الحروب ضد الصليبيين
بعد أن نجح صلاح الدين في أن يجمع مصر وسوريا وغربي شبه الجزيرة العربية والعراق في دولة إسلامية موحدة قوية تحيط بمملكة بيت المقدس والإمارات الصليبية من الشمال والشرق والجنوب، واطمأن إلى وحدتها وتماسكها، انتقل إلى تحقيق القسم الثاني من مخططه السياسي، وهو محاربة الصليبيين وطردهم من البلاد،وجاءَته الفرصة حين تعرّض أرناط آل شاتيون صاحب الكرك لقافلة غزيرة الأموال كثيرة الرجال فأخذهم عن آخرهم ونهب أموالهم ودوابهم وسلاحهم، فأرسل إليه صلاح الدين يلومه ويُقبح فعله وغدره ويتوعده إن لم يطلق الأسرى والأموال، فلما رفض أرسل صلاح الدين، الذي كان آنئذ في دمشق، إلى جميع الأطراف باستدعاء العساكر لحرب أرناط، وتوجه بنفسه إلى بصرى، ومنها إلى الأردن ونزل بثغر الأقحوان.
في 9 جمادى الآخرة سنة 579هـ، الموافق فيه 29 سبتمبر سنة 1183م، عبر صلاح الدين نهر الأردن لمهاجمة بيسان التي وجدها خاوية. وفي اليوم التالي، أضرمت قواته النار في البلدة، وساروا غربًا، ليعترضوا تعزيزات الصليبيين من حصني الكرك والشوبك على طول طريق نابلس وأسروا عددًا منهم. وفي تلك الأثناء، كانت قوة الصليبيين الرئيسية بقيادة غي آل لوزنيان، قرين ملكة القدس سيبيلا أخت بلدوين، قد تحركت من صفورية إلى العفولة. أرسل صلاح الدين الأيوبي 500 مقاتل لمناوشة قوات الصليبيين، وسار بنفسه إلى عين جالوت. وعندما تقدمت القوات الصليبية، والتي كانت أكبر قوة جمعتها المملكة من مواردها الخاصة، ولكنها كانت لا تزال أقل من قوات المسلمين، تراجع الأيوبيون بشكل غير متوقع إلى عين جالوت. رغم وجود بضع الغارات الأيوبية، بما في ذلك الهجمات على زرعين والطيبة وجبل طابور، لم يشارك الصليبيون بكامل قواتهم في معركة العفولة، التي قاد فيها صلاح الدين رجاله عبر النهر منسحبًا ببطء.
ومع ذلك، أثارت المزيد من الهجمات الصليبية غضب صلاح الدين الأيوبي. فقد استمر أرناط آل شاتيون يهاجم القوافل التجارية العائدة للمسلمين وطرق الحج بأسطول في البحر الأحمر، وهو الممر المائي الذي كان من اللازم لصلاح الدين بقائه مفتوحًا. وردًا على ذلك، بنى صلاح الدين أسطولاً من 30 سفينة لمهاجمة بيروت في عام 1182م. هدد رينالد بمهاجمة مدن المسلمين المقدسة مكة والمدينة المنورة، وهو ما رد عليه صلاح الدين بمحاصرة الكرك قلعة أرناط الحصينة مرتين، عامي 1183 و1184، فردّ رينالد بنهب قافلة حجيج عام 1185، ووفقًا لمؤرخ القرن الثالث عشر الإفرنجي وليم الصوري، فقد قبض أرناط على أخت صلاح الدين في تلك الغارة على القافلة، وهو ما لم تثبته المصادر المعاصرة، سواءً الإسلامية أو الأوروبية، وذكرت بدلاً من ذلك أن أرناط هاجم القافلة، وأن جند صلاح الدين حموا شقيقته وابنها حتى وصلوا دون أي ضرر.
بعد أن استعصى حصن الكرك المنيع على صلاح الدين أدار وجهه وجهة أخرى وعاود مهاجمة عز الدين مسعود بن مودود الزنكي في نواحي الموصل التي كان قد بدأت جهوده في ضمها سنة 1182م، إلا أن تحالف عز الدين مع حاكم أذربيجان ومملكة جبال، والذي أرسل جنوده عبر جبال زاغروس عام 1185م، جعل صلاح الدين يتردد في هجومه. وحينما علم المدافعون عن الموصل، بأن تعزيزات في طريقها إليهم، ارتفعت معنوياتهم وزادوا من جهودهم، وقد تزامن ذلك مع مرض صلاح الدين، لذا ففي شهر مارس من سنة 1186م، تم التوقيع على معاهدة سلام.
معركة حطين
كان المرض قد اشتد على ملك بيت المقدس بلدوين الرابع، في سنة 1185م وما لبث أن توفي في ذلك العام بعد أن سمّى ابن شقيقته بلدوين الخامس خلفًا له، لكن الأخير ما لبث أن توفي خلال سنة، فتولّت العرش والدته سيبيلا، التي ما لبثت أن توّجت زوجها الثاني غي آل لوزينيان ملكًا، وكان الأخير قد خُطط له أن يكون وصي العرش بعد بلدوين الرابع، لكن تحالفه مع أرناط وخرقهما للهدنة مع صلاح الدين ومهاجمتهما لقوافل المسلمين التجارية وقوافل الحجاج، الأمر الذي جعل صلاح الدين يُحاصر الكرك، جعلت بلدوين الرابع يعدل عن تسميته خلفًا له بعد مماته. وعندما تولّى غي عرش بيت المقدس ظهرت الانشقاقات بين الصليبين وتوسعت، فلم يكن عدد من الأمراء راضيًا عن توليه، ومن هؤلاء ريموند الثالث "القمص" صاحب طرابلس، الذي دفعه غيظه إلى مراسلة صلاح الدين ومصادقته واتفق معه ألا يحاربه ولا يرفع عليه سيف، فقال له: «أنني أملك طبريا أنزل عليها وأستولي عليها وأنا أتركها لك فتقوى بها على الفرنجة وتضعف قلوبهم». فذهب صلاح الدين ونزل قريبًا من طبريا فسلمها له صاحب طرابلس، وسمع ملك الفرنجة المتوج حديثًا ما حدث، فحشد العامة في البلاد مع عساكر الساحل وسار للقاء صلاح الدين، وانضم إليه صاحب طرابلس ليتستر على فعله.
