تحرير الساحل الشامي

رأى صلاح الدين ألا يتوجه مباشرة لفتح القدس بعد انتصار حطين، وإنما رأى أنه من الأسلم أن يسير لفتح مدن الساحل ومن ثم الهجوم على القدس، فرحل طالبًا عكا وكان نزوله عليها يوم الأربعاء، وقاتل الصليبيين بها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة 583هـ، فأخذها وأنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، وكانوا أكثر من 4 آلاف شخص، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع كونها كانت المرفأ التجاري الرئيسي للصليبيين ونافذتهم على وطنهم الأم في أوروبا. ثم تفرقت الجنود الأيوبية في الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، ففتحوا نابلس وحيفا والناصرة وقيسارية وصفورية بعد أن خلا معظمها من الرجال إما لمصرعهم على أرض المعركة أو لوقوعهم في الأسر أو لهربهم من أمام الجيش الأيوبي بعد أن قل عددهم. ولمّا استقرت قواعد عكا، قسّم صلاح الدين أموالها بين أهلها، وأبقى بعض القادة الصليبيين في الأسر وأطلق سراح بعض الجنود، ثم سار يطلب قلعة تبنين، فوصلها يوم الأحد في 11 جمادى الأولى من نفس السنة، فنصب عليها المناجيق وضيّق عليها الحصار، وقاومت حاميتها مقاومة عنيفة قبل أن تستسلم ويدخلها الجيش الأيوبي، ثم ارتحل بعد ذلك قاصدًا صيدا وتسلمها في اليوم التالي لوصوله.

وفي أثناء توجه صلاح الدين لفتح بيروت في سنة 1187م، لقيه الأمير جمال الدين حجي التنوخي في بلدة خلدة وسار معه لحصار المدينة، فضرب الإثنان عليها الحصار ودخلوها بعد 7 أيام، وكافأ صلاح الدين الأمير التنوخي على ولائه له وثبته على إقطاعات آبائه وأجداده وزاد عليها حتى شملت منطقة الغرب كلها، الممتدة من جنوبي بيروت حتى أعالي جبل لبنان، وكذلك فعل مع الأمراء الشهابيين في سهل البقاع، فقد كان هؤلاء يقاتلون الصليبيين طيلة فترة من الزمن انتهت باستيلائهم على حاصبيا وما حولها، فسُرّ صلاح الدين بذلك وولّى الأمير منقذ الشهابي على البلاد التي فتحها. وفي أثناء حصار صلاح الدين لبيروت، كانت فرقة عسكرية أيوبية قد استرجعت جبيل من أيدي الصليبيين، ولمّا فرغ من هذا الجانب رأى أن قصده عسقلان أولى لأن حصارها وفتحها أيسر من حصار صور، فأتى عسقلان وتسلّم في طريقه إليها مواقع كثيرة كالرملة والدراوم، وأقام في عسقلان المناجيق وقاتلها قتالاً شديدًا حتى استسلمت حاميتها، وأقام عليها إلى أن تسلّم أصحابه غزة وبيت جبرين والنطرون بغير قتال، وهكذا كان صلاح الدين قد استرجع أغلب ساحل الشام، ولم يصمد في وجهه غير مدينتيّ طرابلس وصور وقسمًا من إمارة أنطاكية.

فتح القدس

.

ظل صلاح الدين في عسقلان حتى نظم إدارتها وسلمها إلى أحد مماليكه واسمه علم الدين قيصر، وأعطاه ولاية عسقلان والقطاع الذي حولها ورحل منها وتوجه إلى القدس لفتحها، ووصلها يوم الخميس في 11 رجب سنة 583هـ، الموافق فيه 20 سبتمبر سنة 1187م، من جهة عين سلوان حتى يكون الماء قريب من جيشه وأمر جنده بمحاصرة المدينة في هيئة دائرية، وصلى المسلمين على الجبل الذي حولها يوم الجمعة، وزحفوا للقتال بعد الصلاة، ولم يكن في المدينة المقدسة قوة كبيرة لحمايتها من الهجوم الأيوبي، حيث لم يزيد عدد الجنود عن 1400 جندي، أما الباقون فكانوا من الفقراء والأهالي الذين لا خبرة لديهم في القتال وكان باليان بن بارزان فارس من فرسان الفرنجة الكبار يسكن مدينة القدس ويتولى شؤونها منذ أن غادرها الملك غي، وكان باليان هذا هو صاحب مدينة الرملة،وقاد القتال في ذلك اليوم وإنضم إليه الكهنة والشمامسة، وكان ماهرًا في إدارة القتال وتوجيه المقاتلين أمام قوات صلاح الدين، وكان خوفه الأكبر أن يقتل المسلمين كل مسيحيي القدس عند دخولهم كما فعل الصليبيون عندما فتحوا المدينة قبل ما يزيد عن قرن من الزمن، فحث السكان أن يدافعوا عن حياتهم ومقدساتهم حتى الرمق الأخير، وعندما أرسل له صلاح الدين أن يسلم المدينة ويطلب الأمان لم يفعل، وأصر على القتال واستمر في الحرب لمدة 14 يومًا.

