القدس فى العصر العثماني
تعتبر فترة السلطان سليمان القانوني نجل السلطان سليم الأول، الفترة الذهبية بالنسبة لأسوار القدس، حيث أمر هذا السلطان بإعادة بناء أسوار المدينة من جديد. وكانت تلك خطة طموحة استلزمت مهارة عالية ونفقات باهظة. ولم يقم العثمانيون ببناء استحكامات معقدة كتلك سوى في أماكن قليلة أخرى. وبلغ طول السور الذي ما زال موجودا إلى الآن ميلين بارتفاع قرابة أربعين قدما. وأحاط المدينة إحاطة تامة وكان به أربعة وثلاثون برجا وسبع بوابات. وحينما انتهى بناء السور عام (1541م) أصبحت القدس محصنة لأول مرة منذ أكثر من ثلاثمائة عام.
وأنفق سليمان القانوني أيضا مبالغ كبيرة في نظام المياه بالمدينة فبنيت ست نافورات جميلة وشقت القنوات والبحيرات، وتم تجديد بحيرة السلطان جنوب غربي المدينة وأصلحت قنواتها. وشهدت المدينة أزدهارا جديدا حيث تم تطوير الأسواق وتوسيعها.
وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر تم تحويل القدس إداريا إلى متصرفية وضمت إليها "نابلس" و"غزة"، لزيادة عدد سكانها ولأهميتها الدينية. وكانت سلطة قاضي القدس ذات مدى متسع يشمل المناطق من غزة إلى حيفا
لم يهمل السلطان سليمان الحرم فرممه بالفسيفساء خاصة الجزء الأعلى من الحائط الخارجي لقبة الصخرة وغلف الجزء الأسفل بالرخام. وتمت تغطية قبة السلسلة بزخارف جميلة. كما بنى سليمان القانوني نافورة بديعة للوضوء في الفناء الأمامي للمسجد الأقصى وكما أيد بناء أوقاف الحرم وبعض المدارس. وتنازل السلطان عن حقه في رسوم دخول الحجاج لصالح تمويل قراءة القرآن في قبة الصخرة لمدة عام واحد. وأصبحت الأوقاف التي تم إصلاحها مصدر عمل ودخل للأعمال الخيرية. وأنشأت زوجة السلطان القانوني تكية في القدس عام (1551م)، ومجمعا كبيرا يشمل مسجدا ورباطا ومدرسة وخانا ومطبخا يخدم طلبة العلم والمتصوفين والفقراء ويقدم لهم وجبات طعام مجانية. وقد شملت أوقاف التكية عدة قرى حتى وصلت منطقة رام الله
فقد تم إعادة ترميم قبة الصخرة في عهد السلطان محمد الثالث والسلطان أحمد الأول والسلطان مصطفى الأول. وأصدر السلاطين فرمانات عديدة خاصة بالأماكن المقدسة. وكان الباشاوات ملزمين بحفظ النظام في منطقة الحرم والتأكد من سلامة الأماكن الدينية ونظافتها. وكانت الوقف تستغل في عائدات أعمال الصيانة وكانت الحكومة أيضا على استعداد لاقتسام النفقات إذا استدعى الأمر. وظلت المدينة في القرن السابع عشر تستحوذ على الإعجاب. وساد الأمن والسلام في كل أرجاء بلاد القدس الشريف. وقد زار الرحالة التركي "أوليا جلبي" القدس عام (1648م) ووجد -كما قال- أن هناك ثمانمائة إمام وواعظ يعملون في الحرم والمدارس المجاورة ويتقاضون مرتبات، وكان هناك أيضا خمسون مؤذنا وعدد كبير من مرتلي القرآن الكريم، كما وجد أن الزائرين المسلمين ما زالوا يسيرون مواكبهم حول الحرم ويؤدون الصلاة في المواقع المختلفة. وقال إن أروقة الحرم امتلأت بالدراويش من الهند وفارس وآسيا الصغرى، حيث كانوا يرتلون القرآن طوال الليل ويعقدون حلقات الذكر ويتغنون بأسماء الله الحسنى على ضوء مصابيح الزيت الوامضة المتواجدة على طول الممرات ذات الأعمدة. وبعد صلاة الفجر كانت تعقد حلقات الذكر مرة أخرى في مسجد المغاربة في الركن الجنوبي الغربي من الحرم. وكان هناك خمسمائة جندي تحت إمرة باشا القدس وكانت أهم مهامهم الرئيسية مرافقة قافلة الحج الذاهبة من دمشق إلى مكة المكرمة كل عام.
