[1] النبى العظيم صلى الله عليه وسلم

أى قلم يحيط وصفه ببعض نواحى تلك العظمة النبوية , وأية صحيفة تتسع لأقطار هذه العظمة التى شملت كل قطر وأحاطت بكل عصر وكتب لها الخلود أبد الدهر وأى مقال يكشف لك عن أسرارها وإن كتب بحروف من النور وكان مداده أشعة الشمس , على أنك تعجب حين ترى هذه العظمة التى فرعت الأوصاف وتعالت عن متناول الألسنة والأقلام والعقول والأفهام ماثلة فى كل قلب مستقرة فى كل نفس يستشعرها القريب والبعيد ويعرف بها العدو والصديق وتهتف بها أعواد المنابر , وتهتز لها ذوائب المنائر .
ألم تر أن الله خلد ذكره
إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليحله
فذو العرش محمود وهذا محمد

وإن العظيم ليكون عظيما بإحدى ثلاث :
بمواهب تميزه عن غيره وتعلو به عمن سواه وتجعله بين الناس صنفا ممتازا مستقلا بنفسه عاليا برأسه يجل عن المساماة ويعظم على المسابقة
أو بعمل عظيم يصدر عنه ويعرف به ويعجز الناس عن الإتيان بمثاله أو النسج على منواله ,
أو فائدة يسديها إلى الجماعة وينفع بها الناس , وبقدر ما يكون العظيم متمكنا من وصفه مفيدا فى إنتاجه بقدر ما تكون درجته من العظمة , ومنزلته من التقدير , ولهذا تفاوتت منازل العظماء , وإختلفت مراتبهم , فمنهم سابق بلغ ذؤابات العظمة ومقتصد بلغ من حدودها ما يرفعه إلى مصاف العظماء , ومقصر كان نصيبه منها أن نسب إليها ولصق بها أو لصقت به .
والناس ألف منهم بواحد
وواحد كالألف إن أمر عنى

كذلك يكون العظيم عظيما بواحدة من هذه الثلاث وبجزء من الواحدة يصل إليه , فكيف إذا جمعها جميعا ووصل فى كل منها إلى التى ليس بعدها غاية , وجاوز فى علوه الحدود التى وضعها الناس للعظمة والعظماء , وذلك ما إختص به الله تبارك وتعالى نبيه المجتبى , وحبيبه المصطفى سيدنا محمد .
رتب تسقط الأمانى حسرى
دونها ما وراءهن وراء

فأما عن المواهب التى ميزه الله بها عن غيره فحدث عن الفيض ولا حرج .
فلقد كان من شرف النسب وكرم الأصل فى صميم قريش ولبابها وذروة الشرف وسنامه لم تزل فى ضمائر الكون تختار له الأمهات والآباء فهو من خير أسرة فى أنبل قبيلة لأكرم شعب وأزكى جنس ولا غرو فهو خيار من خيار من خيار .
شرف يقرع النجوم بروقيه
وعز يقلقل الأجبالا

وهو من حيث الجمال الخلقى فى أسمى معانيه وأعلى رتبة قوى البنية تام الخلقة أجمل الناس طلعة وأوفرهم هيبة , وأوضاهم وجها , وأعذبهم إبتسامة وأحلاهم منطقا , إذا تبسم كأنما يفتر عن حب الغمام وإذا ضحك رؤى النور يخرج من بين ثناياه .
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
برقت كبرق العارض المتهلل

