أن هذه الهجرة ستجعل من العرب الفلسطينيين أقلية في بلادهم خلال فترة وجيزة. فقام الشعب الفلسطيني بعدد من الانتفاضات والثورات ضد سياسة الهجرة واستملاك الأراضي، والبنود التي تضمنها صك الانتداب عن "الوطن القومي اليهودي"، وكذلك القوانين والأوامر البريطانية بخصوص استملاك الأراضي، وكان من أبرزها ثورات وانتفاضات 1920، 1929، 1933و 1936ـ1939. وكانت القدس مركز هذه الثورات جميعا أو الشرارة التي انطلقت منها. ففي حين كانت ثورتا 1920 و1929 موجهتين في الأساس ضد المهاجرين وسياسة الهجرة، فإن ثورتي 1933 و1936-1939 تميزتا بالتعرض للاحتلال البريطاني للبلد أيضا. وكان السبب المباشر لثورتي 1920 و1929 النزاعات بين اليهود والمسلمين حول الأماكن المقدسة في القدس.
الصراع على مجلس بلدية القدس
إلى جانب الجهود الحثيثة في مجال الأراضي والهجرة والاستيطان في القدس، فتحت جبهة أخرى تركزت على بلدية القدس. التي اكتسبت طابعا سياسيا هاما في عهد الانتداب. وسعي اليهود للسيطرة التدريجية عليها وخاصة بعد التسهيلات التي أمنّها لهم البريطانيون منذ احتلالهم للمدينة.
لم تختلف الممارسات البريطانية تجاه القدس عن ممارساتها تجاه القضية الفلسطينية ككل، فقد تميزت في معظمها بتسهيل سيطرة اليهود على المدن الفلسطينية بشكل عام وعلى القدس بشكل خاص، ومن أجل تحقيق ذلك تلاعبت الإدارة البريطانية بحدود المسطح البلدي فيها، وبقوائم الناخبين بحيث كانت تستثني الأحياء العربية منها، مثل (الطور، سلوان، العيسوية ، شعفاط وبيت صفافا العربية)، بينما كانت الأحياء اليهودية مهما بعدت تدخل في مسطح البلدية. أقدمت السلطات البريطانية في بداية عهد الإدارة العسكرية لفلسطين (أواخر 1917 وحتى 1920)، على حل المجلس البلدي للقدس، وتعيين لجنة لإدارة البلدية، أسندت رئاستها لعضو مسلم، ينوب عنه عضوان من الطائفتين المسيحية واليهودية. ومع تطبيق الإدارة المدنية عام 1920، أعيد تشكيل اللجنة، وحل محلها مجلس استشاري لإدارة البلدية يتكون من عشرة ضباط بريطانيين رسميين، وعشرة أعضاء غير رسميين، يعينهم المندوب السامي: أربعة من المسلمين، وثلاثة مسيحيين وثلاثة يهود. وفي نيسان وضعت السلطات البريطانية قانون الانتخابات في العام 1926، أتاح، خلافاً للقانون العثماني، حق الانتخاب لدافعي الضرائب حتى وإن لم يكونوا من أصحاب الأملاك بل مستأجرين فقط، كما نص هذا القانون على أن الناخب يجب أن يكون مواطنا فلسطينياً بدلاً من "مواطن عثماني". تكوّن المجلس البلدي بعد عام 1927، من اثني عشر عضوا نصفهم من العرب (أربعة مسلمين ومسيحيان وستا من اليهود)، وكان ذلك نتيجة للتعديل على قانون الانتخابات، والذي فتح الباب واسعا أمام المهاجرين اليهود ليدخلوا تلك الانتخابات. بقيت رئاسة البلدية في يد مسلم، هو حسين الخالدي، وتم تعيين موشيه شرتوك اليهودي نائبا أول لرئيس البلدية بناء على اتفاق مع المندوب السامي. ثم بدأت محاولات اليهود للمطالبة برئاسة البلدية، وبعد فشل الاقتراح الذي تقدمت به السلطات البريطانية إتباع نظام التناوب على رئاسة بلدية القدس، بسبب معارضته فلسطينياً، تم إبعاد رئيس البلدية حسين الخالدي ونفيه إلى جزر سيشيل في المحيط الهندي، لكونه عضواً في اللجنة العربية العليا, قام الإنجليز بحل المجلس في 11 تموز 1945، وتعيين لجنة بلدية من ستة موظفين بريطانيين. وبقى الأمر كذلك حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني على فلسطين في أيار 1948.
قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين:
صادقت الجمعية العامة، في دورتها الخاصة، بقرارها رقم 181 (الدورة الثانية)، الصادر في 29 نوفمبر 1947، والمعروف بقرار التقسيم، على توصيات اللجنة (تقرير فريق الأكثرية) بعد إدخال تعديلات بسيطة عليها. حيث أوصي بدولة يهودية وأخرى فلسطينية، وكذلك نظام خاص بالقدس ـ في جزء منفصل لا يقع في أي من الدولتين المقترحتين، اليهودية أو الفلسطينية ـ تحت وصاية الأمم المتحدة. وضم هذا "الجزء المنفصل" ، مدينة القدس كلها في حدودها البلدية تحت الانتداب. وأضيف إلى هذه المنطقة نحو 20 قرية عربية . وكان عدد سكان هذا "الجزء المنفصل" أقل قليلا من 100.000 يهودي، ونحو 105.000 عرب. وقد رفضت اللجنة العربية العليا للفلسطينيين هذا القرار، كما رفضته الدول العربية، على أساس أن الأمم المتحدة قد تخطت صلاحياتها في هذا الشأن. أما المنظمة الصهيونية، التي كانت تصر على إقامة دولة يهودية على كامل الأراضي الفلسطينية وجعل القدس عاصمة هذه الدولة، فقد قبلت به بتردد، وما لا تذكره المصادر، أن المعسكر الصهيوني التنقيحي ومنظمتيه، الأرغون وجماعة شتيرن (اللتين ينحدر الليكود منهما مباشرة) لم يقبلوا التقسيم. وفي الوقت نفسه، فإن القبول اللفظي بالتقسيم من قبل القيادة اليهودية الرسمية لم يعن القبول بـ"الجزء المنفصل" للقدس الذي كان جزءاً عضوياً من خطة الأمم المتحدة للتقسيم. وكما تشهد الخطة دالت، التي وضعتها الهاغاناه. فإن القيادة اليهودية كانت مصممة على ربط الدولة المتصورة بالقدس في "الجزء المنفصل". إلا أنه لما كان "الجزء المنفصل" يقع عميقا داخل الأراضي العربية، في وسط الدولة الفلسطينية المتصورة، فإن إنجاز ربطه لم يكن ممكنا إلا عسكريا. ومبكراً منذ إبريل 1948 ـ قبل نهاية الانتداب البريطاني وقبل دخول الجيوش العربية النظامية ـ قامت القوات اليهودية بهجومين عسكريين رئيسيين من أجل احتلال القدس: أحدهما من تل أبيب في اتجاه القدس عبر الأراضي التي خصصها قرار التقسيم للدولة الفلسطينية، والآخر من الحي اليهودي داخل المدينة ذاتها. وفي مسار الهجوم الثاني، سقط كل ما يشكل اليوم "القدس الغربية" في يد الهاغاناه، وارتكبت المجزرة في دير ياسين على أيدي مجموعتي الإرغون وشتيرن، اللتين قادهما رئيسا الحكومة السابقان مناحيم بيغن ويتسحاق شامير، على التوالي.
وحتى قبل النهاية المحددة للانتداب في 15 مايو 1948، فإن هدف الهاغاناه لم يكن احتلال كل منطقة القدس البلدية ـ الجزء الغربي ـ فحسب، بل أيضا احتلال المنطقة الأكبر، أي "الجزء المنفصل" ذاته بكامله. ولم يحبط إلا في اللحظة الأخيرة عبر المقاومة الفلسطينية وتدخل الجيش الأردني، وبذلك فإن السيطرة اليهودية الراهنة على "القدس الغربية" وما يسمى "الممر" الذي يصلها بالساحل تحققت عبر الاحتلال العسكري خرقا لقرار التقسيم. الذي ولّّد الدولة اليهودية نفسها. لذلك فإن الأمم المتحدة لم تعترف بالسيادة "الإسرائيلية" على "القدس الغربية" لا تصريحاً ولا تعريضاً، وإنما عارضتها ونددت بها أيضا. وكذلك فإن المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة، لم يعترف قط إلى الآن، بصورة واضحة، بالسيادة "الإسرائيلية" على القدس بما فيها "القدس الغربية".
بانقضاء العام 1948، تمكنت "إسرائيل" من إعلان الدولة التي ترسخت أصولها على مدار عمر الانتداب البريطاني، كما تمكنت "إسرائيل" من السيطرة على الجزء الغربي من مدينة القدس، تلك المحاولة التي بدأت قبل أن تنسحب القوات البريطانية من فلسطين 14مايو 1948، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والقدس، بما حملته تلك المرحلة من تغييرات عميقة في الخارطة السياسية. ألقت بظلالها ثقيلة على الصراع في المنطقة، على مدار النصف الثاني من القرن العشرين.
كما شهدت المرحلة الأولى لسقوط مدينة القدس 1948، البدايات الأولى لجملة من القضايا المتعلقة بالقدس ـ والتي مازالت معلقة ـ يأتي في مقدمتها، تهجير السكان الفلسطينيين من القدس، والسيطرة على أراضيهم وقراهم، ونقل ملكيتها إلى مؤسسات الاستيطان اليهودي. وهو ما ستعالجه الفصول القادمة من البحث.