في يوم السبت 25 ربيع الآخر سنة 583هـ، الموافق فيه 5 يوليو سنة 1187م، نزل الصليبيون قرون حطين، وكان صلاح الدين قد سبقهم إلى هناك وتمركز جيشه في المنطقة العليا منها حيث نبع المياه، وكانت تجهيزات الفرنجة الحربية الثقيلة هي سبب تأخرهم في الوصول، ولمّا حصل ووصلوا إلى الموقع كانوا هالكين من العطش لدرجة أنهم شربوا الخمر بدلاً من الماء فسكر منهم الكثير، وهاجموا جيش صلاح الدين فقُتل من الفريقين عدد من الجنود، وكان الصليبيون متحمسين في البداية للحصول على الماء فهزموا المسلمين في أول النهار ولكن دارت الدوائر في آخر النهار، فإنقض الأيوبيون على الجيش الصليبي ومزقوا صفوفه، واستمرت المعركة ساعات طويلة، وما أن انقشع غبارها حتى تبيّن مدى الكارثة التي لحقت بالصليبيين، فقد خسروا زهرة شباب جنودهم، وقُتل العديد من الفرسان والضبّاط المخضرمين، ووقع الملك غي آل لوزينيان وأخوه وأرناط صاحب الكرك وغيرهم من كبار الصليبيين بالأسر. أما ريموند الثالث صاحب طرابلس، فقد تظاهر بالهجوم على المسلمين، فمر بين صفوفهم وذهب ولم يرجع كأنه أنهزم، واتجه إلى مدينة صور ومكث بها.
بعد هذا النصر جلس صلاح الدين في خيمته، وأمر بإحضار الملك غي وأخوه وأرناط، فلمّا مثلوا أمامه قدّم للملك شربة من جلاّب وثلج، فشربها وكان على أشد حال من العطش، ثم ناولها لأرناط، فقال صلاح الدين للترجمان: «إنما ناولتك، ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي»،وذلك كون العادة السائدة كانت أنه لو شرب الأسير أو أكل من مال من أسره أمن، وكان صلاح الدين قد نذر أنه لو ظفر بأرناط قتله بعد أن قتل من المسلمين خلقًا كثيرًا بعد ذلك أمر صلاح الدين بإحضار بعض الطعام للملك غي، وما أن انتهى حتى أمر بإحضار أرناط، وأوقفه بين يديه ثم قال له: «نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته»،ودعاه إلى اعتناق الإسلام، فرفض وقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي محمد، فسلّ صلاح الدين سيفه ودق عنق أرناط، وأمسكه الجنود وأخرجوا جثته ورموها على باب الخيمة، ورآه الملك غي يتخبط في دمائه ويلفظ أنفاسه الأخيرة فخاف وشحب لونه معتقدًا أنه لاحق به،فاستحضره صلاح الدين وطيّب قلبه وقال له:
|
أنا أحدثك حديث الأمراء، لا تخاف يا ملك فلن تموت اليوم، بل تحيا ولو بقي في قومك بقية كنت أملكك عليهم وأساعدك بمالي ورجالي طول أيام حياتك. إن سبب ما فعلته به أن الكرك كانت طريق التجار والمسافرين فكان يعتدى على القوافل بظلم وعنف، وكان ملوك المسلمين نور الدين وغيره يطلبون الصلح معه ليخففوا ضرره على المسلمين، فكان يوافقهم مرة ولا يعتدي على التجار وألف مرة يعتدي. فلما تملّكت وحكمت البلاد أرسلت له وهاديته بمال كثير وخلع.. فحلف لرسولي أنه لن يؤذي المسلمين وسيترك التجار بلا ضرر ويمهد لهم الطريق ولن يعتدي أي واحد من أصحابه عليهم، وبعد الصلح بثلاثة أيام عبرت قافلة قاصدة دمشق فساقها بجمالها ورجالها وأموالها وذهب بها إلى الكرك فأسر رجالها وأخذ الأموال فلما عرفت بأمر نقوضه العهد كتمت الغيظ ونذرت لله أنني متى ظفرت به أذبحه واقطع رقبته، فلا تلومني يا ملك |
|
ثم استدعى خادمه وسأله أن يحضر شراب فجاء به فأخذه بيده وشرب منه وناوله للملك فشربه وأعطى له ولأصحابه خيمة وجعل عليها حراسًا لحراسته واحتفظ به، وأرسله إلى دمشق أسيرًا، يرافقه القاضي ابن أبي عصرون، حتى تنتهي الحرب وتُفتتح القدس، وأرسل معه أيضًا صليب الصلبوت، وهو الصليب الأعظم عند الصليبيين والذي قيل بأن فيه قطعة من الخشبة التي صُلب عليها المسيح، وكان يُغلّف بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية، وكان يتقدم الجيش الصليبي على الدوام، وحملوه معهم يوم حطين، وأودع في قلعة دمشق عند وصوله