وإن ذلك لمعنى عرضى من معانى الكمال الذاتى الذى أودعه الله نفس نبيه محمد ولع الناس بالتمدح به والإغراق فى ذكره وهم لو إلتفتوا إلى سواه من معانى الكمال المحمدى لوجدوا فى ذلك البحر الذى لا ينضب معينه , والمصباح الذى لا يخبو نوره , وإنما ذكرناه فى معرض حديثنا عن العظم المحمدية لأنه كمال إنفرد به المصطفى ولم يشاركه فيه أحد سواه .
وهو من حيث الكمال الخلقى بالذروة التى لا تنال والسمو الذى لا يسامى , أوفر الناس عقلا , وأسدهم رأيا , وأصحهم فكرة , وحسبك أنه ساس هذه القبائل الجافية والنفوس القوية العاتية ولم يستخدم فى ذلك الإغراء بالمال ولا الإرهاب بالقوة فلقد كان فى قل من الثروة وضعف من العدد والعدة ولكنه العزم الماضى والرأى الثاقب والتأييد الإلهى , والكمال المحمدى .
أسخى القوم يدا , وأنداهم راحة , وأجودهم نفسا , أجود بالخير من الريح المرسلة , يعطى عطاء من لا يخشى الفقر , يبيت على الطوى وقد وهب المئين وجاد بالآلاف لا يحبس شيئا وينادى صاحبه أنفق بلالا ولا تخشى من ذى العرش إقلالا .
أرحب الناس صدرا وأوسعهم حلما , يحلم على من جهل عليه , ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذا بالعفو وأمرا بالمعروف , تواتيه المقدرة ويمسك بغرة النصر فلا يلقى منه خصمه إلا نبلا وكرما وسماحة وشمما , ينادى أسراه فى كرم وإباء , إذهبوا فأنتم الطلقاء .
أعظم الناس تواضعا , يخالط الفقير والمسكين , ويجالس الشيخ والأرملة , وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضى حاجتها , ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة ولا برسم من رسوم الظهور , ويقول لهم فى ذلك ما معناه إن الله يكوه أن يمتاز الشخص عن أصحابه .
ألين الناس عريكة , وأسهلهم طبعا , ما خير بين أمرين إلا إختار أيسرهما ما لم يكن إثما , وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب , وأشدهم مع الحق لا يغضب لنفسه فإذا أنتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء وكأنما يفقأ فى وجهه حب الرمان من شدة الغضب .
أشجع الناس قلبا وأقواهم إرادة , يتلقى الناس بثبات وصبر , تمر به الأبطال كلمى هزيمة , وهو ضاحك السن باسم الثغر وضاح الجبين ينادى بأعلى صوته :
أنا النبى لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب .
ويداعب إصبعه وقد مسها ألم الجراح فى سبيل الحق :
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت ...
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التى يجعل أصحابه إذا إشتد البأس يتقون برسول الله  ومن قوة الإرادة بالمنزلة التى لا ينثنى معها عن واجب ولا يلين فى حق , ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة , ويضرب المثل العملى فى ذلك لأصحابه فيقول لهم : " ما كان لنبى إذا لبس لامة حربه أن يرجع " .
أعف الناس لسانا , وأوضحهم بيانا , يسوق الألفاظ مفصلة كالدر مشرقة كالنور , طاهر كالفضيلة فى أمى مراتب العفة وصدق اللهجة يقل لأصحابه ما معناه : " لم أبعث فاحشا ولا متفحشا ولا لعانا ولا صخابا ولا بالأسواق إنما بعثت هاديا ورحمة " .
أعدلهم فى الحكومة وأعظمهم إنصافا فى الخصومة , يقيد من نفسه ويقتص لخصمه , يقم الحدود على أقرب الناس إليه , ويقسم بالذى نفسه بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها .
أسمى الخليقة روحا , وأعلاها نفسا , وأزكاها وأعرفها لله وأشدها صلابة وقياما بحقه وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة مع تناسق غريب فى أداء الواجبات وإستيعاب عجيب لقضاء الحقوق , يؤتى كل ذى حق حقه فلربه حقه ولصاحبه حقه ولزوجه حقها ولدعوته حقها ولكل واجب من واجبات الإنسانية ما يتطلبه من أداء وإتقان .
أزهد الناس فى المادة وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا , يطعم ما يقدم إليه ولا يعيب طعاما قط , وإذا لم يجد ما يأكل قال إنى صائم , وينام على الحصير والأدم المحشو بالليف ويقول فى المنعمين المترفين : " إن لهم الدنيا ولنا الآخرة " , قضى زهرة شبابه مع إمرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة قد تزوجت من قبله وقضت زهرة شبابها مع غيره ولم يتزوج معها أحدا وما تزوج بعدها لمتعة , وما كان فى أزواجه الطاهرات بكرا غير عائشة التى أعرس بها وسنها تسع سنين يسرب إليها الولائد يلعبن بالدمى وعرائس القطن والنسيج .
أرفق الناس بالضعفاء , وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين , شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان يغذيهم بحنانه ويعطف على الكل بجنانه ويقول : " فى كل ذات كبد رطبة أجرا " , ويعد الرفق بالحيوان قربة إلى الله , يشكر عليها عبده ويكافىء فيها خلقه , ويعتبر القسوة جريمة حتى على الحيوان الأعجم ويحذر أصحابه فيقول : " إن إمرأة دخلت النار فى هرة حبستها فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض " .
وهو مع رجاحة عقله ونضوج فكره وقوة إرادته أرق الناس عاطفة وأرقها شعورا وأرقهم إحساسا , يجد لزوجه من الحنان والوفاء ما يجعله يقول : " حبب إلىّ من ناديكم ثلاث : النساء والطيب وجعلت قرة عينى فى الصلاة " , ويجد لإبنه من الشفقة والحب ما يجعله يقول عند فقده ما معناه : " إن القلب ليحزن وإن العين لتمع ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنّا بعدك يا إبراهيم لمحزونون " .
ويجد من الحنين لوطنه والميل لبلده التى نشأ فيها ونما بها ما يجعله تغرورق عيناه بالدمع ويقول لأصيل الغفارى وقد أخذ يصف مكة بعد الهجرة : " لا تشوقنا يا أصيل ودع القلوب تقر " .
ذلك قبس من نور النبوة وشعاع من مشكاة الخلق المحمدى الطاهر وإن فى القول وفى المقام تفصيلا .
وقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
وإنك لتلقى العظيم ليعظم فى قومه ويسود فى عشيرته بخصلة واحدة من هذه الخصال فكيف بمن حيزت له بحذافيرها , وبلغت فى كل منها نهايتها .
وإنك لتجد لكل عظيم هفوة ولكل سيد كبوة ولكل نابه نقيصة أخذت عليه وعرفت عنه كأنه الكلف يشين وجه البدر , أو الغمام يحجب نور الشمس , سل التاريخ ينبئك على أنك لست بواجد شيئا من هذا أمام عظمة النبى , فقد عصم من النقائص وعلى عن الهفوات وحل مقامه عن أن تلصق به نبوة .
خلقت مبرأ من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء

ذلك من حيث المواهب التى إختص بها الله نبيه العظيم وحبا بها رسوله الكريم , وأما من حيث عظمة العمل الذى قام به سيدنا محمد فبربك قل لى أى عمل أعظم من الرسالة العظمى والنبوة الكبرى والدعوة العامة والإصلاح الشامل لكل الأمم بل للجن والإنس فى كل ناحية من نواحى الحياة الدنيا وفى الآخرة , وأى أثر اخلد من القرءان الكريم والتشريع القويم الذى تركه النبى للإنسانية من بعده , نهتدى بهديه ونسير على ضوئه ونصلح بتعاليمه ونلجأ إليه ييأس الناس مما فى أيديهم ويفلسون من نظمهم وقواعدهم .. ﴿ سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق , أو لم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد ﴾ .
لو لم يكن للنبى من الفضل إلا أنه الواسطة فى حمل هدية السماء إلى الأرض وإتصال هذا القرءان الكريم إلى العالم لكان فضلا لا يستقل العالم بشكره ولا تقوم الإنسانية بكفاله ولا يوفى الناس حامله بعض جزائه .
وناهيك بكتاب ضمن للناس إن إتبعوه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة وعلاج المشكلات ودواء المعضلات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
وأنت إذا أنعمت النظر فى كتاب الله تبارك وتعالى رأيته القانون الشامل والتشريع الكامل الذى ضمن للفرد حقوقه وحريته وحدد له واجباته العامة والخاصة لله ولنفسه ولأسرته ولوطنه وللعالم كله وضمن للأسرة سعادتها وهناءتها ببنائها على أفضل الأسس وأدق القواعد النفسية الإجتماعية ووصف أحسن العلاج لما يطرأ على الأسر من عوامل الإنحلال والفناء مع بيان أفضل الوسائل فى توثيق الروابط بين أفراد الأسرة الواحدة على أساس تقدير الجميل والتعاون على الخير ووضع للأمة بعد ذلك أحكم النظم التى تبين صلة الحاكم بالمحكوم وتجعل الأمر شورى والناس سواسية إلا يتفاضلون بأعمالهم ولا يتفاوتون إلا بحقهم ثم تفى على ذلك ببيان الصلة بين الأمم بعضها ببعض ووجوب تغاون بنى الإنسان على خير البشرية العام والرقى بمستواها إلى نهاية ما قدر لها من الكمال الممكن .
كل ذلك عرض له القرءان الكريم فى لفظ بليغ وإيجاز محكم وجاءت السنة المطهرة ففصلت مجمله وحددت مطلقه وإستقصت جزئياته فكان تشريع الإسلام وهو ثمرة البادية وليد الصحراء وابن الفيافى القاحلة أدق تشريع وأكمله وأوقاه وأصلحه مع سموه عن النقد وتجافيه عن الخطأ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين .
فأى عمل أعظم من هذا وأى أثر اخلد منه وإن العالم كله إذا أجمع على عظمة أفلاطون لفلسفته وجمهوريته وعلى فضل أرسطو وتبريزه فى احلاقه وقوانينه وعلى تقدير نابليون لعزيمته وتشريعه مع تعرض كل هؤلاء للهفوات والنقد المر ومع أن معظم نظراتهم حبالى لا تثبت أمام التنفيذ ولا تتفق مع الواقعيات ومع أنهم جميعا كان لهم من دراساتهم وتقلبهم فى معاهد العلم ومدارس الثقافة ما يجعل ذلك ليس غريبا منهم ولا بعيدا عليهم .
إذا كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله ولا محيص لهم عن ذلك أن يجعل عظمة محمد فى الخلق جميعا فوق كل عظمة وفضله فوق كل فضل وتقديره أكبر من كل تقدير وقداسته أسمى من كل قداسة , ولو لم يكن له من مزيدات نبوته وأدلة رسالته إلا سيرته المطهرة وتشريعه الخالد لكانا كافيين لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد .
كفاك بالعلم فى الأمى معجزة
فى الجاهلية والتأديب فى اليتم

وأما من حيث ما أسداه إلى الإنسانية من فوائد وحبا به العالم من المنافع فحسبك أن تعلم أنه  المنقذ للبشرية مما إرتطمت به من أهوال وصروف فى عصره الذى بعث فيه وأن العالم كله لن يجد العلاج لمشاكله والحل لكل معضلاته إلا بما وضع الإسلام من دواء ووصف من علاج ولو أن الناس كشفوا عن أهينهم غشاوة التعصب وطهروا قلوبهم من أدران الوهم لعلموا أن كل مشكلات اليوم بل كل مشكلات العالم حلها الإسلام بأيسر الحلول ووصف لها أنفع الأدوية وليس بين العالم وبين الراحة والهناءة إلا أن يعمه تشريع الإسلام القويم وسيخلص الناس من تجاربهم إن بعيدا وإن قريبا إلى هذه النتيجة ولتعلمن نبأه بعد حين .
" وأما بعد " ..فإن كانت العظمة بالتبريز فى أساليب السياسة فإن نبينا ذلك السياسى الذى لم يخطئه التوفيق فى مواقف من مواقفه مع الصدق والمناصحة والبعد عن المخادعة والنفاق .
ولئن كانت المهارة فى قيادة الجيوش وإحراز أعظم النصر بأقل التضحيات فهذا شانه  فى كل غزوة من غزواته أو سرية من سرايا جيشه المظفر .
ولئن كانت بقوة التأثير فإن تأثير النبى فى أصحابه لم ير التاريخ مثله فى وقت من اوقاته أو صفحة من صفحاته وما رأت الدنيا جماعة من الجماعات سارت على هدى نبيها أو غتبعت سنة قائدها كتلك الجماعة المؤمنة المخلصة من أصحاب النبى .
وإنك لتقرا كتاب العظمة فترى عظمة محمد أوضح سطوره وأروع معانيه فليعتز المسلمون بذلك وليكن لهم فى نبيهم العظيم أسوة حسنة .

 