وقد نصّبت الدولة العثمانية على القدس حكاما من أهلها مما زاد في الاهتمام بتعميرها وترميم ما تلف من مساجدها وخاصة المسجد الأقصى وقد تم تعيين أربعة مفتين.
وخافظت القدس في العهد العثماني على مكانتها المرموقة وظلت مركز جذب للمتصوفين والعلماء. والجدير بالذكر أنه كان عدد العلماء في المدينة في القرن الثامن عشر أكبر من عددهم في القرن السابع عشر كما اقتنى بعض العلماء مكتبات خاصة مهمة
القدس ظلت عَرَبِيَّة حتى إبان العهد العثماني الذي استمر منذ سنة 923هـ - 1517م إلى انهيار الدولة العثمانية نهائياً في بدايات القرن العشرين. فقد كانت خاضعة للحكم المملوكي. ولما أنهى السلطان سليم الأول حكم المماليك في مصر سنة 923هـ - 1517م دخلت القدس بدورها تحت إدارة العثمانيين. وما أن استقرت الأمور للسلطان سليم في كل من سوريا ومصر ومعهما الحرمين الشريفين والقدس الشريف حتى أصدر فرماناته وأوامره بألا تُبْنَى كنائس أو معابد جديدة في المدن والقَصَبات والقرى التابعة لهذه المناطق، بل يُحَافظ على القائم منها فعلاً، وتُمْنَح الرعاية والصيانة اللازمة لتأمين قيامها بالمهام المنوطة بها. وكان يُسمح بهدم القديم القائم منها وإعادة البناء في نفس المكان وبنفس الطراز المعماري المستخدم. وقد تمثل في ذلك بما فَعلَه سيدنا عمر الفاروق بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة الهجرية حيث اعترف بكل الحقوق المَرْعِيَّة لكل الرعايا غير المسلمين بتعهد مكتوب. وما كان من السلطان العثماني إلاَّ أن فعل نفس الشيء حيث أصدر فرماناً عقب ضم القدس يَحْفَظ لكل الرعايا من المسيحيين واليهود حقوقهم الدينية، وأَمَّن لهم بكل مذاهبهم وطوائفهم حق ممارسة الشعائر بدون أية عوائق. وقد حدد في هذا الفرمان الذي سَطَّره قاضي القدس بخطه كل حقوقهم وطُرُق حماية هذه الحقوق ومنع أي تجاوز عليها. وهذا الفرمان موجود في "خزينة أوراق" البطريركية الأرمنية في القدس الشريف. وقد قام سركيز قاراقو الأرمني بنسخه عن الأصل الموجود في مكتبة البطريركية الأرمنية في القدس. وفيما يلي نص الترجمة عن النص التركي حيث تعذر الحصول على نصِّه العربي:
فرمان القدس الشريف
"فليعمل بموجب النيشان الهمايوني… إن النيشان الشريف، عالي الشأن للسلطان السامي، حامل الطغراء الخاص بخاقان العالم، وبالعون الرباني والمن السبحاني، فالحكم بما يلي:
بعون الله تعالى ورسوله قد جئنا إلى القدس الشريف، وفُتح بابها في يوم 25 من شهر صفر الخير، وقد قَدِم الراهب المسمى سركيز الذي هو بطريرك الطائفة الأرمنية وفي مَعِيَّتِه سائر الرهبان والرعايا والبرايا. وقد سألنا العطايا وتمنى الإنعامات، وأن تظل تحت تصرفهم ورعايتهم كما هو سابق وسائد لبطارقة طائفة الأرمن الذين تولوا الضبط والإشراف من القديم لما هو تحت عُهْدَتهم من الكنائس والأَدْيِرَة وأماكن الزيارة وكذا الكنائس الأخرى الواقعة في الداخل والضواحي وكذا المعابد ومنذ العهد العمري رضي الله عنه. وكذا معاهدة حضرة السلطان المرحوم الملك صلاح الدين والأوامر الشريفة المعطاة تجعل الضبط والتصرف على كنيسة القيامة، ومغارة بيت لحم، وبابها الواقع في الجهة الشمالية، والكنائس الكبرى، وماريعقوب ودير الزيتون، وحبس المسيح ونابلس بما فيهما من كنائس تخص سائر الأمم كالحبش والقبط والسريان للبطريرك الأرمني القائم والقاطن في كنائس ماريعقوب.