ولما رأى صلاح الدين أن الحرب ستكون شديدة ولم يقدر على احتلال مدينة القدس، أحضر يوسف البطيط، وهو رجل مسيحي أرثوذكسي مقدسي، انتقل إلى مدينة دمشق وسكن فيها وكان له معرفة بأمراء مسلمين وفرنجة، وكان ممن يعرفهم صلاح الدين، وكان يعرف كذلك أبوه وعمه أسد الدين شيركوه وهم بدمشق في خدمة نور الدين زنكي قبل أن يحكموا مصر، ولما ملك صلاح الدين مصر وحكمها، جاء إليهم ليعمل معهم فاستخدمه الملك العادل أبو بكر أخو صلاح الدين وأعطاه عطايا، وسكنًا في قصر الخليفة في قاعة باب الذهب في القصر الشرقي بالقاهرة، واستخدمه صلاح الدين لمراسلة الفرنجة، وكان يعرف أحوال البلاد وأهلها كما كان يعرف كبار فرسان تلك البلاد، فطلب منه أن يتفق مع المسيحيين الأرثوذكس من عرب وروم يوعدهم بالخير والعفو عنهم إذا لم يساعدوا الفرنجة في القتال وأن يسلموا المدينة لصلاح الدين من الجهة التي يسكنون بها في القدس فيُهلكوا الفرنجة، الذين رفض صلاح الدين أن يعفي عنهم بحال فتح المدينة، حتى هدد باليان بقتل الرهائن المسلمين، والذين يُقدّر عددهم بأربعة الآف مسلم، وتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة، أي قبة الصخرة والمسجد القبلي، الذان يُشكلان المسجد الأقصى، إذا لم يعف صلاح الدين عنهم.

استشار صلاح الدين الأيوبي مجلسه وقبل هذه الشروط، على أن يتم دفع فدية على كل من فيها مقدارها عشرة دنانير من كل رجل وخمسه دنانير من كل امرأة ودينارين عن كل صبي وكل صبية لم يبلغ سن الرشد، فمن أدى ما عليه في المهلة التي قدرها أربعين يومًا، صار حرًا. ثم سمح صلاح الدين بعد أن إنقضت المهلة لمن لم يستطع الدفع منهم بالمغادرة دون فدية،ولكن تم بيع معظم المقاتلة منهم عبيدًا. دخل صلاح الدين المدينة في ليلة المعراج يوم 27 رجب سنة 583هـ، الموافق فيه 2 أكتوبر سنة 1187م، وسمح لليهود بالعودة للمدينة وهو ما دفع سكان عسقلان من اليهود لاستيطان القدس. وأغلق صلاح الدين كنيسة القيامة بوجه الفرنجة بعد فتح المدينة، وأمر بترميم المحراب العمري القديم وحمل منبر مليح من حلب كان الملك نور الدين محمود بن زنكي قد أمر بصنعه ليوضع في المسجد الأقصى متى فُتح بيت المقدس، فأمر صلاح الدين بحمله من حلب ونُصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار مسيحية منها الصليب الذي رفعه الإفرنج على قبة المسجد، وغُسلت الصخرة المقدسة بعدة أحمال ماء ورد وبُخّرت وفُرشت ورُتّب في المسجد من يقوم بوظائفه وجُعلت به مدرسة للفقهاء الشافعية، ثم أعاد صلاح الدين فتح الكنيسة وقرر على من يرد إليها من الفرنج ضريبة يؤديها

وقد ابتهج المسلمون ابتهاجًا عظيمًا بعودة القدس إلى ربوع الأراضي الإسلامية والخلافة العباسية، وحضر ناس كثيرون ليسلموا على السلطان ومن هؤلاء الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي، الشاعر المشهور، فأنشد صلاح الدين قصيدة طويلة من مائة بيت يمدحه ويُهنئه بالفتح، ومما جاء في القصيدة:

   

هذا الذي كانت الآمال تَنْتَظِرُ

 

فَلْيوفِ لله أقوامٌ بما نَذَر

هذا الفتوحُ الذي جاء الزمانُ به

 

إليك من هفوات الدهر يعتذرُ

تَجُلّ علياه عن دح يُحيط به

 

وصفٌ وإن نظم المّدَاح أو نثروا

لقد فتحتَ عَصيّاً من ثُغورهمُ

 

لولاك ما هُدَّ من أركانها حَجَرُ

حصار صور وعكا

كان معظم أمراء الفرنجة وفرسانها يذهبون إلى المدن الحصينة التي ما زالت في أيديهم مثل أنطاكية وصور، وكانت الأخيرة يحكمها ملك من ملوك أوروبا هو كونراد مركيز مونفيراتو، ويقول البعض أنه رومي ابن اخت إمبراطور القسطنطينية. وكانت صور أكثر أهمية من الناحية الإستراتيجية من القدس، لذا كان من المتوقع أن يقوم صلاح الدين بفتحها أولاً، لكنه فضّل استرجاع المدينة المقدسة أولاً ليرفع من معنويات المسلمين قبل التوجه لحصار المدينة المحصنة. وقبل حصار صور توجّه صلاح الدين بجيشة إلى قلعة صفد وحاصرها سبعة شهور، ولمّا نفذ الطعام وجاعت الحامية إضطروا أن يسلموا القلعة له وطلب الأمان، وعندما غادرها جنود الفرنجة وفرسانهم ذهبوا إلى صور وكانت كل قلعة أو حصن أو مدينة تطلب الأمان ويسلمونها إلى صلاح الدين، كان الفرنجة يغادرونها إلى صور فقويت بوجود فرسان الفرنجة فيها، فصمدت في وجه صلاح الدين سنة كاملة، أضف إلى ذلك أن المركيز ظلّ يقوّي ويحمي ويدبر احتياجات المدينة طيلة أيام الحصار، حتى دبّ اليأس إلى فؤاد السلطان، ففك الحصار عنها مؤجلاً تحقيق الفتح إلى فرصة قادمة. وفي سنة 1188م أطلق صلاح الدين سراح الملك غي آل لوزينيان وأعاده إلى زوجته سيبيلا، فذهبا ليعيشا في طرابلس، ثم توجها إلى أنطاكية، قبل أن يُقررا الذهاب إلى صور، لكن كونراد رفض السماح لهما بالدخول إلى المدينة كونه لم يعترف بشرعيّة ملكيّة غي.

وبعد أن انصرف صلاح الدين عن صفد واصل فتح المدن والقلاع ففتح جبلة واللاذقية وحصون صهيون وبكاس والشغر وسرمينية وبرزية ودرب ساك والكرك وكوكب، كما سعى بوهمند الثالث صاحب أنطاكية لمهادنة صلاح الدين لمدة ثمانية أشهر، فقبل صلاح الدين ذلك على أن يطلق بوهمند من عنده من أسرى المسلمين. لما ضجت صور بمن لجأ إليها من الفرنجة، قام بعض رهبانهم وقسسهم بشحن الفرنجة للثأر لفقدان بيت المقدس، فرأوا أن يهاجموا عكا، فجمعوا قواتهم وضربوا عليها حصارًا بريًا بحريًا في 15 رجب 585 هـ الموافق 28 أغسطس 1189م. استنجدت حامية المدينة بصلاح الدين فأرسل إلى عماله وحلفاؤه يطالبهم بالاسراع إلى نجدة المدينة، فوافاه عسكر الموصل وآمد وسنجار وغيرها من بلاد الجزيرة وحران والرُّها، كما وافاه أخاه الملك العادل أبي بكر بن أيوب في جند مصر والأسطول المصري بقيادة حسام الدين لؤلؤ، فدارت بين الفريقين معارك عظيمة لم يكتب فيها الغلبة لأي من الفريقين. 

 

mohamedeldeb

محمد الديب

  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 807 مشاهدة

محمد الديب

mohamedeldeb
محمد الديب طالب فى كلية العلوم اهوى القراءة فى شتى المجالات اهوى الكتابة شعرا ونثرا احاول نشر الاهتمام بالعلوم والثقافة بين الناس اؤمن بعدم جواز الفصل بين العلم و الادب فكلاهما يكمل الاخر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

215,426