[2] الحبيــــــب


كما تفرد بذلك الجمال الخلقى والكمال الخلقى , واختص بفرائد المزايا , ومحامد الفضائل , تفرد فى الخلق جميعا بالمحبة الشاملة والخلة الكاملة , فهو حبيب إلى كل نفس تخلل حبه مسالك الروح من أصحابه وأتباعه , فملك عليهم نفوسهم , وإحتل من أنفسهم مكانا لم يكن حل من قبل , وشاع فى أرواحهم وأفئدتهم فليس له قبل وليس له بعد .
وإن حبه لفريضة يفرضها الدين , وعقيدة واجبة على المؤمنين , ولو لم يكن كذلك لرأيته صفة لازمة لهم وخاصة واضحة من خصائصهم .
يقول أبا سفيان بن حرب فى بعض أحاديثه : " والله لقد زرت الملوك ودخلت على كسرى وقيصر فما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا , إذا تكلم سكتوا وكأن على رؤوسهم الطير , وإذا تحدثوا فى حضرته همسوا حتى لا يكاد يسمع بعضهم بعضا , وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه , وما تنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه " . ولا تستغرب هذا أيها الأخ القارىء , فإن الحب عاطفة إذا تملكت النفس ملكت عليها كل شىء من مشاعرها وحواسها وصورت لها السعادة فى كل ما يتصل بحبيبها
ولقد جاء ثوبان إلى النبى باكيا مستعبرا , فقال له : ما يبكيك يا ثوبان ؟ فقال : يا رسول الله ذكرت حين يدخل أهل الجنة الجنة فتكون أنت بمنزلة لا ينالها أمثالى فأحرم رؤيتك وهى كل سعادتى فكيف لى بالصبر عنك ؟ , فسكت النبى , فنزلت الآية الكريمة : ﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ﴾ , فكانت خير بشرى ظفر بها ثوبان وظفر بها المؤمنون معه .
أرأيت تلك الأرملة التى خرجت تستشرف الجيش بعد عودته من إحدى الغزوات فأخبرت بإستشهاد أبيها وأخيها وزجها وإبنها فقالت : ما فعل رسول الله ؟ قالوا لها : خيرا !! قلت : أرونيه حتى أنظر إليه , فملا رأته قالت : الحمد لله فيك عوض من كل فائت .
وأرأيت كيف أن بلالا لم ينس حبه للنبى فى أشد حالة يكون فيها المرء تلك هى ساعة سكرات الموت , إذ سمع إمرأته تقول : واحرباه , فقال : واطرباه , غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه .
وبعد ..فهل أتاك نبأ خبيب بن عدى وقد رأى الموت بعينيه وخرج به آسروه ليقتلوه ثم بدا لهم أن يداعبوه فقالوا له : يا خبيب , أيسرك أن تكون فى أهلك وبنيك ومحمد مكانك نقتله بك , فإبتسم إبتسامة الهازىء بهم الساخر بقولهم ثم فاجأهم بقوله :
- " ما أجهلكم والله ما يسرنى أنى أكون فى أهلى وأبنائى ومحمد فى مكانه تصيبه شوكة وإنى لأفضل الموت عن ذلك " .
تصور هذا وإذكر معه ما يذكره إنجيل متى الذى يتداوله المسيحيون ويعتقدون صحته من أن بطرس الأكبر - وهو شيخ الحواريين عندهم - تبرأ من مسيحه وأنكره ثلاث مرات قبل أن يصيح ديك وأقسم لهم ثلاثة أيمان أنه ما عرفه ولا رآه ولا كان معه !
أو ترى بعد ذلك أن هذا الحب من عمل محمد أم أنه فضل الله يؤتيه من يشاء : ﴿ لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم إنه عزيز حكيم ﴾ .

    <!--cached-Sat, 06 Jun 2015 11:55:34 +0000-->

[3] بعض خصائص النبى


    أى لسان مهما بلغت فصاحته وأى قلم مهما جرى مداده يستطيع أن يلم بالخصائص التى حبا الله بها النبى  وفضله بها على خلقه أجمعين وجعله بها المفرد العلم والواحد فى الأمم ولكننا نذكر بعض تلك تامواهب الربانية والمنح الرحمنية تلذذا بذكرها وتذكيرا للناس بها على حد قول صاحب الهمزية :
    فتنزه فى ذاته ومعانيه إستماعا إن عز منه إجتلاء
    وإملأ السمع من محاسن يمليــها عليك الإنشاد والإنشاء
    الخصوصية الأولى
    شرف النسب وذكاء الأصل فقد إختص الله نبيه  من ذلك بما لم يختص به احدا من خلقه فلم تزل يد العناية الربانية تختار له الآباء والأمهات وتنقله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات لم يصبه شىء من سفاح الجاهلية ولم يفترق الناس فرقتين إلا كان فى خيرهم فرقة حتى أفضى إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب أزكى قريش نفسا وأوسطهم دارا وحسبا ومنه إلى آمنة بنت وهب أطهر فتيات قومها وأشرفهن موضعا وفى ذلك يقول  : " إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خيرهم من خير قرنهم ثم تخير القبائل فجعلنى من خير قبيلة ثم تخير البيوت فجعلنى من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا " وفى حديث عن ابن عمر رواه الطبرى أنه  قال : " إن الله عز وجل إختار خلقه فإختار منهم بنى آدم ثم إختار بنى آدم فإختار منهم العرب ثم إختار العرب فإختار منهم قريشا ثم إختار قريشا فإختار منهم بنى هاشم ثم إختار بنى هاشم فإختارنى منهم فلم أزل خيارا من خيار " وفى ذلك قول عمه أبى طالب :
    إذا إجتمعت يوما قريش لمعشر فعبد مناف سرها وصميمها
    وإن حصلت أنساب عبد منافها ففى هاشم أشرافها وقديمها
    وإن فخرت يوما فإن محمدا هو المصطفى من سرها وكريمها

    فهو  سر السر وصفوة الصفوة ونخبة الأخيـار الأطهار ولسنا نذكر ذلك فخرا بنسـب ولا إعتزازا بحسب , وقد نهى الإسلام عن الفخر بالأنساب وجعل قيمة كل إمرىء ما يحسنه ولكننا ننبه بذلك إلى مقتضى قانون الوراثة الذى يشايعه جمهور علماء النفس الآن ومنه تعلم أن النبى  قد ورث عن آبائه الغر الميامين خلاصة الكمالات وصفوة الأخلاق الفاضلة التى أراد الله أن يحبو بها النوع البشرى فلا عجب إذن أن يكون  أكمل الناس خَلقا وخُلقا ولا سيما إذا لاحظت مع هذا ناموس الإنتخاب الطبيعى وما يترتب عليه من ترقى النوع وكماله فلا تشك بعد ذلك فى أن ذروة الكمال الإنسانى وغاية الإرتقاء فى النوع البشرى قد إنتهى إلى رسول الله  , فهذا هو ما أردنا أن نلفتك إليه .

    الخصوصية الثانية
    عموم بعثته  حتى شملت الخلق جميعا فهو صلى الله عليه وسلم نبى لمن قبله من الأنبياء بالقوة لا بالفعل إذ أخذ الله عليهم العهد لئن بعث فيهم محمد  ليؤمنن به وليتبعنه فذلك قول الله تعالى فى سورة آل عمران : ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى , قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ , وفيه قول النبى صلى الله عليه وسلم : " والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا إتباعى " .
    وهو صلى الله عليه وسلم نبى الثقلين الإنس والجن , فذلك قول الله تعالى : ﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين ﴾ الآيات , وقوله تعالى : ﴿ قل أوحى إلىّ أنه إستمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ﴾ الآيات , وقد ثبت من حديث ابن مسعود  أنه  اجتمع بالجن , وأخذ يعلمهم أحكام الدين .
    وهو  بعد هذا نبى العالم كله قد جعل الله بعثته عامة للناس جميعا عربهم وعجمهم أسودهم وأحمرهم فذلك قول الله تعالى : ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيسرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
    ولا تستغرب هذا فإن ذلك هو ما يقتضيه نظام الخليقة وتدعو إليه سنة الله فى الكون وها أنت تسمع أن الجو قد هيىء لوحدة العالم وإتصاله , وما هذا التقدم فى طرق المواصلات وتبادل الأفكار والثقافات وإمتزاج النظم والعادات وإندماج الدول بعضها ببعض إلى آخر ما تسمع من هذا الباب إلا إرهاص بهذه النتيجة وهى وحدة العالم فهل يعد بدعا أن يبعث الله نبيه  بدين واحد ولغة واحدة يجتمع عليه العالم وتتوحد بهما الإنسانية أم أن هذا هو مقتضى سنة الله فى العصر ما قدمت لك .
    الخصوصية الثالثة
    ختام دينه لكل الأديان ونبوته لكل النبوات وذلك قول الله تبارك وتعالى ﴿ ما كان محمد أبا أحدا من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ﴾ وقد ورد هذا المعنى فى كثير من الأحاديث منها قوله  : " لا نبى بعدى " كما أشار بعضها إلا أنه سيكون فى الأمة ثلاثون كذابا إلا أنه لا نبى بعد محمد  .
    وذلك ما تقتضيه سنة الله فى الكون وإن تقدم البشرية وتدرج العقل الإنسانى فى الرقى من لدن آدم إلى سيدنا محمد  كل ذلك جعله يبلغ أشده ويصل إلى درجة من الدربة والمران والكمال الفكرى تسمح له بأن يستقل بمعالجة شئونه طبق الأصول التى يرشده إليها الله تبارك وتعالى , فجاءه الإسلام بهذه الأصول وفتح أمامه باب البحث والنظر وحثه على الإستزادة من العلم والمعرفة وجعل المجتهد إن أخطأ فله أجر واحد وإن أصاب فله أجران كا ذلك تشجيع للعاملين وحث الناس على التفكير والبحث فلا داعى إذن لنبوة أخرى أو رسالة بعد رسالة النبى  ولعلك بعد هذا فهمت سر بقاء القرءان وجعله المعجزة الخالدة الباقية محفوظا إلى يوم القيامة ﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ﴾ .
    وبعد ..فهذا شعاع من نور شمس الخصائص النبوية يكاد شعاع برقه يذهب بالأبصار، وكل حياته خصائص وهبات اختصه الله تبارك وتعالى بها فلا يقال فيها ولا لِـمَ ؟..بل ذاك فضل الله يؤتيه لمن يشاء جل الله واهب المنن

[4] وظائف النبوة

    ﴿يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا , وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ﴾ تلك هى بعض وظائف النبوة التى أراد الله تبارك وتعالى أن يعلمها الناس عن نبيه سيدنا محمد بعد أن خاطبه بأحب الأسماء وأفضل الألقاب عنده فقال تعالى : ﴿ يا أيها النبى ﴾ , وفى هاتين الكلمتين الشريفتين مجتمع الفضائل والكمالات وبرهان الصدق والحقيقة .
    وبعد أن بين للناس أنه رسوله الأمين على وحيه لم يتقول على ربه ولم يأت بشىء من عنده فقال تعالى : ﴿ إنا أرسلناك ﴾ .
    فالوظيفة الأولى الشهادة , فهو شاهد لربه عارف إياه إلى أقصى حدود المعرفة , أجازها الله لعباده كما قال فيما يرويه البخارى " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " , وهو شاهد بربه يثبت للناس بالآيات الساطعة والبراهين القاطعة صفاته ووحدانيته ويعلمهم أحكام دينهم ويحدد لهم الصلة بينهم وبينه كما قال تعالى : ﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد , الله الذى له ما فى السموات والأرض ﴾ .
    وهو شاهد على أمته يراقب احوالهم ويستطلع شئونهم , ويشجع محسنهم , ويرد من أنبائها وأطلعه عليه من شئونها وذلك قول الله تعالى ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ .
    والوظيفة الثانية التبشير بجمال الفضائل والحق ووصف طريق السعادة وراحة البال وإطمئنان النفس للناس وفتح باب الأمل الواسع الفسيح الصادق فى رعاية الله ومعونته لهم فى الدنيا وثوابه ونعيمه فى الآخرة وأية راحة تطلبها النفس الإنسانية وتدخل عليها البشرى والسعادة والسرور أكثر من أن تعتقد أن لها نصيرا فى هذه الحياة الدنيا مثيبا فى العقبى ﴿ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ﴾ .
    والوظيفة الثالثة الإنذار والتخويف من مهالك الرذيلة ومضارها وتحذير الناس من عواقبها وآثارها وما تلك النتائج إلا شقاء الدنيا والبؤس فيها وشقاء الآخرة وغضب الله تعالى وأية صورة تحذرها النفس وتخافها أفظع من أن يعيش الإنسان فى الدنيا مضطرب البال قلق النفس ثم يرد فى الآخرة إلى عذاب أليم كما قال الله تعالى : ﴿ فأنذرتكم نارا تلظى لايصلاها إلا الأشقى الذى كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذى يؤتى ماله يتزكى ﴾ .
    والوظيفة الرابعة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وكشف النقاب عن جمال المعرفة ولذة الوصول إلى قدس الحقيقة وسعادة التعرف إلى الله تبارك وتعالى حيث الكمال الروحى والرقى النفسى واللذة التى يقول فيها بعض السلف :نحن في لذة لو عرفها ملوك الدنيا لقاتلونا عليها بالسيوف , ويقول الآخر :
    أيا صاحبى قف بى مع الحق وقفة
    أموت بها وجدا وأحيا بها وجدا
    وقل لملوك الأرض تجهد جهدها
    فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى

    وإلى ذلك الإشارة بقوله تبارك وتعالى ﴿ ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين , ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إنى لكم منه نذير مبين ﴾ .
    والوظيفة الخامسة الإرشاد والهداية فهو  السراج المنير يهتدى بهديه السائرون ويسير بنوره الحائرون وفى التعبير بالسراج إشارة إلى أن النبى  مصدر نور ذاتى يشع على الخلق فلا يخبو أبدا فأين النور من السراج ؟ .
    وقد تضمنت هذه الآية الكريمة كل شرائط الدعوة الصادقة فلابد أن يكون الداعى عالما بدعوته ولابد أن يعتمد فيها على الترغيب والترهيب والتبشير والإنذار ولابد أن تكون لله خالصة لا تشوبها شائبة وللخير المحض , ولابد أن يكون فيها قدوة يهتدى بهديه ويسير أتباعه على غراره وقد جمع ذلك كله للرسول  على أكمل مثال وفى طى هذه الآيات لطائف يصل إلى إدراكها من أزهر مصباح الهوى فى قلبه وأشرق النور من سراج النبوة على فؤاده .           <!--cached-Sat, 06 Jun 2015 11:55:34 +0000-->

[5] يوم العـــالم

    كان فضل الله على رسوله سيدنا محمد  عظيما وكان فضل رسول الله  على العالمين عظيما ولو كان رسول الله  نبيا لأمة من الأمم لكان على هذه الأمة وحدها أن تجد يوم مولده روعة الذكرى ولذة عرفان الجميل ولكنه رسول الله إلى الأمم قاطبة وبعثته  شاملة كاملة فذلك قول الله تبارك وتعالى فى سورة سبأ ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ فهو  نبى الأمم ورسول الشعوب جميعا بل أن رسالته  شملت من تقدمه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وأحاطت بمن تأخر عنه من الأمم فلقد أخذ الله له العهد والميثاق على أنبيائه ورسله أن بعث فيهم ليؤمنن به وليكونن من نصرائه وليؤيدن دعوته فذلك قول الله تبارك وتعالى فى سورة آل عمران ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ فهو  بذلك نبى المتقدمين والمتأخرين .
    ولو كانت بعثته  وهدايته قاصرة على المتقدمين والمتأخرين من هذا الجنس البشرى لكان هذا الواجب الروحى فى عنق بنى الإنسان جميعا بيد أنه  مع هذا رسول الله إلى ذلك الجنس اللامادى الذى حكى عنه أنه استمع من رسول الله القرءان فتأدب لسماعه وفهم مرماه وآمن به وبشر قومه وكان فى ذلك خيرا من كثير من الأناسى فذلك قول الله تبارك وتعالى فى سورة الأحقاف ﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى أهلهم منذرين قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء اولئك فى ضلال مبين ﴾ .
    أفلا ترى هؤلاء وقد سمعوا الذكر فتأدبوا فى حضرته وتفقهوا فى غايته ثم إنطلقوا يدعون قومهم إلى الإيمان بداعى الله والتسليم لرسول الله  وينذرونهم أنهم إن لم يفعلوا فلن يعجزوا الله فى الأرض وسينتقم الله منهم ويكونون فى ضلال مبين وإذن فهذا الواجب الروحى ليس قاصرا على هذا الجنس البشرى بل هو واجب على الثقلين وقد إستضاء كلاهما بنور هدايته وروى من معين رسالته  .
    وليس هو  خفى المنزلة على غير من آمن به من الكائنات أو مجهول المقام عند غير الثقلين من المحلوقات بل إن ذكره  فى الملأ الأعلى اشرف وأسنى من ذكره فى هذا الملأ الأدنى ةلقد شرفت عوالم الملكوت بزيارته كما شرفت عوالم الملك بإقامته وفى القرءان شاهد ذلك وفى السنة دليله وإقرا إن شئت قول الله تبارك وتعالى ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذى له ملك السموات وما فى الأرض ﴾ مع قوله تعالى ﴿ سبحان الذى أسرى بعبد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذة باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير ﴾ ولأمر ما قال الحق تبارك وتعالى ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ . وإذن فهذا الواجب الروحى واجب على الكون كله , أرضه وسمائه وإنسه وجنه إذ كانت رسالته  هدى وبركة وخير ويمن ورحمة للعالمين .
    ولو كان بعد رسول الله  رسول لكان للمقصرين شبه عذر فى التراخى عن إحياء هذه الذكريات فى نفوسهم أما ورسول الله  خاتم النبيين وآخر المرسلين انتهى الوحى إليه وختمت النبوة برسالته فذكرياته  نبراس المهتدين ودليل السارين انتهت إليها الهداية ووقف عندها الإرشاد فلا محيص عنها لسواها ولا معدل إلى غيرها والله تبارك وتعالى يقول ﴿ ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ﴾ .
    لقد علمنا رسول الله ﴿ أن نقول الحق للحق وأن تخالط قلوبنا بشاشة الإيمان وأن ندع الناس حتى يروا من آيات الله ما يحملهم على التسليم والإذعان .
    وقد عرفنا من فضل رسول الله  ما هو فوق مستوى العبارات والأفاظ وإن قوما ممن حصروا أنفسهم فى حدود البحث الضيق وجمدوا على هذا الحصر فلا يرون منه مخرجا قد يرون ما نقول تصدير كاتب أو عاطفة محب متعال فيمن يحب فليعلم إخواننا أننا نعنى ما نقول ونعتقد أن ما نكتب حقيقة ماثلة لا خيالا مفروضا ولا تصويرا مبتكرا ولو شئنا أن نقول لهم إن ما علمتم من علوم هذا العصر إن نؤيد ما ذهبنا إليه وتدعم ما أوردناه لقلنا وأفضنا فى ذلك وليس فى الأمر مستغرب ولذلك مقام آخر ولكل مقام مقال ولم يطو بعد بساط البحث وستظل الأقلام تكتب وتشتحر والألسنة تقول وتتخلل وعظمة رسول الله  على ما هى عليه سر محجب وكنز مغيب لم تصل إلى كنهها كتب الكاتبين ولم تستطع تصوير حقيقتها ألسنة القائلين , ولعمر أبيك إنها العظمة التى أمدها الله بفيضه وخلع عليها من نهمته وفضله وامتن على صاحبها بقوله ﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ تقصر دونها عظمة المظماء وتنحسر أمامها مراتب الملوك والأمراء .
    رتب تسقط الأمانى حسرى دونها ما وراءهن وراء
    فأنّى للقام أن يحيط بفيض لا ينتهى مدده وأنّى للقول أن يلم بمدى لا يدرك أمده وأنّى للعقول أن تتطاول إلى إدراك معنى جعله الله أسمى من متناول العقول والأفهام وأنّى للزمن أن ينال من خلود أراد الحق أن يكون أبقى من السنين والأعوام .
    أيها المسلمون : أذكروا عظمة رسول الله  فى يوم مولده وفى كل وقت واستمدوا من هذه الذكرى روح العظمة الصحيحة والعزة القويمة وأذكروا بأنكم بخير أمة توصفون وإلى أفضل نبى تنتسبون فلا تستنيموا إلى مذلة ولا تركنوا إلى هوان ودعوا هذه المنازل الصغيرة التى لا تدل على غير العبث والمجون واللهو والفضول والغفلة والصغار فى يوم شرف العالم فيه بظهور أسمى رمز للعزة والفخار وبمولد رسول الله  

[6] ذكرى مولد رسول الله


    الحمد لله الذى أنار الوجود بطلعة أبى القاسم , وشرفه بأفضل المواهب وأجزل المكارم وبعثه هاديا للأمم وسراجا فى الظُلَم ورحمة للعالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله وحبيبه وصفيه اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداهم إلى يوم الدين .
    أما بعد ... فيا أمة سيدنا محمد  قبل مبعث نبيكم  تغشت العالم كله سحابة من الظلم والفساد والفسوق والإلحاد إختل فيها ميزان العدل وإختفى معها وجه الحق وضل الناس طريق الهدى والرشاد , ففى العرب على كرم أخلاقهم وشريف نفوسهم , وقويم طباعهم وسلامة فطرتهم , جهل وغلظة وجفوة وقسوة , وشرك بالله وإنغماس فى حمأة الشقاق والخلاف , وفى الفرس والروم وغيرهما من دول الأرض ظلم وإستبداد وقسوة وإستعباد وتسلط من القوى على الضعيف وإنتهاك لحرمات الشرائع والآداب فكان لابد لهذا العالم الموبوء ولهذه البشرية المعذبة والإنسانية الباكية والفضيلة المستذلة من منقذ يقيم ميزان العدل ويخفى دولة الظلم ويحق الحق ويبطل الباطل ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض .
    وقد أراد الله تبارك وتعالى أن يكون هذا المنقذ الكريم والمصلح العظيم صفوته من خلقه وخيرته من عباده سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم  وعلى آله وصحبه .
    لم تزل فى ضمائر الكون تختار له الأمهات والآباء , إختار الله من خلقه بنى آدم وإختار من بنى آدم العرب وإختار من العرب قريش وإختار من قريش بنى هاشم وإختاره  من بنى هاشم فهو خيار من خيار وأنت إذا فحصت عن طبائع الأمم وسألت تاريخ الجماعات عن هذا الحكم رأيت البحث العلمى والتحليل النفسى يؤيد لك هذا الخبر النقلى ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ .
    ولم يزل نوره الساطع  يتنقل من أصلاب الطاهرين إلى ارحام الطاهرات عن زوراج شرعى لا عن سفاح حتى إنتهى ذلك الشرف إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب أزكى قريش أصلا وأنماها فرعا وأوسطها دارا وأطهرها منبتا وإلى أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم وهى سيدة نساء قومها وأشرفهن موضعا وأعفهن نفسا , وفكان عن إجتماع الكريمين وزواج السيدين أن تحققت إرادة الله فى إسعاد العالم وإشراق شمس الهداية والعرفان فى سماء مكة المكرمة حتى ملأت أشعتها كل مكان فحملت به  وتوفى والده وهو حمل لا تجد له أمه وجعا ولا ألما ولا تستشعر منه أذى ولا وحما وما زالت تتوالى الإرهاصات وتتتابع البشارات وتظهر العلامات حتى كانت الليلة الكريمة فولد  يشرق وجهه بنور العرفان وتتجلى على قسمات وجهه الشريف سمات النبوة والإيمان ويعتقد من نظر إليه أنه رسول هذا الزمان , فإزدان الكون بطلعته واستبشر الوجود برؤيته واستنارت السموات والأرضون بظهوره وتوالت بشرى الهواتف أن قد ولد المصطفى وحق الهناء .
    وشب  ونشأ فكان مثال الكمالات وأنموذج الفضائل وتزوج بالسيدة خديجة وسنه خمس وعشرون سنة لما رأته عليه من كريم الشمائل واشتهر بين عشيرته بالصدق والأمانة والعقل والرزانة ومازال كذلك حتى جاء الحين واستكمل الأربعين فشرفه ربه بالنبوة ثم الرسالة إلى الخلق أجمعين ونزل عليه الملك وهو يتعبد فى غار حراء بقوله تعالى : ﴿ إقرأ باسم ربك الذى خلق , خلق الإنسان من علق , إقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم , علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ ثم فتر عنه الوحى ثم تتابع ونزلت ﴿ يا أيها المدثر , قم فأنذر ﴾ فنهض بالدعوة وحمل عبء الرسالة وأدى الأمانة وبلغ ما أنزل إليه من ربه وقام يدعو إلى مولاه وينشر على الناس دينه حجته القرءان ودليله البرهان وعدته الإيمان , وما زال  يكافح ويناضل ويجادل طورا بالشدة وأخرى باللين ويتحمل من الأسى ما تنوء بحمله الجبال ويدعو للمعتدين حتى أظهر الله كلمته وأتم نعمته وأكمل دينه ودخل الناس فى دين الله أفواجا وإختار النبى  الرفيق الأعلى بعد أن ادى مهمته وأوضع شرعته وترك من ورائه من يحمون دعوته جزاه الله أفضل ما جزى به نبيا عن امته ورضى الله عن صحابته .
    يا عباد الله ... ذلك مجمل سيرة نبيكم  كلها هدى ونور وعظة وإعتبار وتمسك بحبل الله المتين ودفاع عن دينه المبين ومناصرة الحق وخذلان الباطل , فيها القدوة الحسنة والعظة البالغة والعلم النافع والمثل الصالح فتعلموها وعلموها أبناءكم وأحيوا ذكرى مولد نبيكم  بدراسة حياته وتفهم خطته وإحياء سنته , أما الرياء والتفاخر والتكاثر والتظاهر وضياع المال فى غير فائدة , وإنفاق الأوقات من غير جدوى , والإشتغال بالمقابلات والحفلات عن الفروض والواجبات , والفخر بإطعام الأصدقاء والأغنياء ونسيان المستحقين والفقراء وإقامة هذه المظاهر التى يأباها الدين وتجعلنا مضغة فى أفواه الناظرين , فهذه كلها ليست إلا منكرات تؤاخذون بها وتحاسبون عليها ويتالم لها النبى الكريم .
    فإتقوا الله عباد الله , وإنتهزوا فرصة هذا الوقت الفاضل وجددوا التوبة النصوح وتذكروا سيرة نبيكم لتعملوا بها وتهتدوا بهديها .
    ﴿ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾ .
    فى حديث على كرم الله وجهه وقد سأله الحسين عن سيرة جده  فى جلسائه , فقال : " كان رسول الله  دائم البشر , سهل الخلق , لين الجانب , ليس بفظ ولا سخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤبس منه , قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء , والإكثار , وما لا يعنيه , وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يطلب عورته ولا يتكلم إلا شيئا يرجو ثوابه " .

[7] الإحتفال بالمولد النبوى الكريم

  •  


  • يدور الفلك دورته ويشرق وجه الكون بذكرى اليوم الذى شرق قيه العالم كله بطلعة سيدنا محمد  فتخفق قلوب الأمة المحمدية فرحا وسرورا وتهتز جوانحهم بالعواطف الكمينة من حب النبي وإجلاله وإعظامه والحنين إلى ذكرياته والشوق إلى رؤيته والاعتراف بفضله على الإنسانية جميعا .
    ويقول بعض الناس إن الاحتفال بذكرى المولد بدعة لأنه حدث فى الدين لم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه من بعده .
    ويقول البعض الآخر هو أمر واجب لأنه دليل الحب والإعظام والتعلق بذات الرسول  وذلك كله واجب على المسلمين .
    وإذا أردنا أن نبين وجه الحق فى هذا الحكم ، فعلينا أن نتذكر الدافع الذى دفع المحتفل إلى احتفاله والمظهر الذي أعرب به عن شعوره فإن كان الذي حدا به إلى الاحتفال هو الحب والتعظيم وكانت مظاهر الاحتفال درس علم ينتفع به أو صدقة تعود على فقير أو عبادة خالصة لوجه الله تعالى أو نحو ذلك مما يجيزه الشرع ويحصل به ثواب الله تعالى , فالاحتفال حينئذ قربة إلى الله تعالى , وقد يستدل له بما ورد من أن أبا لهب يخفف عنه العذاب بعض التخفيف لسروره ببشرى مولد النبي  حين حملته له جاريته ثويبة فأعتقها , وأما أنه لم يقع فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه فهو لأن مظاهر الحياة فى عهدهم كانت على حالة من البساطة تجعلهم لا يفكرون فى شئ من هذه المظاهر ، وحسب أحدهم أن يظهر شعوره بكلمة يقولها أو بعاطفة تتردد بين حناياه ومتى كان الدافع شرعيا والعمل الذى ترتب عليه ليس فيه ما ينكره الدين فلا وجه للقول بالمنع حينئذ .
    وإن كان الذى حدا بالمحتفل إلى عمله عادة ورثها عن أبيه وقومه أو ولعا بالفخر والظهور ليتحدث الناس بعمله وكانت مظاهر حفله لا تتفق مع ما شرع الله تبارك وتعالى لعباده ولا تخرج عن اللهو والعبث والطبل والزمر والصريخ فى غير طائل والاشتغال بهذا الحفل حتى عن الفرائض وضياع الأوقات فى غير فائدة وحشد الناس فى صعيد واحد يختلط فيه النساء بالرجال وتكثر فيه الموبقات والمناهك وتنتهك حرمات الله تبارك وتعالى فلا ترى إلا غفلة مستحكمة وسخرية مخزية ومناظر يندى لها جبين الإنسانية ويتقطع فؤاد المسلم حسرة وأسفا ويبرأ منها الإسلام ، فهذا حفل منكر وإثم كبير على صاحبه والمشارك فيه وهو أشد ما يؤلم النبى  ويؤذيه .
    فليلاحظ المسلمون هذا وليجعلوا احتفالهم بذكرى مولد النبى  كل عام تفهما لسيرته وتعلما لأخلاقه وتعرفا لسنته  وتواصيا فيما بينهم بالحق والصبر إقتداء به  وبأصحابه , ﴿ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾ .
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 105 مشاهدة

عدد زيارات الموقع

955