وينص النيشان الهمايوني على عدم تدخل أي فرد من الملل الأخرى، وقد مَنَحْتُ هذا النيشان الهمايوني مقرونا بالسعادة وأَمرت بما هو آت يعمل بموجبه: أن تكون السيطرة والتصرف في الكنائس الكبرى المذكورة، والكنائس الواقعة في ضواحي وداخل البطريركية الأرمنية الكائنة في ماريعقوب، وكذا المعابد وسائر أماكن الزيارة والأديرة التي تتبع طوائف أخرى كالحبش والقبط والسريان. فلهم ممارسة مراسمهم الدينية فيها، وضبطها ورعايتها بأنفسهم. ولا يحق لأي مَنْ كان أن يتدخل في تنصيب أو تعيين أو عزل من يقومون بالشؤون الدينية والإشراف على الرهبان والقساوسة، والميتروبوليد، والبيسكوبوس وسائر الأمور الدينية متروكة لهم ممثلة في البطريركية الأرمنية وما يتبعها من كنائس ومعابد وأديرة وسائر أماكن الزيارة عندهم، ولا يحق لأي فرد من غيرهم التدخل في أمورهم.
ويحق لسائر الأمم أن يدخلوا إلى كنيسة القيامة والتربة الواقعة وسطها، وإلى مقبرة السيدة العذراء الأم مريم الواقعة في ضواحي القدس الشريف، وإلى المغارة التي ولد فيها السيد المسيح عليه السلام في بيت لحم، وحفظ مفتاح بابها الشمالي، والشمعدانان الموجودان في داخل كنيسة القيامة والقناديل، وكذا القناديل الموجودة في داخل المقبرة وعلى بابها، والشموع التي توقد، والبخور. والحفاظ على المراسم والعبادات التي تتم داخل كنيسة القيامة وفقاً للعنعنات والمعتقدات حتى ظهور نار الشمع المقدَّس.
فيحق لجميع الأمم الدخول والدوران حولها، وزيارة الباب، ورؤية الذهب والأحجار الغالية على نافذتيها، ورؤية وزيارة المعبد الكائن بالداخل، وزيارة كل آبار الماء ومزارات ماريوحنا الكائنة في فناء كنيسة القيامة، وزيارة حبس المسيح الواقع بالقرب من مار يعقوب في الضواحي، وزيارة غرف يعقوب في الضواحي، وزيارة الغرف والمضيفات الواقعة بالقرب من مغارة بيت لحم وأضرحتها.
كما يحق للبطريركية المذكورة لطائفة الأرمن الإشراف ورعاية كافة الحدائق والبساتين ومزارع الزيتون، وبالجملة جميع الكنائس والمعابد والأديرة والمزارات التابعة لهم، وكل الأملاك والأوقاف الخاصة بهم، وكل توابعهم وما يتبعهم. ولا يتم التعرض لأي شخص من الطائفة الأرمنية قادماً لزيارة الكنيسة أو بئر المياه المسمى زمزم، ولا يتعرض أي أحد لمزارعهم أو معابدهم أو مزاراتهم ولا يمنعهم عن ذلك أي أحد.
ويعمل وفقاً لهذا النيشان السلطاني من بعد اليوم على الوجهة المشروحة، ولا يُسمح لأي شخص من ملة أخرى التدخل في شأنهم. وعلى أولادي الأماجد أو وزرائي الأعاظم ومشايخي الكرام والقضاة والقادة وأمراء الإمارات وقادة السناجق وأمير الأمراء وضباط الانضباط والأمن ورجال بيت المال والقسَّام ومديري البلدية والزعماء وأرباب التيمار والمتصرفين وسائر حرس بابي وغيرهم، والخلاصة على الجميع كائناً من كان ألا يتعرض لأي فرد منهم كائناً من كان ومهما كانت الأسباب، ولا يتم التبديل أو التغيير في أي مما ذكر. وإذا ما قام أحد ما بالتدخل أو التعرض أو التبديل أو التغيير فإنه يُعَد عند الله من زمرة المجرمين والعصاة.
وليعلموا أن أوامري ونيشاني الحامل لطغرائي أنا فاتح العالم ستكون مصدَّقة، وليعمل بفحوى ما جاء بها، وليكن هذا علامة شريفة معتمدة. كتب في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة