قد لا يكون خطر ببال الكاتب فرانز كافكا بان شخصياته الروائية الخيالية لها وجود في الواقع , فهي كائنات تعيش بيننا وليست بعفاريت ولا اشباح كما قد يتوهم البعض ,خاصيتها انها مفترسة تعيث في الارض فسادا ,بل هي تماسيح ادمية مهجنة ومستنسخة , ترتدي البذلة وربطة العنق وتضع على اعينها نظارات سوداء سواد قلوبها , تمتص الدماء كخفافيش الظلام وتقتات من عرق البؤساء والمستضعفين ولا تشعر بوخز الضمير ولا تخشى في سعيها هذا لومة لائم , غايتها في الحياة نفخ الجيوب وملء البطون فلا وازع ديني او اخلاقي يهديها ولا ضمير يؤنبها , لأنها كائنات بلا روح , وكل من حاول الوقوف في طريقها او المس بمصالحها مفقود , مفقود ,مفقود ...
احيانا يجد المرء نفسه في مواجهة مثل هكذا كائنات , لم يخطر بذهنه يوما ان يلتقي بها ولو عن طريق الصدفة , لكن دروب الحياة تحمل المفاجئات لكل من يسبر اغوارها , ومن يركب الفلك لا يأبه لتلاطم الامواج وهبوب الرياح العاتية , فقد تتحطم اماله على الصخر في غفلة منه .
والحياة العملية مختبر حقيقي يستكمل فيه الانسان تكوينه النظري ويغنيه بالتجارب والعبر . يصادف المرء في مساره المهني اشخاصا طيبين ذوي اخلاق عالية وسلوك نموذجي فهم كالوردة وسط الاشواك او الشمعة في مهب الريح , لم تؤثر فيهم المغريات ولم يصابوا بفيروس الكبر وهذيان عظمة السلطة والجاه ,فهم رسل المحبة والصدق والوفاء , ستسجل اسماءهم بمداد من ذهب في قائمة المخلصين النزهاء , فتحية لمثل هؤلاء الذين يشبهون المعادن النفيسة التي تمكث في الارض فيستفيد منها الناس جميعا ," فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال " 17 سورة الرعد . فطوبى للشرفاء من ابناء بلدي .
وفي مقابل هاته الفئة المتحررة من الظلم والحقد والضغينة وضعف النفس , هناك فئة اخرى ذات نفس امارة بالسوء و موسومة بطبائع شائنة تلطخ كرامتهم وتجعلها تنحدر الى ادنى المستويات وأحطها .
تحتاج هاته النماذج البشرية لتحليل نفسي دقيق يضعها على طاولة المشرحة ليفك رموزها المعقدة التي تستعصي على الفهم ولا يمكن اخضاع تصرفاتها للمنطق ولا للعقل , لأنها كائنات رائحتها نتنة وتزحف على بطونها ولها مخالب طويلة , وتنفث السم من افواهها على شاكلة شخصيات روايات كافكا الغريبة الاطوار , فالتحول و المسخ هو مصيرها الحتمي , حين تزول عنها حالة التخدير التي تسري في عروقها والتي تجعلها خارج التغطية ولو الى حين , و كأنها في مأمن من كل ملاحقة او متابعة .
امثلة هاته المخلوقات الغرائبية يجسدها شخص ليس ككل الاشخاص , انه كائن كاللبلاب الذي يلتف حول الاشجار ليتسلق " على ظهرها " الى الاعلى , فالوصولية بالنسبة اليه غاية في حد ذاتها تبرر كافة الوسائل حتى تلك التي تتعارض مع منظومة القيم,و لم تخطر بذهن ميكيافليي وهو يخط كتابه " الامير " .
صاحبنا بدا مشواره كجميع الخريجين مزهوا بنفسه وله طموح بالوصول الى غايته , غير مؤمن بمقولة " من سار على الدرب وصل", بل مجتهدا في البحث عن سبل الوصول وعن اقصر الطرق , ومن هنا بدأت خطوة الميل لحرق المراحل , وطي المسافات وتحطيم الارقام ألقياسية , و لا يهم ان يكون للمنشطات دورا في هذا الانجاز الميكيافلي العظيم .
بدا عمله مرؤوسا تفنن في الانبطاح ومسح الاحذية وتهيئ كؤوس الشاي المنعنع , ونقل كل كبيرة او صغيرة من شانها تعزيز مكانته لدى رؤسائه , كما انه لم ينس ان في الحياة العملية لا وجود لصداقات دائمة ولا لعداوات ظاهرة , فالمكر والخديعة والنفاق وغيرها من الاساليب الانتهازية هي بمثابة الملح للطعام , لذلك لم يكن يتردد في زيادة بعض الجرعات من اجل اطباق شهية .
انتقل بعد ذلك لحشر انفه في بعض الشؤون الخاصة والعامة , ولم يترك اية فرصة إلا وركب عليها لتزيين صفحاته السوداء بتدبيج تقارير يأتيها الباطل من جميع الجهات , إلا انها اتت اكلها فقطف ثمارها وعنبها ورمانها , وواصل التسلق تماما كاللبلاب مقتنصا الفرص بمزيد من الانحناء والركوع وكل ما لا يجوز ذكره استحياء ا. فكم جثة داستها اقدامه او ركب عليها للوصول ؟ لا يهم ما دامت الغاية تبرر الوسيلة كما سبق .
فمن درجة الى درجة اعلى , ومن منصب لأخر حتى صار هو الامر الناهي , المتحكم في شؤون البلاد والعباد والأمين على المال , فسارت بذكره السيئ الركبان , وأصبح مضرب الامثال في التبذير وسوء التسيير , وأحاط نفسه بعصابة من المضاربين ومصاصي الدماء من المقاولين و رجال الاعمال القذرة ومسيري الشأن المحلي و العام , يجمعهم هدف الاغتناء غير المشروع , فبأس المسار وبأس مسعى
ممتهني الحكامة الفاسدة , والساكتين عن الحق .
ومع هبوب نسائم الربيع العربي الذي حرك البرك الاسنة , خرج الشعب المغربي مطالبا برحيل المفسدين , ونال صاحبنا نصيبه من التقريع والتجريح ورفعت في وجهه البطاقة الحمراء , فكلمة " ارحل " ,شنفت سمعه خلال المسيرات والتظاهرات التي كانت تنظم بمدن المملكة والتي مهدت الطريق لميلاد لإصلاحات دستورية كبرى بعد الخطاب الملكي السامي لشهر مارس 2011 , وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة افرزت نتائجها فوزا نسبيا لحزب العدالة والتنمية , الذي يقود حاليا الائتلاف الحكومي المطالب بتنزيل مقتضيات الدستور و القطع مع التصرفات اللاقانونية السائدة في كثير من المرافق الادارية التي تحولت الى ضيعات لبعض المحظوظين من ذوي النفوذ والمستفيدين من اقتصاد الريع وأساليب المحسوبية والزبونية التي لا تسمح بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب والأمثلة متعددة قد نأتي على ذكر بعضها في محطات قادمة ان شاء الله .
وكل تشابه في الوقائع والأحداث قد يكون من وحي الخيال الخصب لصاحبه او لشعوره بعقدة ذنب ما ارتكبه عن قصد وسبق اسرار او بحسن نية , فلا مجال للإسقاطات الغير مجدية درءا لكل التباس او خلط بين الحق والباطل , فالحلال بين والحرام بين , وقد اعذر من انذر ...
ساحة النقاش